ونُودي عليه: هذا جزاءُ من يقتل ابن أستاذه، يعني الملك الناصر محمـد بن قايتباي، ويحلفُ الأيْمانَ الكاذبة، ويقتل الملوك!
حين نودي على السلطان طومان باي الأول في شوارع القاهرة!

في جمادى الآخرة من عام 906هـ وقفنا مع مقتل السلطان الأشرف جان بلاط، بعد ستة أشهر فقط تولى فيها أمور السلطنة؛ ورأينا كيف أن «صانع السلاطين» الداهية الماكر القاتل المخادع الدوادر الكبير طومان باي الأول، قد ساعده على تولي وارتقاء هذا المنصب؛ بعد خلع السُّلطان قنصوه الأشرفي الأول، الذي هرب من قلعة الجبل بالقاهرة بعد ما أطبق الجميع عليه الحصار بتآمر طومان باي الأول.

وبمقتل السلطان جان بلاط، واتفاق الثلاثي طومان باي وقصرو أمير الشام وقائد الجيش الجديد، والأمير قانصوه الغوري (رأس نوبة النوَب) بمثابة قائد المماليك السلطانية أو رئيس الأركان؛ ارتقى طومان باي الأول إلى عرش المماليك متلقبا بالملك العادل، والأمير قصروه إلى قيادة الجيش، والأمير قنصوه الغوري إلى منصب «الدوادر الكبير» أي مساعد السلطان وسكرتيره الأول.

وقد كان طومان باي الأول جركسـيُّ الجنس مثل من سبقوه من السلاطين في دولة المماليك البرجية أو الثانية (784- 923هـ)، وقد اشتراه الأمير قانصوه اليحياوي نائب أو أمير دمشق، وأهداه إلى السلطان الأشرف قايتباي، فألحقه بثكنات القلعة «الطِباق»، ثم أعتقَه في حفل التخرج، وجعله من جُملة الحرس السلطاني الخاص «الخاصكية»، ثم أصبح خازندارًا سنة 898هـ في أواخر عصر السلطان قايتباي، أي المسئول عن الخزائن السلطانية.

وفي سلطنة الناصر محمد بن قايتباي (901 – 904هـ) تمت ترقيتُه فأصبح أميرًا صغيرًا على عشرة جنود، ثم صدر قررا بتعيينه نائبَ الإسكندرية سنة 902هـ، ثم ترقّى وأصبح أمير طبلخاناة أي قائدًا على أربعين جنديًا، على وظيفة دوادار ثاني (نائب السكرتير السلطاني)، ثم أصبح أمير مائة مقدَّم ألف في دولة الظاهر قانصوه الأشرفي الأول، ثم ترقّى بعد ذلك ليجمع عدة مناصب في آن واحد هي أمير سلاح (قائد الأسلحة)، ودوادار كبير (مساعد السلطان وسكرتيره)، ووزير استدار، وكاشف الكُشّاف (رئيس المحافظين)، ثم أضحى الرجل الأول في دولة الأشرف جانبلاط رغم أنه لم يتقلد قيادة الجيش[1].

آثر العادل طومان الأول أن يتخذ سياسة اللين والمهادنة مع الناس فيما قبل السلطنة، بخلاف سلفه جان بلاط الذي سفك الدماء، وتعامل مع بعض العلماء الكبار بالاستهزاء والسخرية والاحتقار، ولهذه الأسباب سرعان ما أُعجب الناس بالعادل؛ لمهابته وميله إلى المسالمة معهم، لكن كل ذلك تغيّر عقب اعتلائه للعرش، وقضائه على الأشرف جانبلاط.

فلقد اتخذ سياسة جديدة قائمة على القسوة وفرط استخدام السلطة والقوة؛ إذ ظن أن الجميع في يديه، والكل يركع له، حتى لم يسلم منه رجل جليل القدر في الدولة والمجتمع مثل قاضي قُضاة الشافعية الشيخ محيي الدين بن عبد القادر بن النقيب، فقد عزله عن وظيفته، ثم شهَّرَه في شوارع القاهرة مثل أصحاب الجرائم من اللصوص وقُطاع الطريق، وأقرَّ عليه غرامةً فادحة، ثم لم يقف عند هذا الحد؛ فقد تجرأ وعزل قاضي قضاة الحنفية أيضًا الشيخ بُرهان الدين بن الكركي الذي بايعه عند ارتقائه لسدة الحكم، وبسبب هذا الإجرام هرب الكثيرون من أصحاب المناصب من مصر، وأنزل عقوبة الإغراق على آخرين.

لم يقف إجرام العادل طومان باي عند هذا الحد، فقد كان ظالمًا بخلاف لقبه الجديد؛ إذ أدرك أن الانقلابات العسكرية في السنوات الماضية كان على رأسها قادة الجيش المملوكي؛ الذي استغلوا على الدوم سلطتهم المخولة لهم بالقبض على السلاطين أو قتلهم، وظل هذا الهاجس يراوده؛ لا سيما من الأمير قصروه الذي أعلن العصيان والتمرد في زمن السلطانين قانصوه الأشرفي وجان بلاط؛ لذا اتخذ طومان باي الأول قراره بالقضاء على قصروه من قبل أن يفكر هو الآخر بالقضاء عليه، واستغلال الفرص.

وفي أحد الأيام استدعى السلطان العادل غريمه قائد الجيش الأمير قصروه، ويروي لنا ابن إياس هذا المشهد الغريب الذي ينم عن عقل هذه الشخصية الطاغية، ونفسيتها وهواجسها وقلقها، قائلاً له: «قلبي خائفٌ منك يا أمير كبير»، لم يكن طومان باي الأول يملك أدنى دليل على ما سيصنعه قصروه فلربما يحترم هذا الأخير اتفاقه بمساندته طوال سلطنته؛ لكنه لم يأمن له، ثم بادر بالقبض عليه، ثم على الفور أمر بخنقه وقتله[2].

لم يُصدق كبار الأمراء، وعامة الناس أن تكون نهاية رجل عظيم القدر مثل قصروه بهذه البساطة وهذا التقلب في المزاج، وسرعان ما كرهه الجميع، وزوال حبه من قلوب الناس على حد وصف مؤرخي تلك الحقبة، ثم خافه الأمراء؛ ذلك أنهم خشوا على أنفسهم من مصير الموت السريع كمصير قائدهم قصروه، ومن ثم قرر عدد كبير من هؤلاء الأمراء الهرب، واختفى العدد الجم منهم في أزقة وحواري القاهرة.

أما كبار الأمراء من القيادات العليا القريبة من دوائر صنع القرار فقد اتخذوا قرارهم السريع بتدبير مؤامرة على عجَل للتخلص من هذه الشخصية الماكرة الخادعة، وقد رأوا سرعة تقلبها لا على قصروه وحده، بل على السلطانين السابقين. وقد تزعّم هذا الانقلاب الجديد الأمير قانصوه الغوري رأس نوبة النوب (رئيس الأركان)، والأمير قيت الرجَبي أمير سلاح (قائد الأسلحة)، فضلًا عن عدد كبير من الأمراء الآخرين من ذوي النفوذ والقوة والعصبيات المؤيدة.

كانت خطة الفريق المناوئ تتمثل في توسيع دائرة اهتزاز الثقة في السلطان العادل، ومزاجه المتقلب وخطورة ذلك لا على مناصبهم وألقابهم فقط، بل على حياتهم أيضًا؛ لذلك أشاع المتآمرون أن السلطان طومان باي الأول ينوي الغدر بهم، مما سوّغ اختلاق الأعذار، وتخلي الفريق المؤيد للسلطان من الأمراء والجند عنه، بل قرر هذا الفريق توسيع دائرة الإشاعات بين المدنيين في القاهرة لينقلب السخط والغضب إلى حالة عامة بين الجميع.

وبالفعل، سرعان ما انتشـرت الأخبارُ في القاهرة، فاتسعت المعارضة، وظهر جماعة الأمراء المختفين ليشاركوا في الانتفاضة الشاملة على حكم العادل طومان باي الأول[3]، وقد أدرك هذا السلطان أن النهاية قد لاحت، وأنه تحت سهام الجميع، ورأى أن النهاية هي مقتله؛ فقرر على الفور ترك منصبه شاغرًا، وقرر الهرب؛ ليبدأ في سلسلة من المطاردات؛ وذلك في آخر ليلة من شهر رمضان سنة 906هـ، يقول ابن إياس في «بدائع الزهور في وقائع الدهور»: «فكانت مُدّة العادل طومان باي في السلطنة بالديار المصـرية مائة يوم، وكان ملكًا جليلًا، مُهابًا مبجّلًا، تولّى الملك وقد جاوز الأربعين سنة من العمر.. غير أنّه كان سفّاكًا للدماء، عسوفًا ظالمًا»[4].

وبالرغم من صعود قانصوه الغوري سلطانًا بعد العادل طومان باي الأول؛ فإن القلوب والنفوس كلها كانت تشتد حنقًا وغيظًا على هذا السلطان الطاغية؛ ومن هنا صدر القرار بالتضييق على منافذ القاهرة وأبوابها؛ والبحث في كل بيوتها وأزقتها؛ حتى جاءهم الخبر بوجوده بأحد بيوت القاهرة بعد شهرين من اختفائه، فاتجه عدد كبير من الأمراء والجنود صوب مكان اختفائه، وحاول الهرب منهم من فوق الأسطح، لكنهم استطاعوا القبض عليه، وقتله من لحظته، حتى «قطّعوه قطعًا قطعًا» كما يقول ابن الحمصي في تاريخه. ولم يكتفوا بهذا، بل قطعوا رأسه، وطافوا بها في شوارع القاهرة حيث نادى المنادي: «هذا جزاءُ من يقتل ابن أستاذه، يعني الملك الناصر محمـد بن قايتباي، ويحلف الأيْمان الكاذبة، ويقتل الملوك»[5]، وانتهى زمن الانقلابات السريعة لتدخل دولة المماليك في طور آخر من الغفلة والانهيار مع مجيء السلطان الغوري!

المراجع
  1. ابن إياس: بدائع الزهور 3/464.
  2. ابن إياس: بدائع الزهور 3/467.
  3. محمد سهيل طقوش: تاريخ المماليك ص475.
  4. ابن إياس: بدائع الزهور 3/476، 477.
  5. ابن الحمصي: تاريخ حوادث ووفيات الشيوخ والأقران ص400.