في حين قال الرئيس الفرنسيّ فرانسوا هولاند عشيّة «أحداث» باريس: «إنّنا نعرف من يهاجمنا، إنها محنة جديدة وعلينا أن نبرهن على وحدتنا وتضامننا ونعمل بأعصاب باردة»، لم يعرف «المتضامنون» العرب والمسلمون بالضبط مع مَن يتضامنون ولا مع ماذا وضدّ مَن أو ماذا بالتحديد. لقد كان العدوّ معروفًا ومعلومًا للسّلطة الفرنسيّة، وربّما هو معروف من قبل أن يقوم بهذا الهجوم المفاجئ في عاصمةٍ «أنواريّة» كبرى كباريس؛ حيث إنّ تصنيفات ما هو «إرهابيّ» وما هو ليس بكذلك متجذّرة في وعي ومعرفة القادة الغربيين تجاه الإسلام والمسلمين. ولأنّ العدوّ معروفٌ ومحدّد، فقد قال الرئيس الفرنسيّ أيضًا: «إنّنا ذاهبون إلى القتال، وهذه المعركة ستكون بلا رحمة». تبدو من هذه الكلمات «الشجيّة» للرئيس الفرنسيّ أنّ ما هم ذاهبون لقتاله عدوّ بعيد، خارجيّ، آتٍ من أقصى الشرق، من بقعةٍ جغرافيّة لا علاقة لهم بها كـ«غربها» وأنّ هذه البقعة تصدّر لهم كلّ ما هم خائفون منه، ضدّ السلام والأمن.

يتذكّر المرء وهو يقرأ تصريحات المسؤولين تجاه هذه الأحداث فرانز فانون وإدوارد سعيد وغيرهم، ممّن تحدّثوا عن إعادة تشكيل وعي الضعيف بحيث يكون على شاكلة وعي القويّ. ففي حين كان الاستعمارُ يخلقُ نخبته، التي هي نخبة محلّية، للبلد التي يستعمرها كي يعيدوا تشكيل «الوعي الوطنيّ» بناءً على سرديّة المستعمِر؛ فإنّه في عالمٍ نيو-كولونياليّ مشاعةٌ فيه أساليب أكثر اختراقًا ومرونةً لتشكيل الوعي والفهوم؛ يمكن الحديث عن تدجين وعي الضعفاء من قبل الأقوياء عبر وسائل سيطرةٍ -إعلاميّة وسياسيّة واقتصاديّة- حتى يغدو وعيهم ليس فقط مشابهًا للقويّ، وإنّما أن يشعروا أنّهم على قدمِ المساوة مع القويّ، وأنّ مصلحتهم هي مصلحته، وأنّ عدوّهم هو عدّوه بكلّ تأكيد. يذكّرنا هذا بمفهوم ماركسيّ للإيطاليّ أنطونيو غرامشيّ ألا وهو مفهوم «الهيمنة» (hegemony) الذي يعني السيطرة بالقبول. وإن كان استخدامه يتمّ في سياق دولة تهيمن طبقيًّا على الناس وتقنعهم بـ«قبولٍ» بسياستها بوصفها سياستهم هم، فإنّ المفهوم يمكن استخدامه أيضًا عبر توسيعه على شبكات وعلاقات أكثر مرونة تتمّ بداخلها الهيمنة.

إنّ اللافت في مجمل التعليقات على ما حدث بباريس من هجوم وقتلٍ، هو غياب ثنائيّة القويّ والضعيف في تعليقات «المتضامنين»، في حين أنّه حاضرٌ بقوّة في خطاب مَن يتضامنون معهم. فحينما يتحدّث الرئيس الفرنسيّ عن «نحن» فرنسيّة، فهو يعي تحديدًا ما يريدُ من هذه الـ«نحن» التي هي أولًا بيضاء بكلّ تأكيد، وثانيًا ليست إسلاميّة بتأكيد أقوى. ولمعرفة هذا الخطاب بموقعه في علاقة السّلطة الثنائيّة هذه، أي القويّ والضعيف، فهو قادرٌ على تحديد لمَن يتكلّم وضدّ مَن، وكيف أنّه، كخطابٍ، يمكن أن يظهر في صورة إنسانيّة ويصدّر نفسه كخطاب إنسانيّ، ويغيّب تمامًا ما هو سياسيّ، أي ما هو حاسمٌ حقيقةً في مثل هذا الهجوم البشع على الفرنسيين.

وممّا هو متّصل بذلك، فثمّة تفوّق أخلاقيّ لدى الدّول الغربيّة عندما تتحدّث عن حروبها بوصفها «حروبًا على الإرهاب»، وشرعيّة، وأنّ عنفها «مبرّر»، في حين أنّ أي عنف آخر، هو إرهاب. ونلحظ في «خطاب الإرهاب»، أنّه يعمد إلى محاكمة نوايا الفعل لا أسبابه، فتقييم العنف يكون عن نيّتك في القتل، لا عن أسباب قتلك. وبهذا، فإذا كان قتلك من أجل دمقرطة العالَم الثالث وإزالة المستبدّين، أو من أجل أهداف كولونياليّة واضحة كأفعال فرنسا في مالي وغيرها، فقتلك مشروع ومبرّر. أما إذا كنتَ تُسند نيّتك على دينٍ، أو فكرة متعالية، فإنّك إرهابيّ. ولعلّ أهمّ مأزق في مفهوم الإرهاب هو أنّه مفهوم لا يدلّ على شيءٍ لأنّه يمكن أن يستخدمه الضعيفُ والقويّ، ولذلك فهوم مفهوم برأينا ليس له معياريّة واضحة، وليس حَكمًا على غيره.

تشيرُ موجة «التضامن» المستشرية هذه الأيّام من قبل مسلمين وعرب من شتّى الأنحاء إلى تلبّس وعي المهيمَن عليهم، سياسيًّا واقتصاديًّا ومعرفيَّا، بوعي المهيمِن، والتعامل، أخلاقيًّا، دون الاعتبار لكلّ علاقات السّلطة التي تشكّل الأفهام وتعيد إنتاج وعينا بمن هو العدوّ ومن الصّديق. وللأسف، فإنّ كلّ محاولات التضامن -بدءًا من رفع علم فرنسا الكولونياليّة وليس انتهاءً بالاعتذار الإسلاميّ (الأخلاقيّ؟) عن ما حدث في فرنسا مؤخرًا من قتل وترويع- هي محاولات واقعةٌ في أسر معرفة الأقوى، وبدعمها هذا التضامن الأخلاقيّ المُفترَض فإنّها تقوّي من سرديّة هذا الأقوى، وفي تثبيت المقولة الجوهرانيّة بإرهابيّة الإسلام، أو «الإسلام السُّنيّ» على وجه التحديد.

فالشرط الموضوعيّ الثابت الذي لا يتغيّر في كلّ هذه الأحداث هو أولًا تعميم مفهوم «الإرهاب» الذي يملأه القويّ بحيث يُعبّئه بكلّ ما يخاف هو منه تاريخيًّا، وثانيًا هو جعْل الإرهاب «إسلاميًّا» دون أيّ معنى لما هو إسلاميّ في هذا السياق، حيث يُجرّد «الإرهابيّ» من كلّ شرطٍ ومن كلّ تعقيدات واقعيّة مُختزَلًا في صفةٍ وحيدة ألا وهي كونه «إسلاميًّا»، دون التساؤل هل إسلاميّته أنه مسلم؟ أم لأنّه يبرّر فعله باسم الإسلام؟ أم لأنّه «مسلم في الغرب»؟ أم يُوسم الإرهابيّ بالإسلاميّة لكون أنّ الغرب يحدّد نفسه ذا جذورٍ مسيحيّة-يهوديّة، وبالتالي فإنّ هاتين الديانتين قد أُدخلتا في عمليّة إصلاح فصارتا أديانًا حديثة بمعنى أنّها تتعايشُ مع ما هو حديث، في حين أنّ الإسلام «قروسطيّ» وغير حديث، ومن ثمّ يكون هو منتِج العنف والإرهاب بما أنّ العنف غير حديث؟ فقد تمّ طرح الإسلام دائمًا في المخيال الأوروبي كآخر للمسيحيّة، آخر جموح، لا يمكن ترويضه. ولا يقتصر الأمر على الإسلام فحسب، بل تمّ النظر إلى الشرق كمرادف للإسلام في كثيرٍ من الأحيان، باعتبار الإسلام شرقيًّا والشرق إسلاميًّا. ولقد أدرك الكولونياليون الأوائل هذا، فدخلوا في حروب صليبيّة مع ديار الإسلام، على الرُّغم من الطابع الاقتصادي لهذه الحروب. لا يسأل «المتضامنون» مثل هذه الأسئلة، بل إنّهم، في حقيقة الأمر، يدعمون غموضها وبقاءها دون وعيٍ منهم.

يظنّ «المتضامنون» أنّ ما يقومون به هو تضامن أخلاقيّ مع «إنسان» فرنسيّ قُتلَ غدرًا، وليس هناك جدل على صِدق أو كذب «المتضامنين» أخلاقيًّا، ولكنّهم بفعلهم هذا، أي بتحييدهم لكلّ ما هو سياسيّ ولكلّ علاقات القوّة القائمة في الواقع، يساندون، بغير وعيٍ، قوى الدّول الكولونياليّة -وفرنسا على رأسها. وذلك لسببٍ بسيط: يعتقدُ «المتضامنون» أنّهم على قدمٍ واحدة مع «آخرهم» الذي يطلبُ اعتذارًا وتضامنًا، أي مع السّلطة الفرنسيّة، في حين أنّ هذا إغفال وتغافلٌ حقيقيّ عن موقع كلّ متضامنٍ من هذا الجانب بمكانته في علاقات القوّة هذه، وأنّه الأقلّ والمطالَب دائمًا بالاعتذار والتضامن. فلا أدري كيف يتضامن الضعيفُ، مسلوب الإرادة سياسيًّا واقتصاديًّا ويتحكّم الغرب ليل نهارٍ في بلاده سواء من قبل الاقتصاد أو من قبل النّخب السياسيّة «المحلّيّة»، مع القويّ الذي يصدّر روايةً عنه بوصفه منتجًا الإرهاب والوباء والأمراض في العالم، ثم يظنّ «المتضامنون» بعد ذلك بالقدم الواحدة لمواجهة التطرّف، وإحلال السلام بالعالم.

هل يتضامنُ «المتضامنون» ضدّ أنفسهم إذن؟ أم ضدّ مَن بالتحديد؟ لأنّ الموجات «الأخلاقيّة» المنتشرة هذه الأيّام والمغيّبة لكلّ ما هو سياسيّ في الأمر، ولعلاقات القوّة التي تشكّل مثل هذه الأحداث، هي موجات لا تراعي أيّ شرطٍ موضوعيّ وتنسحبُ من كلّ تعقيدات الواقع لأخلاقيّة متعالية. في مقاله أوّل أمس بمجلّة «جاكوبين» تحت عنوان: «كيف تُسيّس مأساةً ما»، تحدّث الكاتب الإنجليزيّ سام كريس عن أن «الموتَ دائمًا سياسيّ، ولا شيء أكثر سياسيّةً من هجومٍ إرهابيّ». ومن ثمّ، يغدو التضامنُ بهذا الشكل شكلا من أشكال التضامن السياسيّ والتضامن المعرفيّ أيضًا والإقرار بأنّه: إمّا أنّ الإسلام مسؤول أو فيه «قراءة» تُنتج هذا العنف، أو أنّ هذا التضامن هو اعتذار إسلاميّ عن «داعش»، ومن ثمّ فنحن مسؤولون عنها، دون نظر لمآلات هذا القول أو ذاك. وبالتالي سواء أكان اعتذارًا ما يقوم به «المتضامنون» أو أيّ شيءٍ ففيه دلالة واضحة على «مسؤوليتنا» نحن عن ظواهر مخيفة مثل «داعش»، وكأنّ الغرب موقعٌ ثابت لم يتدخّل في بلداننا ولم يكن مسؤولًا بشكلٍ مباشرٍ وأساسيّ عن مثل هذه الظواهر.

بالطبع، يمكن الحديث عن معنى أن تكون متضامنًا، عن الإدانة، وعن أشكال التضامن المحتملة، لكنّ ذلك لا يمكن أن يتمّ في موقعٍ لست تملك سلطةً فيه ولا تملك أيّ تحرّر وطنيّ ومن ثمّ خارجيّ ثم تتحدث عن تضامن يصبّ في مصلحة سلطات كولونياليّة قتلتك في بلادك وفي موطنك وتهيمن عليك وتتحالف مع كلّ القوى لجعلك تابعًا أبدًا، ثم ترفع أعلامها باسم «تضامنٍ أخلاقيّ» لا معنى له. وفوق ذلك، فإنّ الاعتذار غير التضامن بشكل قاطع. فالاعتذار دليل على أنّك الفاعل وأنّ «قيم الجمهوريّة» الفرنسيّة مهدّدة من قبلك، وهذا أقصى ما تريد السلطات أن تثبّته.

إنّ الحسّ الأخلاقيّ أو الإنسانويّ لدى «المتضامنين» لا يمكن أن يحسم شيئًا، فالفعلُ مستهجن ومُدان من قبل كلّ عاقلٍ ولا شكّ، بيد أنّ تصدير الاعتذار والتضامن في سياقٍ كهذا الذي نحياه على أنّه فعل أخلاقيّ دون الاعتبار لكلّ شرطٍ سياسيّ ولدور فرنسا ومسؤوليتها هي نفسها سيُبقي على مواقع القوّة كما هي. ولعلّ أكثر الأشياء استهجانًا بالنسبة إليّ في مثل هذا «التضامن الأخلاقيّ» هو أنّه يمثّل استمراريّة لخطّ الاعتذار الإسلاميّ منذ الحادي عشر من سبتمبر؛ فمنذ أيلول 2001م، وبزوغ سياسات «الحرب على الإرهاب» على يد الإمبرياليّة صراحةً، أو على يد حلفائها العرب، والمسلمون، سواء أكانوا عربًا يعيشون في نطاق الدّول العربيّة أو يعيشون في أوروبّا وأمريكا، مُطالبون دائمًا بالاعتذار عن «العنف الإسلاميّ» و«ثقافة الموت» و«الإرهاب الدينيّ» الذي ينخرُ في تراثهم. وكان يُنظر إلى القاعدة على أنّها التمثّل الحقيقيّ للإرهاب الإسلاميّ في أشدّ صوره من قِبل المعلّقين، عربًا وغير عرب، ولهذا طُولب المسلمون بأن يقبلوا بإعادة استكشاف الإسلام على قاعدة أنّه «نسخ» عديدة، وليس إسلامًا واحدًا، وعليهم أن يزيحوا «النسخة القاعديّة» منه، باعتبار أنّها نسخة متطرّفة، وإرهابيّة، وأن يندرجوا هم في صلب نسخة أكثر تسامحًا، “نسخة” تقبل باندماجهم ضمن النّظام العالميّ، وضمن المجتمعات الليبراليّة الحديثة.

وبالأخير، فـ«خطاب التضامن» المصدّر اليوم من قبل المعلّقين العرب المسلمين وغيرهم يقوّي في حقيقة الأمر من احتماليّة تنصيب ما حصل في فرنسا قبل أيّام على أنّه «١١ سبتمبر» جديد، ليس في مضمون القتل والترويع الذي حدث لمدنيين عُزّل، وإنّما في الوقوع في خطاب القويّ باسم «الأخلاق»، دون زعزعةٍ لنظام القوّة القائم.