في ميثولوجيا اليونان القديمة، يُعتقد أن كبير الآلهة زيوس جعل البشر في صورتهم الأولى بأربعة من الأيدي والأرجل، لكنه كان حانقًا على البشر، ويبحث عن طرق لإيذائهم. وبعد فترة خشي قوتهم وتمردهم، فقام بتجزئة كل شخص إلى اثنين، تاركًا كلًا منهام يبحث عن نصفه الآخر ما دامت البشرية، على ألا يهنأ البشر بحياتهم أبدًا في ظل البحث اللا منتهي.

يرى الجميع أن المقصود بالنصف الآخر هو شريك الحياة أو Soul Mate، والرحلة هي للبحث عن الحب والعاطفة المقدسة، لكن ماذا لو كان لكل إنسان توأم يشاركه الشكل والملامح، ويوجد بينهما تواصل خارق للطبيعة يتبادلان من خلاله الخبرات والأفكار، بدون أن يكونا على اتصال فعلي؟

عندما تبعد يدك سريعًا قبل لمس صحن ساخن، هل بسبب أن توأمك الآخر قد اكتوى بها من قبل وحذّرك؟ هل يشعر التوأمان بوجود بعضهما؟ ماذا لو عاشا في نفس العصر بنفس العمر؟ وهل إحساسنا الدائم بالوحدة ناتج من ذلك؟

صدر فيلم «The Double Life of Veronique» عام 1991، من إنتاج بولندي-فرنسي، وإخراج البولندي «كريستوف كيشلوفسكي»، كأول فيلم له خارج بلاده بولندا، وحصل على عدة جوائز، منها أفضل فيلم وأفضل ممثلة في مهرجان كان السينمائي، وترشح إلى جائزة جولدن جلوب وسيزار.

عمّا يدور الفيلم؟

هو سؤال لا يمكن الإجابة عليه، فلا سبيل لحصر الفيلم في وصف معين، كما يُعلق المخرج: «الفيلم عن أشياء لا يمكن تسميتها، إذا تعرّفت عليها، تظهر تافهة وغبية».

هو يطرح العديد من التساؤلات، لكنه لا يجيب عليها. لا يشغل المخرج نفسه بشرح أسباب وتفاصيل لا نفع منها، بل يتركك تتابع رحلتك في غموض عذب. لا يمكنك أن تفهم، فقط تشعر.

فيرونيكا Weronika شابة جميلة تعيش في بولندا، في حياة سعيدة بلا هموم أو مشاكل تجد فيها الحب، وكذلك صاحبة صوت ملائكي وتعشق الغناء، تذهب لزيارة عمتها في أحد الأيام، وبينما تعبر أحد الميادين، ترى فتاة فرنسية ضمن مجموعة سياحية تقوم بالتقاط الصور، تمعن النظر فيها فترى نفسها، نفس الملامح بنفس العمر، فيتوقف الزمن حولها لدقيقة تستجمع قواها، بينما تتحرك الحافلة بعيدًا وتختفي، ثم تشارك في حفلة غناء وتسحر الحضور بصوتها الخرافي العذب حتى تسقط ميتة بلا مقدمات.

على الجانب الآخر، فيرونيك Véronique مُدرِّسة موسيقى فرنسية، تُعلِّم الأطفال العزف على الآلات الموسيقية، تشعر فجأة بالوحدة بلا سبب، كأن شيئًا ما حدث، تخبر والدها فيقترح «ربما فقدتِ شخصًا قريبًا»، لكنها لم تفقد أحدًا، أم هل فقدت فعلًا؟ تشاهد عرضًا للعرائس في المدرسة، وترى بالصدفة الفنان الذي يقوم بالعرض، فتدخل في حالة نشوة وسعادة مفاجئة بلا سبب، وتسرع لوالدها تخبره أنها وقعت في الحب، لا تعلم لماذا ولا تفهم كيف حدث ذلك، ربما يكون انتقل لها من بولندا؟ وتبدأ في تتبع حبيبها الغامض، الذي يرسل لها هدايا مليئة بالألغاز.

أمّا عن الهدف من الفيلم فهو على لسان المخرج:

أعتقد انه يمكن لأناس مختلفين في أماكن مختلفة أن يفكروا في نفس الأفكار في نفس الوقت. إنه هاجسي، أن الناس المختلفين في أماكن مختلفة يفكرون في نفس الشيء ولكن لأسباب مختلفة، لذلك أحاول صنع أفلام تربط الناس.

لا تفكر… فقط اشعر

ينضم هذا الفيلم لنوعية معينة من الأفلام، التي تتألف من شعور أو نزعة، شيء تشعر به وتتشبع به حواسك لكنك لا تستطيع شرحه أو التعبير عنه. الفيلم واقعي بشكل غريب إلى درجة غير مألوفة، لذلك أحيانًا تشعر أنه ممل أو بطيء، تمامًا مثل الواقع والحياة التي تعيشها.

الأفلام بشكل عام تشبه إلى حد كبير الأحلام، بعض الأحلام تكون فيها مُجرد مُتفرِج، لا دور لك، فقط تشاهد الأحداث عن قرب أو بعد، والبعض الآخر تملك التحكم فيه وتؤثر في مجرياته، وتشكله على راحتك، وأحلام أخرى تشدك إليها وتترك فيك أثرًا ما، تستيقظ بإحساس من النشوة والسعادة غير المبررة.

الفيلم الذي تكون فيه مجرد مُشاهِد، غالبًا ما يعرض حدثًا عاديًا، أو أن يكون فيلمًا بسيطًا لن يترك لك أي أثر، مثل أفلام الأكشن التقليدية، وبعد أن تشاهده وتنتهي منه، كأنك ما فعلت شيئًا، مثل أن تستيقظ من حلم تنساه، ويصبح بلا أثر.

أمّا الحلم الذي لا تملك فيه يدًا أو لا تتحكم فيه ويكون جزءًا منك، فهذا ستصحو منه في حالة افتتان وذهول، كأن لحنًا مرتجلاً قد أطربك، لماذا؟ لأنه غير متوقع ولا يمكن تفسيره، لا يمكن تفسير سحر الألحان والصدف السعيدة، فقط تسقط في مصيدتها الجميلة، وتطلق العنان لهذا الإحساس النادر، مثل فيلم رائع تخرج منه بشعور غريب، لا يمكنك تفسيره، ولا تستطيع شرح أو ذكر ما أعجبك، لكنك فقط مُتيَّم به، مثل The Double Life Of Veronique.

لا يستطيع الكثير من الناس أن يحلموا بشكل حقيقي، ومعظمهم ينتقصون من حقوق الأحلام وأهميتها، ولذلك لا يحبون مثل تلك الأفلام، ولا يعترفون بجودتها.

ولن أنكر أني شعرت –أحيانًا- بالملل وربما الضياع أثناء المشاهدة، بعض المشاهد أردت تخطيها توفيرًا للوقت، والتخلص من رتابة الإيقاع، وفي بعض مراحل الفيلم فكرت في تجاهله بالكامل، لكني أيضًا شعرت بأنه ما زال هناك شيء قادم، أمل في هدية كبرى لمن يُكمل للنهاية، ويكفيني أني خرجت من التجربة بشعور مميز، قلة من الأفلام قادرة على إحداثه.

«إيرين جاكوب»

تطل علينا بطلة الفيلم، الممثلة السويسرية المنشأ، فرنسية الجنسية، بوجهها المشرق وملامحها الفاتنة، في أحد أفضل الأدوار النسائية على الإطلاق، تتسلل إلى القلب مباشرة، تأسرك بعينيها الساحرتين، تحمل مزيجًا نادرًا من الجمال والموهبة والحضور على الشاشة، يصفها الناقد «هال هانسون» في الفيلم قائلًا:

إنها جميلة، لكن بطريقة غير تقليدية تمامًا، ولديها مميزات متغيرة بحيث لا يستنفد اهتمامنا أبدًا، ما يلفت الانتباه في أدائها هو مدى هدوئه، كممثلة، يبدو أنها تعمل خارج نطاق المألوف، ومع ذلك فهي دائمًا على قيد الحياة بشكل ملحوظ على الشاشة، وحاضرة بشكل كبير، إنها مزيج نادر؛ ممثلة مثيرة وعاطفية.

بعض الممثلين الكبار يتميزون بصفة خاصة تراها دائمًا في أعمالهم، مثلاً «أل باتشينو»، يمكن القول إنه يمثل بصوته، فتجد في معظم أدواره مشهدًا يصرخ أو يهتف به، وأصبحت سمة مميزة له مع الوقت. بينما يتميز «روبن ويليامز» بخفة الظل والقبول على الشاشة، حتى لو كان دورًا شريرًا مثل دوره في فيلم Insomnia. ونجد أن «جورج كولوني» لديه كاريزما مميزة رغم افتقاده الموهبة مثلًا.

لكن «إيرين جاكوب» تجمع بين كل شيء، بالإضافة إلى عينين خارقتين للعادة، يمكنها فقط التمثيل بعينيها، لا تتكلم أو تتحرك لكن عينيها في عالم آخر، تركز الكاميرا على وجهها، فلا ترى منه إلا العينين. يهتم كيشلوفسكي بذلك بذكاء لافت، ليصبح أحد أسباب أدائها الساحر، وطغيان جمالها على الشاشة، فكما تقول أودري هيبورن:

جمال المرأة ليس في الملابس التي ترتديها، أو هيئتها الجسمانية أو الطريقة التي تُمشِّط بها شعرها. جمال المرأة يُرى في عينيها، لأن ذلك باب قلبها؛ المكان الذي يكمن فيه الحب.

ونعم الجمال الذي نراه في هذا الفيلم.

ويعتبر ذلك الفيلم أهم دور في مسيرة جاكوب الفنية، فبينما كانت في إجازة في الولايات المتحدة بعد تصوير أحد الأفلام، تم طلبها لاختبار أداء أمام كريستوف كيشلوفسكي، فتركت الإجازة وعادت إلى فرنسا على نفقتها الخاصة، وفازت بالدور عن اقتدار، وحصلت على أفضل ممثلة في مهرجان كان.

واستمر التوهج مع كيشلوفسكي أيضًا في فيلم Three Colors: Red، وتوُقع لها مستقبل باهر لممثلة بمثل هذه الإمكانيات، لكن بعد اعتزال كيشلوفسكي ثم وفاته في 1996، لم يتمكن أحد من توظيفها في الأدوار الصحيحة. ومع الوقت لم تجد منْ يُقدِّر موهبتها، وللأسف تحولت مسيرة جاكوب إلى مسيرة فنية متوسطة، ومستمرة إلى الآن.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.