إن المشكلة الثقافية ظلت وستبقى المسيطر الأبرز على العقل اللاواعي لدى السياسي السـوداني، وتعيد لنا سؤالا مهما وجوهريا، سؤالا أعتقد أنه جوهر الأزمات السياسية السودانية، وإن لم نبحث له عن أجوبة، فلن نجد حلا للقضايا، وهو: لماذا لم تنصهر الثقافات السودانية في بوتقة واحدة تشكل السـودان الكبيـر؟

إن منظومة الأحزاب القائمة الآن ليس لديها تصور واضح لحل قضية الثقافة، وكل سعيها هو حول السياسة، والسياسة الربحية الآنية فقط، التي يكسب من ورائها الحزب كسبا ماديا أو سلطويا، ولا تهمها التصورات الكلية للحكم والإدارة.

إن المنظومات التي حملت السلاح في وجه السلطة الحاكمة الحالية أو الإدارات السابقة كانت دوافعها ثقافية، لأنهم كانوا يرون أن هناك تمييزا بين أبناء الوطن، أقول دوافع ثقافية حتى وإن لم يعبروا عنها الآن، أو سابقا، أو من خلال خطاباتهم الجماهيرية، وحتى لو لم يتيحوا لهذه الدوافع أن تكون حاضرة بينهم في المفاوضات التي أجريت سابقا، أو تلك التي مازالت تراوح مكانها.

لا أحد من النخبة السياسية السودانية ينكر أن الحرب التي دارت بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة السودانية، والتي أدت بدورها إلى انفصال جنوب السودان، كانت في جوهرها تنطلق من صراع ثقافي في المقام الأول.

ثم الحروب التالية التي نشبت في السودان من قضية الشرق إلى قضية دارفور، جميعها تحمل نفس بذور الأزمة السابقة التي فصلت الجنوب أو جزءا منها، وهي المشكِّـل الثقافي.

لكن عندما نعود لخطابات زعامات هذه الحركات المسلحة لا نجد أي تمثيل للقضية الثقافية، أو بمعنى أوضح ليس لدى هذه الحركات المسلحة أي رؤية لكيفية معالجة هذه القضية نفسها، والتي كانت المحرك الأساسي لها، ولم يقولوا لنا كيف سنحل هذه القضية المعقدة والمتراكمة، بل تجدهم يفرطون في طرح القضايا السياسية، مثل كيفية المشاركة في الحكم، أو عملية دمج المسلحين في المجتمع، وهذه كلها أعتقد أنها قضايا انصرافية، وكأنها هي المشكلة الأساسية في الصراع.

النخبة السودانية فشلت في إدارة الملف الثقافي، وهنا أعني النخبة التي حكمت، وحتى تلك التي كانت تنـظر للجهة الحاكمة.

تجد أن الفشل يلازم كلا الجهتين، الحاكمة والمعارضة، في عملية الرؤية الثقافية، فكلاهما ليس لديه أي تصور لتجاوز هذه المعضلة.

إذا عدنا لنسقط فشل النخبة السياسية تجد أن الحاكمة منها لا تبالي بالثقافة، بل لا تعدو ذات أهمية بالنسبة لها، وأن الوزارة التي أنشئت لإدارة هذا الملف من الدولة، وهي الجهة التي كان ينبغي أن تعمل لأجل صهر هذه الثقافات في بوتقة واحدة، وهي السودان، وهي الجهة الوحيدة من الدولة المنوط بها الاهتمام بهذا المجال ويضفى عليها جانب المسئولية والرسمية، أصبحت وزارة للترضيات فقط، أي تمنح بعض الجهات التي يرى أنها غير راضية عن الحكم، والتي تطمح للسلطة فقط، ولا يهمها جانب التطوير.

أما المعارضة التي تعري الحكومة، بل تلك التي رفعت السلاح بذات الدوافع، ومن أجل المساواة، تجد نفسها أيضا في مواجهة بذات الحدة التي ووجهت بها ذات يوم، وأقرب مثال إلينا هو جنوب السودان، حيث ظلت الحركة الشعبية تحارب في السودان لربع قرن، وكانت ترفع شعار الاضطهاد من قبل الشمال، هي الآن في نفس المنعطف، منعطف الاضطهاد للآخر، وهذا يعني أن النخب السودانية جنوبا أو شمالا ليس لديها تصور واضح لكيفية إدارة الملف الثقافي، وأن السياسيين كل برامجهم برامج شعاراتية لا غير، من اليسار، مرورا بالوسط إلى اليمين، ويستخدمون هذه المظالم فقط للتعبئة السياسية.

الذين يروجون لمقولة إن المجتمع كان متعايشا، ولا يوجد هذا الصراع الثقافي، كلامهم سياسي فقط، يستخدمه الساسة للتغطية على فشلهم في إدارة التنوع، يوهمون المواطن بهذا الكلام المنمق، الذي وراءه كسب سياسي مرحلي.

إن المشاكل الثقافية كانت موجودة وعميقة، أما أنها ظهرت متأخرة فهذا لا ينفي حقيقة وجودها، وغيابها كان فقط لغياب الوعي، وبالأخص الوعي السياسي، ولا يستطيع شخص غير واعٍ بقضاياه أن يعبّر عنها، وازدياد نسبة الوعي السياسي والمعرفي دفع بهذه القضايا إلى السطح.

وبما أن الوعي السياسي قد يقود الأشخاص لطرح قضايا مجتمعية، لكن ذات الوعي قد يستغل القضايا الثقافية لأجل منفعة شخصية، وهذا ما حدث بالفعل.

إن قضية الثقافة قضية مهمة، وذات أبعاد متشعبة، ويمكن أن تكون بركانا ساكنا في كل مجتمع، وطرحها مؤخرا في الحوار الوطني ونقاشها في قضية الهوية يعني أن هناك إحساسا ووعيا بهذه القضية، وهذا أيضا اعتراف ضمني من هذه النخب المتنكرة بالمشكل الثقافي.

يجب أن نفتح هذا الملف بكل شفافية وبكل جدية للنقاش العام حتى نصل لمنطقة مشتركة ليس بالضرورة أن ترضي الجميع، ولكن يجب أن تعبر عن الجميع من خلال عقد اجتماعي، يشكل الوعاء الذي يحمل كل ثقافات البلد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.