مقدمة

أشار الدكتور حسين مؤنس في مقدمة كتابه «عالم الإسلام» إلى صعوبة التأليف في التاريخ الاجتماعي للأمة الإسلامية؛ لأن مراجع التاريخ الإسلامي شحيحة جدا بالمادة عن أحوال المجتمع الإسلامي وتطوره، فإن كتب التاريخ التقليدية لا تقدم لنا إلا لمحات غير دقيقة عن حياة الناس. فوجّه همّه نحو كتب الأدب كالأغاني للأصفهاني والكامل للمبرد، والعقد الفريد لابن عبد ربه ومؤلفات الجاحظ وغيرها، ثم توسع في قراءة كتب الرحالة والجغرافيين والحسبة وكتب الفقه والنوازل والمؤلفات المتخصصة في التجارة والعلوم الطبيعية، ووثائق البيع والشراء والوقفيات والرهن والإيجار، وكتب التراجم التي تعد أحد أهم مصادر التاريخ الاجتماعي. من هذه المصادر المتعددة يلتقط الباحث في التاريخ الاجتماعي الإشارات من هنا وهناك ليحاول تجميع الصورة الكاملة عن حياة الناس في المجتمعات الإسلامية.

إن معرفة التاريخ الاجتماعي تكتسب أهمية مضاعفة في حياتنا اليومية وسط شعارات تطالب بالعودة إلى ما كنا عليه، إلى المجتمع المسلم الذي دمره الاستعمار الحديث، وترسم صورة وردية لتلك المجتمعات كأنها خرجت من القرآن والسنة إلى الواقع رأسا، وشعارات مضادة تتهم القديم بالرجعية والتخلف وتطالب بالقطيعة معه. وسط كل هذا تثور تساؤلات حقيقية عن كيف كانت تعيش المجتمعات الإسلامية في العصر الوسيط، وهل حياتنا اليوم تختلف اختلافا كبيرا عنهم؟

في هذه السلسلة سنقدم مجموعة من الإشارات والملاحظات لا تكفي بالطبع للإجابة على هذه الأسئلة، لكنها ستفتح الباب للتوسع في مصادر تلك المقالات وإثارة نقاش جاد حول كيف كانت تحيا المجتمعات الإسلامية ابتداءً، ومن ثمّ تحديد إذا كان المطلوب هو العودة لنمط حياتها تلك أو القطيعة معها، أو مزيج من هذا وذاك.

ومن الزواج والطلاق في عصر المماليك تكون البداية..[1]


جهاز العروس بدلا من الميراث

في عام 732 هجرية تزوج الأمير آنوك ابن السلطان محمد بن قلاوون ابنة أحد الأمراء المماليك، وشهدت القاهرة جهاز العروس الصاعد إلى القلعة يحمله 800 من الحمالين و100 من البغال، قُدِّر جهاز العروس، المكون من الوسائد والأواني والكراسي والسجاد والملابس والمجوهرات وغير ذلك من النفائس، تقديرات ما بين 800,000 دينار ومليون دينار، ورغم أن هذه التقديرات كان مبالغا فيها وليس ثمة توثيق لها، فإنها تدل بوضوح أن ذلك الجهاز أو هدية أهل العروس لابنتهم في زواجها قطعا أضعاف المهر الذي دفعه الزوج والذي تم توثيقه بالعقد بـ 12,000 دينار!

يعود هذا التفاوت إلى أن جهاز العروس لم يكن مجرد هدية زواج من ملابس وحلي ومتاع، بل جزء من تقسيم الإرث من قبل المورِّث في حياته، ذلك أن النساء في المقابل قد حُرمن من تملك أنواع أخرى كالأراضي الزراعية.

لم تقتصر هذه العادة على زواج السلاطين فحسب، فقد لاحظ ابن الحاج أن جهاز العروس القاهرية كان يتألف من ثلاث دكك؛ واحدة مملوءة بالفضة، ودكتي نحاس أبيض وأصفر، وتفاوت الجهاز حسب طبقة العروس الاجتماعية وثروة أهلها، وتدل الوثائق على أنه يعتبر تعويضًا للمرأة عن إرثها، وكان تقسيم المواريث يتم في المراكز الحضرية حسب الشريعة الإسلامية بكل صرامة، وتوجد عدة إشارات إلى أن بعض قبائل البدو كانت تحرم الإناث من الميراث وهو ما كان محل انتقاد فقيه معاصر كتاج الدين السبكي.


أعمال الزوجة

في عام 655 هجري وبعد عشر سنوات من الزواج نظم الكاتب الدمشقي أبو شامة قصيدة في مدح زوجته ست العرب؛ فهي امرأة متواضعة رحيمة بالأيتام ومطيعة لزوجها، كاتمة لأسرار المنزل وبليغة، تقوم بكافة أعمال المنزل وفوق ذلك فهي بارعة في الغزل والحياكة والتطريز، وهي الوظيفة التي عملت بها كثير من النساء في الحضر مقابل أجر ومن المنزل، وقد أفتى ابن الصلاح بأنه ليس للزوج أن يمنع زوجته من العمل في منزلها في التطريز والغزل والحياكة. وكان النساء يخرجن من المنزل لشراء المواد اللازمة كالقطن والكتان وكن يصحَبن معهن أطفالهن للمسجد لمفاوضة السماسرة الذكور الذين كانوا يبيعون تلك البضائع كوكلاء للنساء.

إلى جانب هذه المهنة خرجت بعض النساء للعمل في الخارج كالماشطات والقابلات والخاطبات والخادمات في الحمامات والبائعات المتجولات، ومهن أخرى مثار نقد اجتماعي كالغناء. وقد استثمرت بعض النساء مقدم صداقها وهدية أهلها عند الزواج في بعض الأنشطة الائتمانية البسيطة كنشاط الجمعية الذي ما زال مستمرا إلى الآن في مصر المعاصرة، عن طريق اشتراك عدة نساء في تجميع مبلغ من المال بشكل دوري يُدفع على التوالي لكل امرأة حتى تنتهي المدة المتفق عليها للجمعية.


الصداق والنفقة الزوجية

كانت وظيفة عقد الزواج، إلى جانب إثبات شهادة الشهود على صحة الزواج، تسجيل الصداق الذي تعهد به الزوج، وعادة ما كان يتم دفع جزء صغير منه مقدما، والجزء الأكبر مؤجلا؛ إما على أقساط سنوية أو بعد مدة محددة أو كدين يتم الوفاء به عند الطلب، لكن الغالب كان دفع الصداق من تركة الزوج عند الوفاة قبل تقسيم الإرث أو عند الطلاق.

وصورة الصداق الأخيرة، كدين يتم الوفاء به عند الطلب، تم استغلالها من بعض الزوجات، فيقول «ابن القيم»:

ومن حين سُلِّط النساء على المطالبة بمؤخرات الصداق، وحبس الأزواج عليها، حدث من الشرور والفساد ما الله به عليم، وصارت المرأة إذا أحسَّت من زوجها بصيانتها في البيت، ومنعها من البروز، والخروج من منزله والذهاب حيث شاءت: تدَّعي بصداقها، وتحبس الزوج عليه، وتنطلق حيث شاءت، فيبيت الزوج ويظل يتلوى في الحبس، وتبيت المرأة فيما تبيت فيه.

لم يقتصر الأمر فقط على مطالبة الزوجات لأزواجهن بالصداق أمام المحاكم، بل نشأ نزاع مماثل فيما يخص النفقة الزوجية. صحيح أن الشريعة الإسلامية توجب على الزوج النفقة العينية فقط، أي شراء ما يحتاجه البيت من طعام ومتاع وما تحتاجه المرأة من كسوة، إلا أنه شاع في بعض الزيجات أن يدفع الزوج لزوجته بدل نقدي لتتولى هي شراء ما يلزم البيت، وبات هذا المصروف النقدي ممارسة اجتماعية واسعة النطاق وموثقة في كتب الوثائق والشروط، كما كانت موضوعا لقضايا رفعتها زوجات أمام المحاكم على الأزواج الذين كانوا يسيئون معاملتهن أو يقصرون في النفقة. وكما نصت الوصايا على أقساط الصداق المؤجلة التي لم تُدفع في حياة الزوج، أوصى بعض الأزواج كذلك بمبالغ مالية نظير نفقة الكسوة أو نفقات أخرى تعهد بها الزوج ولم يدفعها في حياته.


أيمان الطلاق

مثَّلت أيمان الطلاق المُعلَّقة على شرط، كخروج الزوجة من منزلها أو زيارة أقرابها أو أي شرط آخر، تهديدا رادعا من الزوج لزوجته بالطلاق إذا خالفت أمرا من أوامره، وشاعت تلك الممارسة سواء بين النخبة الحاكمة أو العوام وأدت في كثير من الأحيان إلى إنهاء الزواج نتيجة إسراف الزوج في حلف يمين الطلاق لأسباب تافهة، ونتيجة لهذا لجأ البعض لفكرة المحلل والتي تصدى لها العديد من الفقهاء باعتبارها تحايلا على الشرع.

ومن الفتاوى المثيرة للجدل في يمين الطلاق المعلق في ذلك العصر، فتوى ابن تيمية بأن يمين الطلاق المعلق لا يقع إذا كانت نية الرجل حضًّا لنفسه أو لغيره أو منعًا لنفسه أو لغيره على تصديق خبر أو تكذيبه، بل يتساوى مع الحلف بالله ويتم التكفير عنه بنفس الكفارة.

لاقت فتوى ابن تيمية معارضة شديدة من العديد من العلماء المعاصرين له، منهم تقي الدين السبكي، وقاضي قضاة الحنفية في القاهرة الذي لفت نظر السلطان لخطورة هذه الفتوى فأصدر قرارا بمنع ابن تيمية من الحديث في هذا الموضوع. وقد تم استدعاء ابن تيمية بعدها بفترة ومحاكمته ثم سجنه في قلعة دمشق خمسة أشهر قبل الإفراج عنه بعفو سلطاني في عاشوراء.

قدم المؤرخون عددا من الفرضيات لما أصاب ابن تيمية من جراء تلك الفتوى، منها أن تلك الفتوى كانت مثار استهجان واسع من علماء كانوا حتى وقت قريب من مؤيديه ومادحيه ثم انقلبوا عليه لخطورة فتاويه، ومنها القول بتحزب العلماء ضده، وأن تلك الفتوى، إلى جانب فتاوى أخرى، لم تكن سوى مسوغات استغلها خصومه من الفقهاء للنيل منه عند السلطان والتنكيل به. لكن تحليلا آخر يخلص إلى أن قول ابن تيمية في يمين الطلاق المعلق مثَّل تهديدا للنظام السياسي بقد أو بدون قصد؛ فقد ورد ذكر أيمان الطلاق في صيغ البيعة الرسمية للسلطان كدليل على تغليظ البيعة والوفاء بها والتأكيد على التزام الرجال بأيمانهم، ومن قوة يمين الطلاق أن الظاهر بيبرس حث الملك المغيث الأيوبي صاحب الكرك على الاستسلام بأن تعهد له تحت يمين الطلاق ثلاث ألا يمسه بسوء. ولما حنث الظاهر بيمينه وأرسل المغيث في الأغلال إلى القاهرة ثم أعدمه كان ذلك مثار استهجان واسع كدليل على قوة يمين الطلاق في ذلك العصر.


حياة المطلقات

لم يكن فسخ الزواج بالطلاق من طرف الرجل فقط هو الطريقة الوحيدة لإنهاء الزواج في مصر المملوكية التي شهدت معدلات طلاق مرتفعة، فخلعت بعض النساء أزواجهن وعوضوهن ماديا للحصول على الطلاق، واستعانت بعض النساء بالمحاكم لطلب الطلاق بسبب الهجر، بل وصلت الاستعانة بالمحاكم العسكرية والمظالم للضغط على بعض الأزواج أن يطلقوا زوجاتهم إما لسوء المعاملة أو لغير ذلك من الأسباب. ولوجود عدد من المطلقات والعزباوات في المجتمع نشأت أربطة النساء، ونشأت في الشام باسم الخانقاوات بدلا من الربط، كرباط أميرة أيوبية نُقش عليه أن بُني «للنساء الفقيرات اللائي يرغبن في الإقامة فيها، برسم تأدية الصلوات الخمس المفروضات والمبيت». وعدد المؤرخ الدمشقي ابن زفر الإربلي نحو عشرين مؤسسة من هذا القبيل. وتدل بعض وثائق الوقف على تلك الخنقاوات نموذجا لحياة النساء فيها، وهو مزيج من الحياة الروحانية والانضباط الصارم والأغراض الخيرية.

في المقال القادم، بإذن الله، سنستعرض بشكل موجز الاحتفالات بالأعياد الدينية في مجتمع متعدد الديانات كالأندلس والمغرب، سنتحدث عن الممارسات الشعبية وموقف الفقهاء منها وتلك العلاقة الجدلية في كل مجتمع بشري بين ما هو كائن وما يجب أن يكون.


[1] اعتمدت في هذا المقال بالأساس على كتاب “الزواج والمال والطلاق في المجتمع الإسلامي في العصور الوسطي” ليوسف رابوبورت من إصدار مركز تراث، وبحث “المرأة عند السخاوي في كتابه الضوء اللامع لأهل القرن التاسع” المنشور في مجلة كلية البنات- جامعة بغداد لبلقيس عيدان لويس المجلد 25 (3) 2014.