بمجرد عرض الحلقة الأولى من مسلسل «سفاح الجيزة»، حظي العمل -كما هو متوقع- باهتمام واسع من قبل المشاهدين، وهو ما يُعزى بشكل أساسي إلى كونه ينتمي إلى نوعية الأعمال الفنية المبنية على قصة حقيقية، إذ يستند المسلسل إلى القضية المعروفة إعلامياً باسم «سفاح الجيزة»، التي كُشفت تفاصيلها مُصادفةً، حين وقع رجل يُدعى «قذافي فراج» في قبضة الشرطة في قضية سرقة، ليتضح لاحقاً ارتكابه مجموعة من جرائم القتل والنصب والتزوير.

لكن، وعلى الرغم من أن الطبيعة الدموية للقصة الحقيقية، التي شهدت أربع جرائم قتل، فضلاً عن نهاية مثيرة للقاتل، فإن صُنّاع المسلسل لم يكتفوا بذلك، وقاموا بإجراء إضافات إلى أحداثها، وهو ما أثار انتقادات أسرة الجاني، التي نفت صحة الوقائع الواردة في العمل. ليس هذا فحسب، بل إن والد إحدى الضحايا قرّر مقاضاة صناع المسلسل، لعدم رجوعهم إلى أسرتها.

تعقيباً على ذلك، قال مؤلف المسلسل «محمد صلاح العزب»، إنه يقدم عملاً فنياً مُستوحى من أحداث حقيقية وليس عملاً وثائقياً، مؤكداً أنه لا ينقل قصة «سفاح الجيزة»، ولا يقصد بمسلسله شخصاً بعينه.

لكن، إذا لم تكن القصة الحقيقية هي المقصودة فعلاً، فماذا يعني المؤلف بوضع هذه العبارة «مستوحى من أحداث حقيقية» على عمله؟ والأهم، هل ما يجذب الجمهور إلى العمل هو خيال المؤلف أم اعتقادهم بأن ما يشاهدونه هو الحكاية الأصلية؟

خدعة الاستلهام

هذه قصة حقيقية. الأحداث الواردة في هذا الفيلم وقعت في ولاية مينيسوتا عام 1987. بناءً على طلب الناجين، تم تغيير الأسماء. احتراماً للموتى، تم سرد الباقي، تماماً كما حدث.
افتتاحية فيلم Fargo – إنتاج عام 1996.

بالنسبة لصُنّاع العمل الفني، فإن إحدى العقبات التي تواجههم تكمن في كيفية إثارة اهتمام الجمهور بالعمل، حتى أعظم الإنتاجات الفنية قد تواجه هذه المشكلة، لكن مع شاشة سوداء، تتوسطها عبارة؛ «مستوحى من أحداث حقيقية»، قد تكون النتيجة مدهشة، لا سيما لو كان العمل ينتمي إلى نمط الجريمة، حيث يسارع الجمهور عندئذ إلى مشاهدة تلك القصة التي استحقت أن يترك الكاتب خياله الأصيل من أجلها.

لكن، على الرغم من ذلك، فإن تلك العبارة غالباً ما تثير ارتباكاً عظيماً لدى فتح النقاش حول مدى دقة الوقائع الواردة في العمل الفني، ذلك أنها لا تعدو أغلب الوقت كونها حيلة من صانع العمل، ومرد ذلك هو ما يحصل من تحريف للقصة الحقيقية، للحد الذي يخلق معه قصة مختلفة تماماً، لا تمت للحكاية الأصلية بصلة، وهنا، يلقي المؤلف بحجته الشهيرة: «إنه عمل فني مستوحى من أحداث حقيقية، لكنه ليس وثائقياً»، ثم يبرز بالضرورة خلاف حول معنى «الاستيحاء»، ذلك أنه إذا كان يقصد به مجرد التأثر بواقعة معينة في تأليف عمل ما، دون استهداف هذه الواقعة بعينها، فلا يكون ثمة لزوم وقتها لتلك العبارة، وسبب ذلك ببساطة أن الأعمال الفنية عادةً ما تأتي متأثرة، بشكل أو بآخر، بقصة ما.

في افتتاحية فيلم «Fargo»، يؤكد الأخوان كوين أن أحداث الفيلم حقيقية، ليس هذا وحسب، بل ذهبا أبعد من ذلك، حيث زعما أنهما تواصلا مع الناجين في القصة الأصلية، وقاما بتغيير أسمائهما بناءً على رغبتهما. لكن الشيء الأكثر طرافة، هو التأكيد على أن وقائع الفيلم لم يجرِ عليها أي تغيير، وأنها عُرضت كما هي.

في الواقع، لم تكن تلك الافتتاحية إلا تلفيقاً، فالقصة الواردة في الفيلم لم تحصل، نعم، استعان المؤلفان ببعض الوقائع الحقيقية في صناعة العمل، لكن الأمر لم يتجاوز ذلك. بعبارة أخرى، لقد قدّم الأخوان كوين واقعاً من خلال قصة مختلقة. ولعل هذا هو المعنى الأدق لمفهوم «الاستيحاء»، أن تستعين بأحداث واقعية لتطوير قصة زائفة. يقول إيثان كوين:

أردنا صناعة عمل ينتمي إلى نوعية الأفلام المُستوحاة من قصة حقيقية. لا يجب أن يكون لديك قصة حقيقية لصناعة فيلم مستوحى من قصة حقيقية.

على أن الاستعانة بأحداث من الواقع لا يعطي المؤلف الحق في الادعاء بأن قصته حقيقية، أو أنها حتى مستوحاة من أحداث حقيقية، طالما أنه أجرى عليها تغييرات تمس الحكاية الأصلية في جوهرها، ذلك أنه يكون بالإمكان عندئذ وضع هذه العبارة في افتتاحية معظم الأعمال الفنية. بعبارة أخرى، فإن هذا الادعاء هو ما ينقل فعلياً العمل الفني من مجرد التأثر بالواقع إلى كونه يقدم الواقع ذاته، وهو ما يعني ضرورة الالتزام بالقصة الأصلية. لكن، على الرغم من أن الأخوين كوين خالفا ذلك في فيلمهما من خلال تلك الافتتاحية، فإنهما امتلكا سبباً منطقياً لفعل ذلك، سنذكره في موضع لاحق.

لا يعني هذا بالطبع أن الواقع يسبق الخيال على الدوام، أو أن الخيال لا يستطيع أن يفلت من قبضة الواقع، كل ما في الأمر أن هذا الأخير يمثل أحد المصادر الخصبة في إلهام المؤلفين، وعندئذ يفترض أن يُعمل الكاتب خياله في تلك الوقائع، بحثاً عن نسخته الخاصة منها، بحيث لا تعود تنتمي إلى أشخاصها الحقيقيين، أو تعبر عنهم، وبالتالي يتولّد عمل فني تأثر بالواقع، وليس عملاً واقعياً جرى تشويهه باسم الفن.

عندئذ، حتى لو أدرك المُشاهد وجود تشابهات بين العمل الفني والقصة الحقيقية، فإن إضافات الكاتب على العمل تصبح حجته على أن هذا العمل، وإن تأثر بالقصة، فإنه لا يعبر عنها، ما دام لم يقل المؤلف بذلك صراحة، وبالتالي لا يكون عليه لوم، لأن الخيال -كما قلنا مسبقاً- يخرج أحياناً من عباءة الواقع، حتى لو لم يكن المبدع على دراية بوجود هذا الواقع.

بناءً على ما سبق، يصبح وجود تلك العبارة الغامضة؛ «مستوحى من أحداث حقيقية»، شيئاً غير مفهوم على الإطلاق، إلا إذا كان المؤلف يقصد واقعة بعينها، تمس أشخاصاً حقيقيين، وتعبر عنهم. ومع ذلك، فإن هذه ليست المشكلة في حد ذاتها، بخاصة أن هذه الوقائع غالباً ما تكون معروفة لدى الجميع، أو على الأقل، مُتاحة للاطلاع عليها، كما في حالة مسلسل «سفاح الجيزة»، وإنما مكمن الخلاف هو في معالجة تلك الوقائع، بما يُحرِّف حقيقتها، أو ربما المبالغة في تشويه أصحابها. وأكثر من ذلك، تصوير الأشخاص المرتبطين باللاعبين الأساسيين في القصة، والذين لا بد من تضمينهم في العمل، على غير حقيقتهم، وتبرير ذلك بالحجة الشهيرة؛ «هذا عمل فني، وليس وثائقياً، وللعمل الفني متطلباته».

المُشاهِدون

إذا اعتقد الجمهور أن عملاً ما يستند إلى حدث حقيقي، فإن هذا يعطيك الإذن للقيام بأشياء ربما لا يقبلونها بطريقة أخرى.
جويل كوين.

لكن، بصرف النظر عن الخلاف الأخلاقي حول تحريف الأحداث الحقيقية في الأعمال الفنية، فإن ثمة حجة أخرى يطرحها أنصار التحريف، تتمثل في افتراض أن المُشاهِد يفهم طبيعة العمل الفني المبني على قصة حقيقية، وأنه ليس ضرورياً أن تكون كل أحداثه وقعت فعلاً، وهو افتراض يحتاج إلى تدقيق.

إن مشكلة الأعمال الفنية التي تدّعي أنها تستند إلى أحداث حقيقية تكمن، لا في ذلك الادعاء، وإنما في كونها تشير صراحةً إلى وقائع بعينها. وهنا، يكون معروفاً لدى الجمهور أي واقعة يتناولها العمل، وبالتالي يُصبح لزاماً على المؤلف ألّا يُحرِّف في القصة الأصلية، سواء بما يقلب حقيقتها كلياً، أو حتى بإضافات تتفق مع جوهرها، لكنها لم تحصل فعلاً؛ ذلك أنه بتعيينه الواقعة، إنما يحكي قصة حقيقية، تخص حيوات أشخاص مُحددين، يتعيّن أخذ موافقتهم على أي تغييرات يجريها في القصة المعروضة على المشاهدين.

تزداد الحاجة إلى الدقة في سرد الحكاية إلحاحاً عندما يتصل الأمر بأشخاص لم يكونوا فاعلين في الأحداث الحقيقية، الذين يقوم المؤلف بتصويرهم وفقاً لما يخدم عمله، لا كما هم فعلاً.

هذا التحريف عادةً ما يتم تبريره بكون العمل فنياً وليس وثائقياً، كما لو أن المشاهدين يدركون فعلاً الفرق بين الاثنين، وحتى لو كانوا يفعلون، فإن الادعاء بأن العمل مستوحى من واقعة حقيقية، يتسبّب في إرباك عظيم للمشاهد، إذ لا يكون بمقدوره تمييز الحقيقي من الزائف، فهو إما أن يقبل العمل كله باعتباره حقيقياً، وإمّا أنه لا يصدقها على الإطلاق، وهنا لا يكون ثمة فائدة من الادعاء بأن العمل مستوحى من أحداث حقيقية.

ومع ذلك، فإن الفرضية الأولى القائلة إن الناس سيقبلون القصة كلها على أنها حقيقية، هي الأقرب إلى الحدوث أغلب الوقت، بل إن ذلك هو ما دفع الأخوين كوين إلى الادعاء بأن قصة فيلمهما «Fargo» حقيقية.فعلى الرغم من أن أحداث الفيلم الدموية لها سند في الواقع، فقد أدركا أن الجمهور لن يقبل بها إلا إذا اعتقد بأنها حقيقية.

ربما تكون قصة حياة لاعب كرة القدم الأمريكية «مايكل أوهير»، والتي جرى تحويلها إلى فيلم «The Blind Side»، عام 2009، مثالاً واضحاً على مدى تأثير تلك العبارة السحرية «مستوحى من قصة حقيقية» في المشاهدين، حيث كشف أوهير عن استيائه من تصوير الفيلم له على أنه بطيء ذهنياً، وأن ذلك أثّر على مسيرته المهنية، بسبب أن الناس يُعاملونه بناءً على تلك الصورة التي ظهر عليها في الفيلم.

تصريح مفتوح

إذاً، ليست عبارة «مستوحى من قصة حقيقية»، إلا تلك الحيلة التي تُستخدم من قبل صُنّاع العمل الفني بغرض تبرير التلاعب بأحداث الواقعة الأصلية، بحجة أن العمل مستلهم من الواقعة، لكنه لا يعكسها كما هي. ومع ذلك، فإن الفيصل بين تقديم عمل فني مستلهم من قصة حقيقية، وتقديم القصة ذاتها، هو تلك العبارة في الافتتاحية، ذلك أن الأعمال الفنية ببساطة هي شيء من اثنين، إمّا أنها لا تضع هذه العبارة، وبالتالي تُخلِي مسؤوليتها عمّا يعتقده الجمهور حول القصة، وإمّا أنها تضعها، ما يعني بالضرورة أن القصة المعروضة حقيقية، وبناءً على هذا يتعامل المشاهد مع العمل.

ورغم ذلك، فإن المشكلة لا تكمن بالأساس في الخلاف حول الفرق بين الاستلهام من واقعة حقيقية، وتقديم الواقعة ذاتها، إذ يُدرك صُنّاع العمل الفني أنهم بإشارتهم في افتتاحية العمل إلى كونه مستوحى من أحداث حقيقية، إنما يكونون بذلك قد قصدوا واقعة معينة، وبالتالي لا ينبغي لهم تحريفها، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في الاعتقاد بأن الفن يعطي تصريحاً مفتوحاً بتحريف الحقائق.

يصل الجدل حول هذه المسألة إلى ذروته، عندما يتعلق الأمر بالأحداث التاريخية، حيث يكون التحريف بحجة الفن نوعاً من السخافة، ولعل من الأمثلة البارزة على ذلك فيلم «U-571»، الذي أثار سخط البريطانيين، حيث نسب إحدى العمليات التي قامت بها البحرية الملكية البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية إلى الأمريكيين.

ومع ذلك، عندما يأتي الحديث إلى الأعمال الفنية المستوحاة من قصص الجريمة، كما هو الحال في قضية «سفاح الجيزة»، فإن التغيير في الأحداث لا يبدو أنه يثير الجدل نفسه، إذ لا يهتم الناس بالمبالغة في تشويه قاتل، بإضافة بعض الجرائم التي لم يرتكبها إلى سجله، أو حتى التحريف في صورة المقربين منه، والذين لم يكونوا فاعلين في القصة الأصلية، بما يخدم العمل.

وعموماً، عندما يتعلق الأمر بالفن، فإن ثمة خلافاً واسعاً حول حدود حرية الإبداع، وما إذا كان بالإمكان محاسبة المؤلف على خياله، لكن هذا الخلاف يزداد حدة مع ابتعاد الفن عن الخيال لمصلحة الواقع، بتناول أحداث حقيقية، بحيث لا يكون مكمن الخلاف الاعتداء على خيال المؤلف، وإنما اعتداء المؤلف نفسه على الواقع بتشويهه.

وهنا أيضاً لا يجد المتحمسون للفن حرجاً في الادعاء بأن الفن مسموح له بالتغيير في الواقع كيفما شاء، لأنه بطبيعته ليس موضوعياً، أو ربما كانوا أكثر حياءً، فأعلنوا أنه عمل مستوحى، فقط مستوحى، من قصة حقيقية، وليس القصة نفسها،لكن، إذا كان العمل حقاً لا يعكس الواقعة الحقيقية، ألا يكون الأجدر بصناعه أن يعلنوا -تجنباً للالتباس- أنه من وحي خيال المؤلف، لا أن يعلنوا أنه مبني على قصة حقيقية؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.