ساعات قليلة ويصطف الناخبون الأتراك أمام صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية؛ ليقولوا كلمتهم ويحسموا خياراتهم في هذه الانتخابات غير المسبوقة، التي قد تغير نتائجها من الوضع السياسي الداخلي برمته.

اعتاد حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان منذ أول انتخابات برلمانية خاضها عام 2002م أن يحظي بثقة الناخبين، ويحقق فوزًا مطردًا في كل انتخابات خاضها سواء كانت برلمانية أو بلدية أو رئاسية. ويرجع ذلك إلى مرتكزات قوية اعتمد عليها الحزب منذ نشأته؛ منها السياسة التوافقية، والرؤية الاقتصادية الواقعية، والجهد الدؤوب، والعمل على ترسيخ الديمقراطية.

بيد أن هذه الانتخابات هي الأولى في تاريخ حزب العدالة والتنمية التي يطرح الجدل حول نتائجها تساؤلات مصيرية، مثل هل سينجح الحزب “هذه المرة” في تشكيل حكومة بمفرده، أم أن تركيا ستدخل مجددًا في دائرة الحكومات الائتلافية التي عانت منها في عقد التسعينيات؟ وإذا ما استطاع تشكيل حكومة بمفرده بحصوله على 276 من أصل 550 مقعدًا، فهل سيتمكن من تحقيق أهم أهدافه وهو تحويل النظام الحاكم في تركيا إلى نظام رئاسي، وإعداد دستور جديد للبلاد؟

شعار حزب العدالة والتنمية
شعار حزب العدالة والتنمية

فهذه الانتخابات العامة تجرى في ظل مناخ سياسي مختلف هذه المرة بالنسبة لكل أطراف العملية السياسية.

فتركيا الأردوغانية بعد تربع حزب العدالة والتنمية على عرش السلطة لأكثر من ثلاثة عشر عامًا متصلة، حقق فيها الكثير من الانجازات الاقتصادية والمجتمعية، تمضي الآن نحو دولة الحزب الواحد أو دولة الرجل الواحد، وتشهد ممارسات لا ديمقراطية على عدد من الأصعدة نددت بها واستنكرتها المنظمات العالمية، وتعيش حالة من الجمود وأحيانًا الخصومة مع كثير من دول العالم العربي.

فضلًا عن حالة “الصراع المستمر” داخل حزب العدالة والتنمية ذاته، وإقصائه لعبد الله جول الرئيس التركي السابق وأحد أعمدة الحزب عن المشاركة في إدارة الحزب، وحرب “تكسير العظام” الدائرة بين الحزب وجماعة فتح الله كولن الحليف السابق للحزب منذ وصوله إلى السلطة، وقضايا الفساد والرشوة التي اُتُهم فيها أعضاء بارزون في حزب العدالة والتنمية.

عبد الله جول
عبد الله جول

ويشارك في هذه الانتخابات أحزاب كثيرة، أهمها أربعة أحزاب هي: حزب العدالة والتنمية بزعامة أحمد داوود أوغلو، وحزب الشعب الجمهوري الذي أسسه كمال أتاتورك والمعروف بحزب الدولة بزعامة كمال قليتشدار أوغلو، وحزب الحركة القومي بزعامة دولت بهتشالي، وحزب الشعوب الديمقراطي الذي يمثل أكراد تركيا بزعامة صلاح الدين دميرطاش.

وتكشف نتائج شركات استطلاعات الرأي الكبرى في تركيا عن تراجع أصوات حزب العدالة والتنمية يتراوح بين 41-45%، بينما لا يُنتظر تغير واضح في أصوات حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومي؛ إذ من المتوقع أن تترواح نسبة أصوات الشعب الجمهوري 25-27%، والحركة القومي 15-17%. غير أن الفاعل الذي قد يغير توازنات القوى السياسية في البرلمان التركي الجديد هو “حزب الشعوب الديمقراطي” الذي تختلف حوله نتائج استطلاعات الرأي لتبدأ من 9.5% وتصل به نتائج أخرى إلى 12%.

وقبل تناول انعكاسات فوز هذا الحزب أو خسارته على الأوضاع السياسية التركية، يجدر بنا الحديث عن برنامج هذا الحزب والقوى الداعمة له.

فقد تأسس حزب الشعوب الديمقراطي عام 2012م كثمرة من ثمار التفاوض بين الحكومة التركية والزعيم الكردي المسجون عبد الله أوجلان؛ حيث دعا أنصاره إلى ترك السلاح وخوض العملية السياسية للحصول على مطالبهم. ومنذ ذلك الحين عُرف الحزب بأنه الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني.

وخاض زعيم الحزب صلاح الدين دميرطاش الانتخابات الرئاسية السابقة وحصل فيها على 9.7% من أصوات الناخبين، ولعل هذا هو ما شجعه وحزبه لخوض الانتخابات البرلمانية.

صلاح الدين دميرطاش
صلاح الدين دميرطاش

وقد طوّر الحزب من برنامجه ليتحول به إلى حزب يساري لكل تركيا، يدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ويعتمد الحزب بشكل كبير على المرأة وتفعيل دورها السياسي؛ حتى أن نصف مرشحيه للبرلمان شخصيات نسائية، الأمر الذي يحقق له انتشارية واسعة في أقصر وقت. ويتجه الحزب الذي يتمركز في جنوب شرق تركيا نحو الغرب بأفكاره ورؤيته السياسية.

وكان الأكراد قبل ذلك يدخلون البرلمان التركي نوابًا مستقلين، غير أنهم قرروا هذه المرة خوض الانتخابات من خلال حزب الشعوب الديمقراطي، مستهدفين تخطي العتبة البرلمانية بالحصول على أكثر من 10% من أصوات الناخبين، وخوض نضال سلمي سياسي من أجل قضيتهم الكردية.

ولا شك أن ذلك القرار يعد مغامرة شديدة الخطورة بالنسبة للأكراد، ففي حال تخطي فشلهم حاجز الـ 10% يكونون قد خسروا كل تمثيل برلماني لهم كان يمكن أن يتحقق إذا خاضوا الانتخابات مستقلين.

حيث يقضي قانون الانتخابات التركي بأن يتم توزيع مقاعد الحزب الذي لم يتخط العتبة البرلمانية على الحزب الحائز على المرتبة الثانية في دوائره الانتخابية.

ويستمد حزب الشعوب الديمقراطي أصواته الانتخابية هذه المرة من أربعة مصادر رئيسية؛ أولها هي كتلته الكردية الأساسية ويضاف إليها بعض الأكراد الذين كانوا يصوتون للعدالة والتنمية وغيروا وجهتهم بعد موقف الحكومة التركية المتقاعس إزاء معركة كوباني (عين العرب)، وهؤلاء قد تصل نسبة أصواتهم حسب بعض التقديرات إلى 7%.

يأتي بعد ذلك أنصار التيارات اليسارية الذين قد يخصمون من أصوات حزب الشعب الجمهوري أو الذين ليست لهم أحزاب قوية. ثم أنصار الحريات والديمقراطية الذين يرون في حزب الشعوب الديمقراطي مشروعًا أفضل للديمقراطية بفضل برنامجه الواعد بالكثير من الحريات ومنها حقوق المثليين، وكذلك لرغبتهم في تمثيل فئات أوسع من المجتمع داخل البرلمان التركي.

أما المصدر الأخير فهو القوى الراغبة في تكبيد العدالة والتنمية أكبر قدر من الخسارة في المقاعد البرلمانية حتى تصده عن تحويل تركيا إلى نظام رئاسي، والانفراد بالسلطة المطلقة، ويأتي على رأسهم أنصار جماعة فتح الله كولن، التي قد تصوت في المناطق الكردية لصالح حزب الشعوب الديمقراطي.

ماذا يعني فوز أو فشل حزب الشعوب الديمقراطي؟

إذا نجح حزب الشعوب الديمقراطي في الحصول على نسبة أصوات 10% أو أكثر، فإنه بذلك سيدخل البرلمان التركي، ويمثل قوة سياسية بأكثر من 55 مقعدًا برلمانيًا تؤثر في اتخاذ القرارات الحكومية، ويمتلك ثقلا يفاوض بقوة من أجل استكمال عملية السلام مع الأكراد.

كما أن فوز الحزب سيربك، بل ويعطل مشروع أردوغان بتحويل تركيا إلى نظام رئاسي. وهو الأمر الذي يستوجب تعديلا دستوريًا يحتاج إلى حصول العدالة والتنمية على موافقة أغلبية ثلثي البرلمان أي 367 من مجموع 550 نائبًا، أو على الأقل موافقة 330 نائبًا لإحالة التعديل الدستوري إلى الاستفتاء الشعبي.

ومن ثم فإن حصد حزب الشعوب الديمقراطي لأكثر من 10% كفيل بتجميد مشروع النظام الرئاسي الذي ترفضه كافة أحزاب المعارضة الكبرى خشية اسئئثار أردوغان بالسلطة دستوريًا. وهو ما يفسر الجهود الدعائية المكثفة التي يبذلها العدالة والتنمية لتقليل فرص فوز الشعوب الديمقراطي في هذه الانتخابات.

أما في حال فشل حزب الشعوب الديمقراطي بتخطي العتبة البرلمانية، فإن تصريحات قادة الحزب وآراء المحللين السياسيين الآتراك تشير إلى عودة حالة الاضطراب السياسي، والعنف المسلح. حيث سيصبح الأكراد وقضيتهم خارج البرلمان كلية، ويتبدد لديهم الأمل في المعالجة السياسية السلمية لقضيتهم.

بل إن بعض المحللين السياسيين يذهب إلى احتمالية اندلاع حرب أهلية مرة أخرى بين الدولة والأكراد، واشتعال المنطقة بالعمليات الإرهابية من جهة والعمليات العسكرية التركية من جهة أخرى على الحدود التركية السورية خاصة.

بالإضافة إلى ذلك فإن المقاعد التي حصل عليها حزب الشعوب الديمقراطي ستؤول وفقا للنظام الانتخابي إلى الحزب الحاصل على المرتبة الثانية في ذات الدوائر، وسيكون بالطبع هو حزب العدالة والتنمية، حيث لا يوجد ثقل يذكر لحزبي الشعب الجمهوري أو الحركة القومي في المناطق الكردية بجنوب وشرق الأناضول. وعليه يحصد العدالة والتنمية مقاعد كثيرة تؤهله لإجراء التعديل الدستوري الذي ينشده، ما يؤدي إلى خيبة أمل لدى المعارضة التركية بشكل عام.

وهو ما يفسر توجه أحزاب المعارضة إلى دعم حزب الشعوب الديمقراطي في المناطق التي لا يوجد لهم فيها ثقل انتخابي خشية فوز العدالة والتنمية بأغلبية الثلثين.

وفي النهاية، يمكن القول أن هذه الانتخابات البرلمانية خاصة تحمل فرصًا للتعايش والاستقرار السياسي والمجتمعي أكثر مما تحمله من تحديات لدى بعض الأحزاب المتنافسة. ولا ريب أن الشعب التركي رغم حالة الاستقطاب السياسي الحادة التي يعيشها حاليًا، يدرك مسئوليته في دعم استقرار الدولة والحفاظ على مكتسباتها وترسيخ مبدأ التعايش السلمي. ودائمًا ما تسفر نتائج الانتخابات في تركيا عن مفاجآت يسطرها الناخبون في بطاقات الاقتراع.

*أكاديمي متخصص في الشأن التركي – جامعة عين شمس

إقرأ المزيد

انفوجراف | كل ما تحتاج أن تعرفه عن الانتخابات البرلمانية في تركيا تأثير الانتخابات التركية على العلاقة مع الكيان الصهيوني هل تؤثر الانتخابات البرلمانية علي الدور التركى في سوريا؟ قراءة في الانتخابات التركية وأثرها على تركيا والمنطقة كيف نظر المصريون للتجربة التركية؟