وكان الأشرف جان بلاط قطيع القلب، قليل الحظّ، عسوفًا ظالمًا، حصل منه في مدة سلطنته للناس غاية الضرر من المصادرات وأخذ الأموال، ولو أقام في السلطنة حصل للناس منه غاية المشقة من الظلم والأذى، فعجّل الله به.
وصف المؤرخ ابن إياس للسلطان الأشرف جان بلاط

كان القضاء على السلطان المراهق السفّاك للدماء الناصر محمد بن قايتباي، بموافقة خاله الأمير قانصوه الأشرفي، حلا لمشكلة متفاقمة بلغت فيها السلطنة المملوكية نوعًا جديدًا من الانحطاط والسفه؛ وذلك بعد ثلاثة عقود من القوة والمهابة كانت قد بلغت أوجها في عصر السلطان الأشرف قايبتاي (872- 901هـ).

خال السلطان القتيل في منصب ابن أخته!

ومن جديد عادت مسألة السلطنة والعرش إلى النقاش بين كبار الأمراء المقدَّمين؛ فمن ذَا الذي يملك الجرأة إلى بلوغ هذا المنصب الذي صار مغرمًا بعدما كان مغنمًا وقوة وهيبة تمتدُّ من الأناضول إلى ليبيا إلى الحرمين الشريفين؟ ومن هنا، فقد اجتمع كبار الأمراء وكان الرأي الغالب تعيين “شيخ الأمراء” وكبيرهم، وأحد أبطالهم القدماء في ساحات المواجهات المملوكية العثمانية وغيرها؛ الأمير أزبك مِن ططخ، أو أزبك الططخي، وهذا الرجل هو الذي أنشأ حيّ الأزبكية القائم إلى اليوم في القاهرة، وكان امتدادًا شماليًا أملته الضرورة في نهايات عصر المماليك، وأنفق على هذه الحي الجديد مئات الآلاف من الذهب، وصار منذ ذلك الحين حي النخبة المدنية والعسكرية لمدة قرون حتى العصر الحديث.

كان أزبك يُدرك خطورة هذا المنصب الذي صار خطرًا ومغرمًا؛ تتطلع العيون كلها إليه؛ لكن لا تجرؤ على الإقدام لأنها ستنقلبُ على صاحبه فيما بعد كما فعلوا مع السلطان المراهق محمد بن قايتباي، وكان أقرب أقربائه على رأس هؤلاء القتلة، ومن هذا الباب رفض أزبك مؤثرًا أن يظل على رأس الجيش المملوكي، قائدًا عامًا له.

من ثمّ، اتفق الجميع على سلطنة الأمير قانصوه الأشرفي أو قانصوه الأول، وهو يختلف عن السلطان المملوكي الأشهر قانصوه الغوري الذي سنقف معه فيما بعد، وهو خال السلطان السابق، وبالفعل وافق قانصوه على الارتقاء لعرش سلطنة المماليك في ربيع الأول سنة 904هـ، فلُقّب بالملك الظاهر وأبقى الأمير أزبك مِن ططخ في قيادة الجيش تقديرًا واحترامًا لتاريخه.

ثم إنه قرر ترقية عدد من الأمراء الذين ساعدوه على الوصول لهذا المنصب، وعلى رأسهم الأمير طومان باي الدوادار الثاني، وهو غير السلطان المملوكي الأخير طومان باي الثاني، وكان هذا الأمير من جملة الضالعين في قتل السلطان محمد بن قايتباي، فارتقى إلى منصب الدوادارية الكبرى – سكرتير السلطان وساعده الأيمن –  وأضيف إليه مناصب الوزارة والاستدارية (المشرف على القصور السلطانية)[1]

أما السلطان الجديد، فالملاحظ في تاريخه يجده رجلاً ارتقى إلى مناصبه بالوساطة والمحسوبية؛ فبسبب قرابته للسلطان القوي الأشرف قايتباي، وكونه خالا للسلطان المغدور محمد، فقد ترقى من مجرد عسكري صغير إلى أمير طبلخاناة أي قائدًا على أربعين عسكريًا مرة واحدة، ثم إلى منصب الوزارة، ثم إلى الدوادارية الكبرى أي سكرتير السلطان وساعده الأيمن، ثم أصبح سلطانًا في نهاية المطاف، كل هذا في ست سنوات فقط منذ مجيئه من بلاد الجراكسة ودخوله في كنف السلطان الأشرف قايتباي، «وهذا لم يتفق لأحد من الأتراك قبله»[2] كما يذكر ابن إياس في تاريخه.

أحسّ قانصوه الأشرفي بسبب نقص خبرته العسكرية والسياسية، والأحداث التي أودت به إلى منصب السلطنة بافتقاره إلى القوة المناسبة التي تؤيده على الدوام، صحيح أن البلاد شهدت حالة من الهدوء في ولايته، لكنه لضعفه السياسي والعسكري؛ أصبح يكيل المسئوليات إلى من حوله؛ حتى أصبح مجرد صورة، يتحرك من خلفه مراكز القوى الحقيقية مثل الأمير طومان باي الدوادار الكبير، ونائب دمشق الأمير قصروه.

استغل أمير الشام قصروه ضعف السلطان في القاهرة ليعلن العصيان والتمرد ويحاول الاستقلال بما تحت يديه، وفشل السلطان قانصوه الأشرفي في وأد هذه الحركة؛ الأمر الذي جرّأ سكرتيره ومساعده طومان باي الدوادر إلى قيادة انقلاب عسكري مباغت، حاصر فيه قلعة الجبل في القاهرة، ولم يجد السلطان الضعيف قانصوه الأشرفي خيارًا إلا أن يسلم نفسه، وسيكون مصيره السجن أو القتل أو يحاول الخلاص بنفسه من هذا المصير القاتم، وبالفعل هداه تفكيره إلى الهرب من القلعة في زي النساء، ليختفي في أزقة وحواري القاهرة، ولا يُعثر له من بعدها على أثر.[3]

وبعد هروب الظاهر قانصوه، اجتمع طومان باي الدوادار الكبير بقائد الجيش الجديد الأمير جان بلاط وعدد آخر من كبار الأمراء آنذاك، وتشاوروا فيمن يلي السلطنة، وبالرغم من أن طومان باي كان الأبرز والسبب الرئيسي في خلع قانصوه الأشرفي؛ فإنه لم يجروء على إعلان رغبته ومطامعه في شغل منصب السلطنة الشاغر، مع وجود الأمير جانبلاط قائد الجيش ونائب الشام السابق، والأمير تاني بك الجمالي أمير سلاح «قائد الأسلحة» وهما أكبر منه منزلة ورتبة.

أدرك طومان باي الدوادار أن الشخصية الأقوى تتمثل في قائد الجيش الأمير جان بلاط، فقرر على الفور ترجيح كفته ودعمه، ليعيد الكرة من جديد، وللمرة الثانية يصبحُ طومان باي الدوادار هو السبب في سلطنة سلطان جديد؛ حتى إننا يمكن تسميته بصانع السلاطين.[4]

جان بلاط من قيادة الجيش إلى القتل!

هو الأمير جانبلاط بن عبد الملك الأشرفي، اشتراه الأمير المملوكي الشهير يشبَك مِن مَهدي الدوادار وأهداه إلى السلطان الأشرف قايتباي ليصبح من جملة مماليكه العسكرية، فظلّ في ثكنات قلعة الجبل يتعلم فيها العلوم الشرعية والعسكرية كدأب أقرانه، حتى أعتقه السلطان قايتباي وجعله من جُملة الحرس السلطاني الخاص “الخاصكية”، ثم ترقّى في ظل سلطنة الأشرف قايتباي ليبلغ الرتبة العسكرية الأرفع آنذاك؛ «أمير مائة مقدَّم ألف»، ثم تولى نيابة السلطنة في كل من حَلب ثم دمشق.

وحين ارتقى السلطان الظاهرة قانصوه الأشرفي خال السلطان القتيل محمد بن قايتباي استدعاه ليُعيّنه قائد الجيش المملوكي «أتابك العساكر» خلفًا للأمير الشهير أزبك من ططخ بعد وفاته سنة 904هـ، فظلّ جان بلاط في منصبه هذا حتى اتّفق مع الأمير طومان باي الدوادار على خلع الظاهر قانصوه الأشرفي، ثم دعّمه طومان باي الأول ليرتقي جان بلاط إلى منصب سلطان الدولة المملوكية، كما تلقّب بالملك الأشرف، وهو لقب أستاذه السلطان قايتباي.[5]

ارتقى السلطان الأشرف جانبلاط العرش في 2 ذي الحجة سنة 905هـ بإيعاز ودعم من الأمير طومان باي كما مر بنا، وكان الهدف من وراء ذلك أن يمهد هذا الأخير الأمور لنفسه، وقد أصبح طومان باي هو الرجل الأول في دولة جانبلاط بالفعل رغم وجود من هو أعلى منه رُتبة في قيادة الجيش وقيادة السلاح.

أما في الجبهة الشامية، فقد كان عصيان أميرها قصـروه لا يزال على حاله بعد فشل السلطان السابق قانصوه الأشرفي في وأد هذا العصيان والتمرد، وقد حاول السلطان الجديد جانبلاط استخدام الوسائل السلمية لردعه، فأرسل إليه يعلمه أنه مرشّح لمنصب «أتابك العساكر» أي قيادة الجيش لعله يلين أو يرعوي، لكن قصـروة رفض ذلك، وتمادى حين أعلن نفسه سلطانًا على بلاد الشام، ثم تلقّب بالملك المؤيد، وأمام هذا التشظي المملوكي المملوكي، وانقسام الدولة على نفسها، كلف السلطان جانبلاط الأمير طومان باي الدوادار وأمير سلاح، والأمير تاني بك الجمالي قائد الجيش بالتوجه صوب الشام على رأس حملة عسكرية لمواجهة وسحق هذا التمرد.[6]

لكن ما إن وصل الأمير طومان باي إلى الشام على رأس الجيش المصـري، حتى تلقَّاه الأمير المتمرد قصـروه بالترحاب والهدايا، ثم فاوضه في خلع جانبلاط وسلطنته بدلا منه، في مقابل دعمه وهو أقوى الأمراء في بلاد الشام، وسيد خزائنها وخيراتها، وربما كان ذلك بتدبير طومان باي نفسه؛ إذ سبق له التواطؤ مع قصروة في عهد الظاهر قانصوه الأشرفي، وبالفعل تمت مبايعة طومان باي بالشام بحضور قُضاتها، وخلع سلطان مصر جان بلاط، ولقّب نفسه بالملك العادل، وذلك في جمادى الآخرة سنة 906هـ، وفي المقابل ارتقى أمير الشام قصروة قائدًا للجيش المملوكي، وكان الأمير قانصوه الغوري الذي سيصبح سلطانًا فيما بعد في تلك الحملة، وكان رأس نوبة النوب «رئيس الأركان»، فاتفق مع طومان باي وقصـروه على هذا الانقلاب العلني في مقابل تولى وظيفة طومان باي «الدوادارية الكبرى» التي كانت تعدل الوزارة وسكرتارية أو مساعد السلطان الأول.[7]

عاد الثلاثي العادل طومان باي وقائد الجيش قصـروه والدوادر الكبير قانصوه الغوري على رأس الجيشين المصـري والشامي، فضلاً عن عدد كبير من قوات البدو/العربان وغيرهم، إلى القاهرة في جمادى الآخرة من نفس ذلك العام، وتمكنوا بسهولة شديدة من دخولها ومحاصرة القلعة، دون أن يُنزلوا بالعامة وسكان القاهرة أي ضرر، «فتزايدت له الناس بالأدعية السنية»[8]، واشتد الحصار على جانبلاط، فقرر الاستسلام، ثم ما لبث أن قبض عليه طومان باي وقتله، وبهذا قضى طومان باي الأول على السلطان الثاني الذي كان سببًا في تعيينه وصعوده للقمة.[9]

كانت مدة سلطنة الأشرف جانبلاط «ستة أشهر وثمانية عشر يومًا، وكانت هذه المدة في غاية الضنك مع الأمير طومان باي، وآخر الأمر وثب عليه وخلعه من السلطنة.. وكان الأشرف جانبلاط قطيع القلب، قليل الحظّ، عسوفًا ظالمًا، حصل منه في مدة سلطنته للناس غاية الضرر من المصادرات وأخذ الأموال، ولو أقام في السلطنة حصل للناس منه غاية المشقة من الظلم والأذى، فعجّل الله به»[10]. كما أخبرنا ابن إياس، ليرتقي «صانع السلاطين» طومان باي الأول، أخيرًا إلى عرش السلطنة ليذوق وبال أمره، وذلك ما سنراه لاحقًا.

المراجع
  1. ابن إياس: بدائع الزهور 3/405.
  2. ابن إياس: بدائع الزهور 3/406.
  3. ابن طولون: مفاكهة الخلان ص186.
  4. طرخان: مصر في عصر دولة المماليك الجراكسة، ص45.
  5. الغزّي: الكواكب السائرة 1/172، 173.
  6. ابن إياس: بدائع الزهور 3/451.
  7. الغزي: الكواكب السائرة 1/295، 296.
  8. ابن إياس: بدائع الزهور 3/458.
  9. ابن إياس: بدائع الزهور 3/462.
  10. ابن إياس: بدائع الزهور 3/463.