في مساء أول يوم من أيام دراستي في دار العلوم، حضرتُ ندوة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وكان شريكَه فيها الدكتور محمد عمارة. سمعتُ الرجلين، فعرفتُ فرقًا ما بينهما، وخلاصته أن الأول يسوسه عقله «بين» القرآن والحديث، فهو متقلّبٌ بين الوحيين، إن فاتته غاية هنا أدركها هناك. أما الآخر فيسوسه عقله «إليهما»، فتارة يدرك، وتارة ينقطع دون الغاية! وما ذاك في الرجلين إلا من أثر البدايات، فليست الكتابة على المحو كالكتابة على البياض. اندفعتُ بعد الفراغ من الندوة نحو الشيخ الغزالي، ولما قمتُ بين يديه، وسلّمت عليه، رأيته ينظر نحوي ويطيل النظر ـ أو هكذا خيل إليَّ. كأنما يستنكه أمرًا تقنَّع بسجاف الغيب، ثم ابتسم.


بين يدي الغزالي

صلينا خلفه العشاء الآخرة، وكان يصلي قاعدًا لعلو سنه، فلما قُضيت الصلاة أردت أن أذكر له مسألة حيرتني في كتبه، فقد كان واسع الخطو في الثناء على العقاد، وفي الحط على طه حسين، حتى قال في بعض ذلك: «العقاد أوسع ثقافة، وأرجح فكرًا، وأقوم قيلًا، بل أكاد أقول: إن المقارنة المجردة بينهما تخدش قدر العقاد»، أو كلامًا هذا حاصله.

كنت آنذاك حديثَ عهد بمقال للعقاد يطري فيه كمال أتاتورك، فعجبت كيف يُكبره الشيخُ الغزالي مع ثنائه على أتاتورك. هذه هي المسألة التي كانت تدور في نفسي، فقصدت إلى الشيخ بعد الصلاة لأسأله فيها، فلما حيل بيني وبينه، قال لمن منعوني: دعوه! فلما جلست بين يديه، وعرضت المسألة عليه، اعتذر بأن ذلك إنما كان من العقاد في بداياته، في كلام آخر لست أذكر منه الآن شيئًا، لكن الذي أذكره أني انصرفت إلى بيتي سعيدًا بما سمعت، فقد كنت وما زلت أكره أن أُساء في العقاد، وكانت هذه أول مرة ألقى فيها الشيخ وآخرها.


الدكتور الجندي والمحاضرة الأولى

في اليوم التالي، غدوتُ إلى دار العلوم مبكرًا لأشهد أول دروس الأدب الجاهلي. كانت قاعة الدرس غاصة بالطلاب والطالبات، فلما دخلتها كأني انقلبت إلى «ريف» مصر، فما رأيت تجاور المدينة والقرية في مكان كما رأيته في دار العلوم، وذلك أن الكثرة الكاثرة من أبنائها من أهل القرى، يغدون مع الصباح إلى «دارهم»، ويروحون مع المساء إلى «دارهم»، وهم في غدوّهم ورواحهم يصطحبون عاداتهم وأفكارهم وسائر ما انطوت عليه صدور الأبناء من تراث الآباء.

انتظرنا الأستاذ الدكتور علي الجندي، رحمه الله تعالى، ليلقي علينا الدرس، فلما دخل القاعة إذا شيخ قد جاوز السبعين، «يمشي الهوينى كما يمشي الوجِي الوحِل»، وهو في ذلك آخذ بعض سرواله بأطراف أصابعه يرفعه حذِرا أن يمسَّ أدناه أعلى حذائه، ومن بين يديه ومن خلفه حَفَظةٌ من «عاملي» الكلية يحولون بينه وبين الطلاب، أو يحولون بينهم وبينه، أن تمسّه يد أحدهم، فيسودَّ بياضُ يومه، وتملأ البلابل صدره سحابة نهاره، ذلك أن الشيخ كان «موسوسًا»، فلا يسلم على أحد إلا غسل يده بعدها، لا بالماء، ولكن ببعض المطهرات الطبية.

كان الشيخ عذْب الحديث ألوفًا. كأنما هو قلب ولسان، قد انهتك بينهما حجاب النفس، فزال كل أثر للتكلف، ذلك الذي تراه عند عامة الناس في ميعة الشباب وفتوته، وكأن النفس في المشيب تكون قد أضناها المسير، فإذا هي لم تنكف عن الغواية بداعي التقوى، انكفت بلازم السآمة. ولقد صدق من قال: «والشيب أوقر والشبيبة أنزق». فإن مادة «و ق ر» في اللسان تدور معانيها على الثقل والسكون، وليست السآمة شيئًا إذا لم تكن هذين.

دخل الدكتور علي الجندي إذن قاعة الدرس، واتخذ مكانه حيث يجلس الأستاذ من طلابه، ثم أخذ فيما تعود أن يأخذ فيه منذ نحو نصف قرن من الزمان، فقد قص عليّ أبي (حفظه الله تعالى) أنه جلس هذا المجلس من الأستاذ نفسه قبل أربعين سنة، وكان يومذاك طالبًا في الفرقة الأولى من كلية دار العلوم.

أملى الأستاذ عشرة أبيات من معلقة امرئ القيس التي مطلعها:

قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل *** بِسِقْطِ اللّوى بين الدَّخول فحَومَلِ

كان ينبذ الأبيات حرفًا حرفًا، كشيخ الكُتّاب حين يعلّم الصبية مبادئ الهجاء، وربما استوقفتْه الكلمة يرى أن أكثرنا لا يُحسن كتابتها، فإذا هو يملي هجاءها حتى يوشك بعضنا أن يكتبها مُقطَّعةً على نحو ما سمعها. وما أشك في أن طائفةً منا كانوا يرمقون المنصّة التي علاها الشيخ، ينتظرون ظهور «مارد» على أثر من تلاوة هذه التمائم «سقط .. اللوى .. الدخول .. حومل .. فتوضح .. المقراة».

بدت كلمات القصيدة غريبة موحشة، قد أنكرتها نفوس أكثرنا بعد أن ترك التعليمُ المدرسي أثره فيها، فأورثها وهَنًا في قوى أصحابها وملكاتهم الذهنية والنفسية، حتى ألفوا السهل القريب الذي لا يُكد ذهنًا، ولا يشغل عقلًا، ولا يقتضي من قارئه فكرًا ولا بحثًا، ولا شيئًا من هذا الجهد الذي لا تُعرف لذة العلم إلا به. نعم، فلذة العلم ها هنا.. في هذا العناء الذي يصادف المتعلمين قبل بلوغ الغاية، ثم بعد بلوغها، ولقد أصاب أبو تمام حين قال:

بصُرتَ بالراحة الكبرى فلم ترها *** تُنال إلا على جسر من التعبِ

فلذّة العلم في هذه المكابدة، ولما غابت هذه المكابدة عن كثير من الناس، عزبت كذلك عن نفوسهم لذتُه.


مكابدة العلم لذة

ولم أزل أذكر قصة معجِبة حكاها لي أحد الأكابر ممن جمع بين العلم والولاية، قال رضي الله عنه: ذهب أحد الشيوخ ليزور ولده في القاهرة، وكان يدرس في الأزهر الشريف، فلما رآه فزع لما رأى، فقد كان ابنه هزيلا:

سأل الشيخ ولده عما ألمَّ به، فقال: مرَّت بي ثلاثٌ لم أَطعم ولم أنم، قال: ولمَ؟ قال: مسألة من العلم لا أعرف لها جوابا، قال الوالد: وما هي؟ قال: رام بعض الفقهاء شرح قوله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال..» الحديث، فقال: «من شوال إلى شعبان في العام التالي»، فلم أفهم كيف يكون ذلك؟، فتبسم الوالد الشفيق، وقال لولده: كُل وسيأتيك الجواب، قال: كلا، لا أطعم أو أعرفَ الجواب، قال: يا بني:«مِن» في الحديث لابتداء الغاية؛ فالمعنى على وَفْق ما يراه هذا الفقيه: ستة أيام تبتدئ من شوال، ثم لا عليك إن أنت فرقت ما بقي منها في سائر العام، أو جعلته كله في شوال.

هذه المكابدة التي عانها ذلك الطالب النابه هي التي تُجرِّعه لذة العلم حين يعرف الجواب، لذةٌ تعدل في عالم العقل لذة الفِراش للمتعب، أو الطعام للجائع في عالم الحس، وقد قالت العرب: «طعام الجائع هنيء، وفراش المتعب وطيء». والأمر بخلاف ذلك في العصر الحديث، فقد غدا «التبسيط» الذي يراد به «التيسير» آفةً في باب المعارف، وهو موصول السبب بسائر الأفكار والمذاهب التي ملأت عقول المحدثين ونفوسهم، في السياسة، والاقتصاد، وفي شئون الاجتماع على اختلافها.

هو بسبب. مثلا، من هذه «الديمقراطية» التي أرادت الناس سواءً، فألزمتهم نمطًا من التعليم واحدًا، ألحقَ الأفذاذ بالشُّذاذ، وتعين أن يكون هذا النمط وسطًا، أو دون الوسط ليقوم به كل الناس، أو ليقوم هو بكل الناس، فخملت الملكات الإنسانية إلا ما تعلق منها بإشباع الرغبات الحيوانية. وغدا العلم الحديث خادمًا للمال، فهو يديره، ويسوسه، ويسوس الشعوب، والأمم، وعقول الناس وضمائرهم، حتى إن الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل ذكر في كتابه «العلم والدين» أن العصور السابقة كانت عصور الدين واللاهوت، أما العصر الحديث فهو عصر «الاقتصاد السياسي».

والسرعة في باب المال والاقتصاد أصل من الأصول، وليس قولهم: «time is money» إلا تجسيدًا لهذا الأصل، فلا عجب أن كانت هذه «السرعة» سمة العصر اللازمة. وأغرارُ الشرق والغرب يستحسنونها، ويرونها من الفضائل التي يتعين اكتسابها. والعقلاء من الغربيين يعلمون حقيقة الشر الذي أفضت إليه، فقد قتلت في الإنسان أعز ملكاته من حيث هو إنسان يمتاز عن سائر الحيوان، أعني ملكة «التفكر».


من «الأكوان» إلى «المكوِّن»

ألحَّ عليه (الهمُّ) حتى أحالَه ** إلى صُفرة الجاديِّ عن حمرة الورد

في باريس لا يمشي الناس، وإنما يعدُون، كتروس الآلات تدور من يمين إلى شمال، ومن شمال إلى يمين في حركة «ثابتة» تبعث في النفس السآمة والملل، وتشغل مع ذلك أصحابها عن التفكير في غيرها، فقد استُغرق الإنسان الحديث في الأشياء حتى غفل عن معنى الإنسانية فيه، فجعل يمشي على محيط دائرة وجوده بدلًا من أن ينصرف من المحيط إلى المركز، هكذا يقول حكماء الغرب، وقد عجبتُ لمطابقة هذا القول لهذه الحكمة العطائية:

«لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى، يرحل والمكان الذي انتقل إليه هو الذي انتقل عنه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكوِّن: «وأن إلى ربك المنتهى». رضي الله عن الشيخ ابن عطاء الله السكندري.

وإذا عدم الإنسان ملكة التفكر «حُكْما»، فإنه يوشك أن يعدمها «حسًّا»، فلزم ما يسمونه «تبسيط العلوم والمعارف»، ولزم أن تشيع في الناس خرافات تُهوِّن من شأن العصور السابقة لترفع من شأن العصر الحديث، فينشأ جيل لا يعرف ولا ينكر إلا ما تعرفه الحضارة الحديثة وما تنكره.

فرغ الأستاذ إذن من أبياته العشرة، وطلب إلى تلامذته «المبهوتين» أن يقوم أحدهم لقراءتها، وقد كنتُ حفظت في شهور الصيف معلَّقتَي امرئ القيس وعنترة وشطر معلقة عمرو ابن كلثوم، وقرأتُ عليها جميعا شرح الزَّوْزني، فرفعتُ يدي أريدُ القراءة، فأذن لي، فقرأت من حفظي، فلما فرغت سألني عن اسمي واسم أبي، فلما أخبرته، جعل يتحدث عن أبي، وكان آنذاك معارًا إلى جامعة الإمارات، فعرفني الزملاء والزميلات منذ ذلك الحين، وبلوتُ أنا من بعدُ حلاوة ذلك ومرارته.