الحقيقة تستعصي على التبسيط، كما أن التعميم يُخطئ أغلب الاحيان. ومن الذكاء دائمًا عدم الإيمان بالمطلق. أعلم أن البشر يتفاعلون مع الخيال باختلافاتهم، بل إن الواقع الواحد يؤثر في الناس بشكل مختلف، لكن هناك بعضًا من الحقيقة في القول بأن قدرتنا على التعاطف مع الخيال تزداد تبعًا لانفصاله عنا؛ لأنه من الأسهل أن أحاول فهم الأشرار في قصص الخيال وأن أتخذ موقفًا محايدًا منهم أو حتى محاولة فهم معاناتهم ونزواتهم ودوافعهم طالما أننا على علمٍ أنهم لم يؤذوا أشخاصًا حقيقيين.

إن ما يدفعنا لإقصاء أنفسنا عنهم واختزالهم هي غرائز الخوف والغضب لكل الظلم والحزن المُسبَب من قبلهم في العالم (أشخاص شجعان كـ حنة أرندت يمكنهم التمعن في الشر ومحاولة فهمه بشكل مختلف)، أقول إن الخيال يمنحنا الحرية لأن نشعر كما نشعر تمامًا، بالتأكيد هذا لا يعني أنه يُغيّر فطرتنا، فنحب الشر ونمقت الخير، إنما يعطينا حرية تفكيك الخير والشر وفقًا لمشاعرنا وتحيزاتنا في مساحة آمنة وحرة.

بالنسبة لي، مراجعة الكتب بجانب كونها محاولة لفهم مقصد الكاتب والظروف المحيطة بالكتاب والصراعات الواقعية المنقولة لجانب الخيال، تمثل لي في الأساس محاولة الإجابة على أسئلة من قبيل: بم شعرت ولمَ؟

إنها رحلة للتفكر في تجربتي الشخصية مع مساحة الخيال هذه واستخراج الأفكار والأنماط والآفاق الجديدة (إن كان الكتاب جيدًا) التي فتحت لي بفضله.

كأن المآسي هينة أو كأنها تسرد حكاية لا تبتدع عالمًا، تروي «أرونداتي روي» القصة كلها بسلاسة وبساطة، تنقل الجمال المختفي في طيات المأساة.

نسيج النول الملون للأدب النسائي

لطالما آمنت أن الأدب النسائي لابد أن يكون مختلفًا في جوهره عما ينتجه الرجال، ليس فقط لأننا نفكر بطريقة مختلفة، بل نختبر العالم بشكل مختلف أكثر سيولة وانطباعيةً وأكثر غنى بالتفاصيل والذاكرة. كما أن ذواتنا أكثر خارجية وارتباطًا بالآخرين (وهو منطقي بالنظر للأنماط البيولوجية الكبرى إذ إننا المسئولون عن الدعم العاطفي والرعاية وغالبًا ما نكون المركز الحقيقي للأسرة). مع إيماني بهذه الفكرة لا ألبث أندهش كل مرة أقرأ فيها عملًا أدبيًا لروائية من الصف الأول.

فبينما أتلقى الأدب الرجالي (بجانب الشغف والانبهار المؤكدين)، أتلقاها على أنها أعمال معمارية محكمة الحبكة موغلة في التحليل النفسي للشخصيات وعرض المناظير الأخلاقية والأفكار المختلفة وكأن خيالهم في صدام مع العالم (الأمر ليس بهذه الفجاجة بالتأكيد)، بينما يتراءى لي في الأدب النسائي أنه مأخوذ بتفاعل الشخصيات مع العالم وتأثيره عليهم، ففي الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها لا يدهشك البناء المعقد ولا خط الزمن المتراقص من بداية القصة حتى نصل إلى النهاية، بقدر ما يدهشك وصفها الدقيق لنفسية طفلين في السابعة دون الحاجة لصفحات من الحوار الداخلي أو التحليل المطول، كيف لها أن تكتب بهذا الوضوح انعكاس ذوات الشخصيات جميعًا على محيطهم، كأنما ننظر إلى انعكاس صورهم على غدير ماء.

تقول روي في روايتها:

ليس مهمًّا إن كان العرض قد بدأ، لأن الكاتاكالي (رقصة هندية ذات طابع قصصي) قد اكتشف منذ وقت بعيد أن سر القصص يكمن في كونها لا تنطوي على أسرار. القصص العظيمة هي تلك التي سمعتها وتريد أن تسمعها مرارًا. تلك التي يمكنك أن تدخلها من أي مكان وتأوي إليها مستكينًا. فهي لا تخدعك بالإثارة والنهايات المباغتة، ولا تصيبك بالذهول والدهشة بما لا تتوقعه. إنها اعتبارية ومألوفة مثل البيت الذي تسكنه، أو رائحة جلد حبيبتك. أنت تعرف النهاية.

ومع أن كلام روي هذا قد ينطبق على القصص الجيدة أيًا كان كاتبها، إلا أنه يمكننا الاعتراف أن كلامها يعبر تعبيرًا صادقًا عن روح الأدب المكتوب من قبل النساء. الألفة والعفوية وبساطة السرد والأفكار السائلة المتشابكة التي قد لا تكون بنفس وضوح وتجريد الأفكار في عقل الرجل. إن أمكننا تشبيه أعمال الكتاب بنماذج خشبية لأعمال معمارية معقدة، فيمكننا بالمقارنة تشبيه أعمال الكاتبات كنسيج نول ملون منسوج بعناية خيطًا تلو الآخر.

درست أرونداتي روي الهندسة المعمارية، وقالت في مقابلة ما إن ذلك ما ساعدها على إدارة الحبكة المعقدة والخط الزمني لروايتها «إله الأشياء الصغيرة» لكنني وأنا أقرأ الرواية أحسست أنها تنساب من أرونداتي كما تنساب قصة حياة سيدة عجوز تحدث الشخص الجالس جوارها على مقعد في حديقة عامة.

لن أنسى أبدًا كيف أنها حين أرادت وصف الخوف الذي تملك «راهيل» جراء تعنيف والدتها، أن فراشة عث حطت على قلبها وأخذت تضرب بجناحيها. ياله من وصف دقيق وشعري ومثيرٍ للقشعريرة. من المؤكد أن الوصف في هذه الرواية خلاب وشديد الحساسية.

الحب والحمل الثقيل لمنشأنا

كثيرًا ما تُنَاقش هذه الرواية على أنها تصوير معقد للطبيعة الإقصائية والحالة العرقية المركبة للهند في زمن الرواية، إلا أنه من الواجب تسليط الضوء على جانب أكثر خصوصية وارتباطًا بجوهرها:

الوزن الثقيل الخفي الذي نحمله منذ الولادة (البعض أكثر من غيرهم طبعًا)، وهو ما لا نتحكم فيه من خلفية منشأنا وأصلنا وارتباط قدرنا بعوامل لا يد لنا فيها.

فالتوأمان طوال الرواية يعيشان قهرًا خفيًا متنكرًا بسبب خلفية والدتهما وظروف مجيئهما للعالم، ونعايش طوال الرواية محاولاتهما التعايش والتعامل مع الحمل الملقى على ظهريهما منذ الولادة.

الرواية هدم لوهم سيطرة الإنسان وتحكمه في مصيره.

يُهيء لي أن الإنسان لا يكون حرًا تمامًا سوى بعد تخلصه من هذا الحمل وتفكيكه وعدم تحمله سوى نتائج خياراته الشخصية، مما يعني أنه ليس حرًا من الناس سوى القليل وأن الإنسان لا يكون حرًا منذ ولادته. في روايتنا لم يصل «إيستا» و«راهيل» لهذه الحرية بشكل كامل، كما دفعا أثمانًا باهظة على طول الخط.

سؤال آخر هام تطرحه الرواية مضمرًا وصريحًا عدة مرات: من الذي ينبغي عليه أن يحب وكيف وإلى أي مدى؟

طوال الرواية نستكشف أشكالًا شديدة التنوع للحب، كحب التوأمين لبعضهما ولوالدتهما، وتوتر الحب في عائلتهما، وحب والدتهما لـ «إله الأشياء الصغيرة»، والعديد من قصص الحب الناجح والفاشل والمتوتر والمرتخي. إن الحب هو بلا شك محور أساسي للرواية، والحب هو بالفعل ما يقع فيه المرء عند قراءتها.

في صف الأدب المترجم

منطقيٌ أن يكون للمرء شكوكه عند الضلوع في قراءة عمل أدبي مترجم، فلا يمكن إنكار أن بعدًا ما يضيع في عملية الترجمة (حتى الجيد منها) وهو الاختيار الدقيق للكلمات ولأي طريقة يمكننا بها أن نقول شيئا ما.

في ترجمة «طاهر البربري» للنص تأتي فقرة تصف الهالات تحت عيني إيستا وراهيل على أنها «أهلة لطيفة تجمعت تحت عيونهما»، ويصف كونهما في الحادية والثلاثين قائلًا: «لكنهما في عمر قابل للانقضاء». في ترجمة أخرى لنفس النص (ترجمة جهان الجندي) تستحيل الأهلة اللطيفة إلى «أنصاف أقمار رقيقة تجمعت تحت أعينهما» ووصف عمرهما إلى «لكنها سن صالحة للحياة، وصالحة للموت».

دفاعًا عن الأدب المترجم أقول إن اختيار الألفاظ يشكل بعدًا واحدًا من أسلوب الكاتب، وأن الوصف الواحد يبقى نفسه وإن قيل بلفظٍ مختلف. ولم يمكن لأي من الترجمتين عرقلة الوصف السلس البديع وتغيير الصور الملونة والأصوات الموجودة في الرواية. لا يمكن للترجمة الجيدة سوى تغيير الألفاظ لا السرد ولا المعاني.

لطالما كنت في صف الأدب المترجم ضد المتحسسين منه. فالنص الجيد يبقى جيدًا حتى عند قصور ترجمته، واللغة ليست سوى وسيلة نقل للنص المُحمَّل بالمعنى.

ما يراكمه الزمن بداخلنا

ليس من الحكمة أن يدخل الإنسان في صراع مع الزمن، لأنها حرب خاسرة، ليس فقط لأن الزمن لابد وأن ينتصر بل لأن الإنسان يخسر كثيرًا حتى عندما يهزم الزمن.

من المدهش أن «إله الأشياء الصغيرة» هي العمل الروائي الأول لـ أرونداتي، نص محكم كهذا يترك لدى القارئ انطباعًا بأنه ذروة حياة روائية ثرية، لكن معرفة أن كتابة النص استغرقت أربع سنواتٍ، وأن كاتبته لم تكتب بعده إلا بعد مضي عشرين عامًا (عشرين عامًا مُحمَّلة بالنشاط السياسي والعملي) يجعلك تدرك أن أرونداتي لا تكتب سوى ما يراكمه الوقت بداخلها، وأنها لا تتكلم إلا إذا كان عندها ما يُقال حقًا.

درست أرونداتي الهندسة المعمارية، ثم عملت في السينما لعدة سنوات، ومنذ روايتها الأولى «إله الأشياء الصغيرة»، التي تحكي عن واقع وماضي روي بقدر ما تحكيه من خيالها، انشغلت روي بكتابة السيناريوهات والبرامج التليفزيونية والعمل السياسي.

وقالت روي عندما سُئلت عن روايتها الثانية بعد انقطاع طويل عن الرواية، إنها لم تشعر بالضغط للكتابة بعد نجاح روايتها الأولى، وأنها كتبت الرواية الثانية «وزارة السعادة القصوى» لأن الخيال زارها مجددًا وأن شخصيات الرواية زارتها ولم تغادرها.

أعتقد أن نموذج روي الروائي يستحق التصدير في زمننا الذي يبدو فيه الجميع في صراع مع الزمن في محاولة لإنجاز الكثير وللنجاح البراق المدهش.

نقطة أخيرة مثيرة هي أن روي لم تقحم السياسة في روايتها إقحام العارف بالشيء المستغل لمساحة الخيال لنقل اهتماماته ومعارفه، وأن السياسة كأي عنصر آخر في عملها لم تكن خارجة عن محلها ولم تكن سوى وصفٍ بديع لتعقيد الواقع الذي عاشته شخصيات الرواية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.