بينما تنشغل المنطقة بالأزمة الخليجية القطرية ومستجداتها المتلاحقة، وبما تعلنه المملكة السعودية من قرارات وأوامر ملكية جديدة، تظهر في الأفق مساع جدية لانفصال إقليم كردستان العراق، يقودها رئيس الإقليم «مسعود البرزاني» أو رجل الاستقلال الكردي كما يسعى لأن يكون، فيما لا يفصلنا عن هذا سوى نحو ثلاثة أشهر فقط.

إذ قرّرت حكومة كردستان العراق إجراء استفتاء خاص باستقلال الإقليم عن العراق وحددت يوم الـ 25 من سبتمبر/أيلول المقبل موعدًا لانفصال ذلك الإقليم الغني بالنفط، والذي يتمتع بحكم ذاتي منذ العام 1991، موضحةً أن الاستفتاء سيشمل الإقليم والمناطق الكردستانية خارج إدارته المتنازع عليها مع الحكومة العراقية.

نحن إذن أمام استفتاء جديد له أهمية خاصة، بموجبه يمكن أن يحقق الأكراد أمانيهم التاريخية في بناء دولة كردية خالصة، لا يمكن اعتبار الأمر محليًا بأي حال، فهو أمرٌ له أبعاد دولية، مما جعله يثير اهتمام دول العالم المختلفة، حيث توالت ردود الأفعال الدولية الرافضة لهذه الخطوة، سواءٌ من القوى الكبرى أو القوى الإقليمية، فيما لم يؤيده سوى جانب واحد وهو الجانب الإسرائيلي!

الأمر الذي يطرح عددا من التساؤلات حول قدرة الإقليم على الانفصال، ولماذا تمت إثارتها في هذا التوقيت؟ وماذا عن تداعياتها المرتقبة؟


تاريخ الأكراد والإخفاق المتداعي

وللإجابة على هذه التساؤلات يمكن الإشارة إلى نبذة سريعة عن تاريخ الأكراد بالمنطقة، إذ نجد أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ بدأت القوى الدولية (بريطانيا وفرنسا) في رسم وتنفيذ مخططاتها للشرق الأوسط، عبر توقيع معاهدة «سايكس بيكو» عام 1916، وجاءت بعدها معاهدة لوزان الدولية عام 1923، لتصفية الإمبراطورية العثمانية، والتي خسر الأكراد من خلالها حلمهم في بناء دولة كردية موحدة مستقلة وتم توزيعهم على عدد من الدول في مقدمتها تركيا وإيران وسوريا والعراق وأرمينيا وغيرها، ومنذ ذلك الحين والأكراد يكافحون لبناء دولتهم القومية.

في هذا السياق جاءت محاولة أكراد العراق في إقليم كردستان لتحقيق الانفصال عن الدولة العراقية، حيث يقع الإقليم في شمال العراق ويتكون من ثلاث محافظات هي أربيل، والسليمانية، ودهوك، كما يبلغ عدد سكانه نحو 4.6 مليون نسمة، فيما تحده إيران من جهة الشرق وتركيا في الشمال، وسوريا إلى الغرب وبقية مناطق العراق إلى الجنوب.

وفي عام 1991 بعد حرب تحرير الكويت حدث توافق دولي في مجلس الأمن على إنشاء منطقة حظر جوي في شمال العراق، تحولت بعد ذلك إلى منطقة حكم ذاتي كردي، حيث غادرت القوات العراقية من المنطقة وتمّ لاحقاً الاعتراف بها في دستور العراق الاتحادي عام 2005، وجعل اللغة العربية والكردية لغتين رسميتين في العراق.


بارزاني ومحاولة إعادة الأمل

ولدت لاستقلال كردستان، في ظلال علم جمهورية مهاباد، وأريد أن أموت تحت علم دولة كردستان المستقلة
مسعود البرزاني-رئيس إقليم كردستان العراق

هكذا أجاب بارزاني في حوار كانت مجلة فورين بوليسي الأميركية قد أجرته معه، موضحًا عزمه على بناء الدولة الكردية، مشيرًا إلى جمهورية مهاباد، وهي جمهورية كردية كان والده الملا مصطفى قد شارك في تأسيسها في غرب إيران عام 1946، إلا أنها لم تستمر سوى عام واحد ليتم إسقاطها بعد ذلك، محاولًا إقناع الأكراد بأنّ هناك دولة أخرى ستولد بعد سقوط الجمهورية الأولى.

وهنا يرى البرزاني أن البيئة الإقليمية الحالية أصبحت مواتية لإعلان الاستقلال، وذلك بفعل الاهتمام الدولي الذي حظي به كردستان منذ منتصف 2014 بفضل نجاح قوات البشمركة الكردية في وقف زحف تنظيم الدولة على العراق، بعدما سيطر التنظيم على ثلث المحافظات العراقية خلال أقل من شهر.

فقد ظهرت قوات البيشمركة بمثابة قوات مسلّحة مجهزة (في غياب القوات الحكومية الفارة أمام التظيم في بداية المعارك) حاربت التنظيم وما زالت منخرطة في معركة تحرير الموصل، والجدير بالذكر في هذا الإطار أنها لا تمتلك أسلحة هجومية بل تعتمد على الأسلحة الدفاعية، وهو ما أثار إعجاب القوى الإقليمية والدولية، الأمر الذي يستوجب مكافأة كردستان سياسيًا بالحصول على الاستقلال اليوم بعد نجاحاتها.

وإذا كان هذا التقدم على الجانب العسكري، فهناك أيضًا تقدم سياسي ظهر جليًا في إدارة الإقليم لعلاقاته الخارجية، وحل أزماته مع تركيا وإيران والعراق بشكل جيد حال دون تفاقم الأزمات، كما أن الإقليم لديه تمثيل في أكثر من 60 دولة عبر قنصليات عدة، واقتصاديًا يمتلك ثروة نفطية هائلة.

كل هذه فرص يرى الأكراد تحت قيادة بارزاني أنها تؤهلهم لبناء دولتهم، ولكن السؤال الآن هل هناك بالفعل فرصة لظهور هذه الدولة؟


تحديات الاستقلال: تعقيدات الداخل واعتراضات الخارج

يمكن الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من أن هذا التوقيت هو التوقيت الأفضل للأكراد لتحقيق حلمهم التاريخي وبناء دولتهم، حيث انشغال المنطقة بالحروب والأزمات كما هو الحال في سوريا والعراق، وغيرها من المناطق التي يقطنها الأكراد، وعلى الرغم مما بذلوه من بسالة في محاربة تنظيم الدولة ومما يمتلكونه من مقومات لقيام الدولة؛ حيث الأرض والشعب والحكومة، إلا أنه مازالت هناك تحديات عدة، داخلية وخارجية، تقف حجر عثرة أمام بناء دولتهم.

داخليًا؛ تأتي الخلافات الكردية – الكردية على رأس هذه التحديات، إذ لا يوجد توافق سياسي داخل الإقليم على مساعي الاستقلال، وترى القوى السياسية وعلى رأسها حركة التغيير المعارضة وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة «جلال الطالباني» (الرئيس العراقي الأسبق) أن مساعي برزاني هذه بمثابة مناورة سياسية لتثبيت سلطته وتكريس زعامته، كما تطالب هذه القوى بتفعيل البرلمان المعطل أولًا، وحل مشكلات الإقليم اقتصاديًا قبل الاستفتاء.

وهناك صعوبات أخرى تتعلق بالعلاقة بين الحكومة المركزية وحكومة كردستان، إذ تدور بينهما خلافات حول موضوعات عدة؛ أبرزها المناطق المتنازع عليها والتي تبلغ نحو 14 منطقة، في مقدمتها كركوك، تلك المحافظة الغنية بالنفط والتي تمتلك نحو 4% من احتياطي النفط العالمي، فهي وإن كانت لا تقع ضمن محافظات إقليم كردستان، غير أنها تحت سيطرة قوات البشمركة الكردية أمنيًّا، ومن المقرر أن يشملها الاستفتاء، وهو ما ترفضه الحكومة المركزية ويرفضه العرب والتركمان بالمحافظة، حيث لا يرغبون في الانضمام إلى كردستان الدولة الوليدة.

هذا فضلًا عن التحديات الخارجية، ويتمثل أبرزها في الاعتراف الدولي بهم، وهو ما لن يكون أمرًا سهلًا في ظل توالي ردود الأفعال الدولية المتخوفة من نتائج الاستفتاء، والتي حملت في مجملها الرفض لهذا الإجراء، بدايةً من الداخل العراقي مرورًا بالدول الإقليمية ووصولاً إلى القوى الدولية.

فبالنسبة إلى العراق (الحكومة المركزية)؛ لاقت هذه الخطوة كما كان متوقعًا معارضة كبيرة من حكومة بغداد، والتي اعتبرت أن الاستفتاء أمر غير دستوري، ويخلّ بما تم التوافق عليه عام 2005، أما الولايات المتحدة، الحليف الرئيس لأكراد العراق، فقد حذّرت هي الأخرى من أن إجراء الاستفتاء قد يشتّت الانتباه عن محاربة تنظيم الدولة، حسبما صرحت الخارجية الأمريكية، وهو أيضًا ما أكده الاتحاد الأوروبي، وحذرت منه القوى الأخرى كما هو الحال مع ألمانيا وبريطانيا وروسيا. بالطبع هذا فضلًا عن الأمم المتحدة التي سارت في ذلك المسار معلنةً أنها لن تلعب أي دور في هذا الاستفتاء.

أما عن القوى الإقليمية، فكما كان منتظرًا جاءت أشدّ الردود على الاستفتاء من تركيا وإيران، حيث توالت التصريحات الرافضة لهذه الخطوة والمحذرة من تداعياتها، نظرًا لإدراكهما أن إنشاء دولة للأكراد سينتهي حتمًا بتصعيد النوازع الاستقلالية لدى أكرادهما، حيث يبلغ نسبة الأكراد في إيران نحو 11% من السكان فيما يشكلون نحو 20% من تركيا، التي تخوض فيها أنقرة حروبًا متعددة مع حزب العمال الكردستاني منذ منتصف 2013 بعد انتهاء الهدنة المعلنة بينهما، والتي كان من المفترض أن تسفر عن تحقيق السلام بينها وبين أكرادها، إلا أن ذلك لم يتحقق.


للجغرافيا أحكام

محافظة كركوك من أبرز المناطق المتنازع عليها بين الحكومة المركزية وحكومة كردستان حيث تمتلك نحو 4% من احتياطي النفط العالمي
كردستان العراق
كردستان العراق

نتيجة لما سبق، يمكن القول إن مستقبل كردستان لن يتوقف على نتائج الاستفتاء فقط وإنما على المساومات الدولية والموقف من إعلان الدولة الكردية، فيما يطرح هذا تساؤلات عما سيحدث لو تغيرت الظروف واستطاع الإقليم الانفصال الفعلي، هل سيعني ذلك أنه مؤهل للقيام كدولة مستقلة؟ أم ستواجه مزيدًا من العقبات؟

في هذا الإطار سيكون هناك عدد من العقبات في حال تحقق الانفصال؛ أهمها الجغرافيا، فالإقليم منطقة حبيسة غير ساحلية، وبالتالي لن تكون لديه استقلالية تامة وسيظل في حاجة إلى التعاون مع دول الجوار الرافضة أصلًا لقيامه، حيث يعاني من تدهور الأوضاع الاقتصادية به وإذا كان يمتلك الثروة النفطية فهو يعتمد في موارده الأساسية على تصدير النفط عبر ميناء جيهان التركي، ومع الانفصال قد يخسر هذا المعبر، ويظل العامل الجغرافي عائقًا يحول دون تصدير هذا النفط وبالتالي يبقى غير قادر على القيام بمهام الدولة.

وفي الأخير، تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الرفض الدولي لخطوة الاستفتاء قد تلازم مع التأكيد على أن السبب هو التوقيت غير المناسب الآن في ظل الحرب ضد تنظيم الدولة مما يعني أنه قد يتغير قريبًا. ويبقى هناك تساول أخير حول ما إذا كان يمكن لدول الخليج أن تؤيد هذه الخطوة في ظل عدم تعليقها على قرار إجراء الاستفتاء، خاصة مع تداعيات الأزمة الخليجية الراهنة وما يتردد من أنباء عن تلويح الرياض باستخدام الورقة الكردية في وجه تركيا الداعمة لقطر.