يُعتبر الفيزيائي البريطاني «ستيفن هوكينغ» أحد أشهر علماء الفيزياء المعاصرين الذين ناقشوا مسألة الوجود الإلهي من جهة طبيعية وفلسفية، وبقدر موضوعي أكثر من متصدري منصات الإلحاد الحديث مثل «ريتشارد دوكنز» و«سام هاريس»، اللذين ينطلقان من دوافع عدائية غاضبة تجاه فكرة وجود خالق للعالم ويقفان بالصد ضد ظاهرة التدين بوجه عام، وهذا أمر بيّن يستطيع كل مُطّلع على الوسط الفكري ملاحظته أثناء مروره على الأطروحات الحالية التي تناقش مسألة خلق العالم، لا سيما قرّاء تراث هوكينغ على وجه التحديد، الذين يلحظون عدداً من السمات المشتركة في كل أعماله، والتي تتغاير مع كثير من سرديات الغضب الإلحادي المعاصر تجاه الأديان.

ولمناقشة موقف أي عالم تجاه أي مسألة، يجدر بالقارئ الإطلاع على ما انتهى إليه هذا العالم، فمن العلماء منْ اتخذ مسلكاً في بدايات رحلته العلمية ثم انتهى إلى آخر، إلا إن أراد القارئ تتبع تحولاً معيناً في موقف هذا العالم، حينها لا بد من فرز جميع مؤلفاته للنظر في التغيرات التي طرأت على اعتقاداته عبر خط زمني يشمل كافة مراحله العلمية، وهذا أمر مهم بالنسبة لمن يؤرخون العقائد ويخوضون في سياقات تحولاتها، أمّا منْ يريد مناقشة قول استقر عليه أحد العلماء، فعليه الرجوع إلى ما انتهى إليه هذا العالم، والأمر بالمثل بالنسبة لهوكينغ وموضوع هذه المقالة، التي ستتطرق لمواقف هذا العالم الفيزيائي، متمثلةً في الكتاب الشهير «التصميم العظيم: إجابات جديدة عن أسئلة الكون الكبرى»، الذي لقي صيتاً كبيراً في أوساط أدب العلوم.

ومما يستشعره قرّاء تراث هوكينغ بوضوح في مؤلفاته الموقف العدائي ضد الفلسفة، حيث سجل موقفاً متطرفاً في كتابه الشهير «التصميم العظيم» ضد المنهج العقلي في المعرفة، وتسبّب بعديد من ردود الفعل الجدلية، فقال:

الفلسفة قد ماتت، ولم تحافظ على صمودها أمام التطورات الحديثة للعلم الطبيعي، بل وخصوصاً في مجال الفيزياء، وأضحى العلماء الطبيعيون هم مكتشفي المعرفة. [1]

وهذا بإزاء دعواه المكررة في غالب كتبه لنبذ السبل الكلاسيكية، المتمثلة بالعلوم العقلية، والاتجاه نحو المعرفة السليمة، والتي تترسخ فيما يُسمى اليوم بالعلم الطبيعي، أو طرق المعرفة الحسية فقط.

لماذا هوكينغ بالتحديد؟

قبيل الشروع في الموضوع، أود الإشارة إلى ثلاث نقاط مهمة تعنى بمناقشة هوكينغ، وهي كالتالي:

  1. ستيفن هوكينغ هو العالم المُلحد الوحيد من بين علماء عصره الذين يجب مناقشة مشروعاتهم من جهة فلسفية، وبالتحديد كتابه الذي أشرنا إليه، والمناقشة الفلسفية لا تعني التغاضي عن الحيثيات المادية الحسية، فإن هوكينغ بدأ بمقدمات علمية محضة في كثير من فصول هذا الكتاب، إلا أن هذه النتائج أصبحت نتائج فلسفية مجردة تتناول ميتافيزيقيات معينة.
  2. إن أي نقاش مع ستيفن هوكينغ لا يعني بالضرورة أن يكون بين طرف ديني وآخر علمي، بمعنى أن الراد على هوكينغ ليس بالضرورة أن يكون متديناً، بل هنالك من العلماء غير المتدينين الذين ردّوا عليه، وهذا أمر يستوجب توضيحه، لأن العديد من الانتقادات التي وُجِّهت إلى هوكينغ تسبّبت في خلق انحيازات لا شعورية لوجود طرف علمي في مقابل آخر ديني، وهذا أمر لا يمت للواقع بصلة.
  3. مناقشة هوكينغ تقودنا إلى أولويات البحث الفلسفي، وأساسيات العلوم العقلية التي تتناول الطبيعة، وبالتحديد مفاهيم مثل «الوجود» و«العدم»، وهو ما يحيلنا إلى ضرورة استخدام المعاني الصحيحة لتلك الألفاظ، لئلا نقع في المجازفات الاصطلاحية، فمفهوم «العدم» على سبيل المثال يُستخدم عند بعض من الملحدين الفيزيائيين مثل «لورانس كراوس» لوصف الفضاء المتذبذب، أمّا العدم في حقيقته فهو نقيض الوجود، وسلب مُطلق له، وما من شيء في العالم الواقعي الذي نشاهده بالإمكان الإشارة إليه لكي نقول فرضاً «هذا هو العدم».

هل هوكينغ مادي أم مثالي؟

شكّك هوكينغ بغرابة في واقعه الذي يعيشه، من خلال تخصيص فصل كامل في الكتاب لهذا الشك، الذي تمحور حول إدراكنا للواقع الموضوعي خارج الذهن، فتساءل قائلاً: هل العالم الواقعي الذي نعيشه هو واقعي فعلاً؟ أي هل هو موجود فعلاً أم هو مُخترَع بطريقة ما؟ وهذا من أغرب ما قد تقرأه لهوكينغ، العالم الذي اشتهر بإثباتاته المادية عن العالم وبحثه الدؤوب عن الأجرام والكواكب والثقوب السوداء، يتساءل هنا: هل نعيش في واقع أم خيال؟ [2]

استعان هوكينغ في هذا الفصل بمثال فيلم The Matrix، الذي تدور قصته حول عالم اصطناعي خيالي اخترعته الآلات لكي يعيش البشر في واقع كاذب يظنونه حقيقة، وذلك من أجل تحقيق مصالح تلك الآلات. وانتقد هوكينغ هنا اعتقاد الناس السائد بأنهم يعتقدون أنهم يعيشون في واقع، ولكنهم لا يعرفون ما مدى صدقية هذا الواقع، وهل هو مستقل فعلاً مثلما نظن؟

الغريب هنا أن هذا الكلام صدر عن عالم كان صارماً تجاه فرض التصور المادي لهذا العالم، ولم يرضَ بقول يُشير إلى انعدام الثقة في التصور العلمي الحسي لهذا العالم، ليأتي في آخر كُتبه ويرفع راية ذلك التساؤل الغريب.

مذهب هوكينغ يقول بوضوح إن الواقع الذي نعيشه ونشاهده لا يطابق الواقع الحقيقي في نفسه، ونحن ككائنات مُدرِكة ذات أدوات إدراكية محدودة، فإننا عاجزون عن الكشف عن حقيقة الواقع، وهذا عين قول الفيلسوف النقدي «إيمانويل كانط».

والسؤال الذي يُوجَّه إلى هوكينغ: كيف توصلت لهذه الحقيقة من معرفة الواقع؟ فإن معرفتك بحسب قوانينك يجب أن تأتي بطريقٍ عبر إدراكك الذي من المفترض أن يكون إدراكاً قاصراً، إلا أنك خالفت اعتراضك الأول الذي مفاده أن العالم الذي يحيط بنا لا يمكن إدراكه، والأمر الذي غفل عنه هوكينغ هو أن عدم إمكانية إدراك الواقع يتطلب إدراكه بطريق معين حتى نصل إلى أن إدراكه يمتنع علينا، وهذه مغالطة فلسفية يقع فيها كثير من أدباء العلوم، والتي يُعبَّر عنها بالنقض الذاتي، أي أن تنقض الدعوى ذاتها.

هل يمكن للاشيء أن ينتج شيئاً؟

طرح هوكينغ في الفصل الثامن مفهوم العدم في سياق الإجابة عن سؤال إنتاج شيء من لا شيء، وافترض إمكانية أن يخلق الكون نفسه بفضل الطاقة السلبية وتساويها مع طاقة الجاذبية، فقال إنه من الممكن أن يخلق الكون نفسه وسيفعل ذلك، وهذا يحدث للحفاظ على استقرار وتوازن الكون، ونظير ذلك فإنه لا يمانع من حقيقة أن يوجد الكون من العدم، وهذه جسارة شديدة في إطلاق الأحكام، لأن الحكم هنا لا يمت للعلم الطبيعي بصلة، بل هو حكم فلسفي بحت. [3]

لكي نكون على خط واضح مع ادعاءات هوكينغ، يجب أن نعي مصطلحاته وما تدل عليه، لا سيما مقصوده بكلمة «العدم»، لأنه يستخدمه للدلالة على أمرين مختلفين، فهو يقصد في المرة الأولى «الفراغ الكمي» الذي يتعرض لذبذبات كمية قد تتعرض لتضخم لتصبح لاحقاً كوناً كاملاً، بينما في المرة الثانية يقصد به «اللاشيئية المحضة»، والسؤال: ما هي الإلزامات المترتبة على الخيارين (وجود الذبذبات / اللاشيئية المحضة) نظير الاستغناء عن فكرة وجود الخالق؟

فلو اعتبر هوكينغ الفراغ الكمي بداية لخلق هذا العالم، فهو لم يضف إلا حلقة من حلقات الموجودات الحادثة التي خُلقت بعد أن لم تكن إلى الوجود، وهذا لا يترتب عليه عدم الحاجة للخالق، في حين لو قصد هوكينغ بالعدم اللاشيئية المحضة، فقد طرق باباً يؤكد على ضعف إطلاعه بالعلوم العقلية، لأنه لا يمكن افتراض وجود اللاشيء، فنفس افتراض وجوده مناقض لنفسه، فالإنسان وأي إنسان يستطيع أن يفرض وجود الشيء (أ) في إزاء الشيء (ب)، ولكنه يعجز عن فرض وجود اللاشيء، لأنك تفترض حينها وجود اللاوجود، وهو ما يلزم الشخص الذي يدعي وجود العدم لأن يثبت ماهية متشخصة له، لها لون وشكل وهيئة معينة، وهذا محال. [4]

المنهج العقلي والمنهج الطبيعي: لمن الحاكمية؟

يورد هوكينغ في بداية كتابه اقتباسًا يقول فيه:

الفلسفة قد ماتت، ولم تحافظ على صمودها أمام التطورات الحديثة للعلم الطبيعي، بل وخصوصاً في مجال الفيزياء، وأضحى العلماء الطبيعيون هم مكتشفي المعرفة. [5]

وهذا الاقتباس يعكس التصور المغلوط الذي يحكم أذهان كثير من العلماء الطبيعيين، دون إدراك الفوارق الكبيرة بين حاكمية المنهج العقلي ومحدودية المنهج الطبيعي، ويتضح ذلك في التالي:

  1. المنهج العقلي أكثر شمولية من المنهج الحسي، فإذا اختص الأخير بالعالم المادي، فإن الأول يبحث في مطلق الوجود.
  2. البرهان العقلي إن ثبت فلا يمكن إبطاله بأي زمان، خلاف الكثير من البراهين الطبيعية التي ثبت بطلانها مع تقدم الزمان بسبب ظهور تفسيرات طبيعية جديدة. [6]
  3. لا يمكن للعلوم الطبيعية أن تثبت أصول مواضيعها، خلافاً للمنهج العقلي الذي يثبت الأركان الأولية لمواضيع العلوم الطبيعية، مثل مبدأ عدم جواز التناقض وقانون السببية.
  4. المنهج العقلي بإمكانه أن يخوض في العلل، غير أن المنهج الحسي يتعلق فقط بظواهر الأجسام.

كتب أدب العلوم: الحدود التي يجب معرفتها عنها

من المهم إدراك الفرق الكبير بين كتب أدب العلوم وكتب العلوم، وكتب ستيفن هوكينغ التي تُقدم للجمهور ليست كتباً علميةً بتعبير العلماء، وإنما هي كتب تنتمي لفئة الأدب العلمي (Pop Science)، وهي كتب تهدف لتفسير العلوم بطريقة عامة مفهومة للجمهور العام غير المتخصص، حيث تقوم صياغة أدباء العلوم لكتبهم على التبسيط والإكثار من الأمثلة والتطبيقات وبصورة أدبية محضة تصل في أحيان كثيرة إلى الاعتماد على الخيالات، وليس بالضرورة أن تكون مكتوبة من قبل العلماء، بل نجد كثيراً من الصحفيين يسهمون في الكتابة بهذا المجال، لأن المؤلفات العلمية عادةً ما تنشر في المجلات المعتمدة.

لقد عزّزت كتب كثيرة في أدب العلوم (من ضمنها مؤلفات هوكينغ) فكرة مفادها أن العلم الطبيعي مؤهل للخوض في جميع المسائل على الإطلاق، بما في ذلك المسائل الأخلاقية والإيمانية، بالرغم من معرفة هؤلاء أن مدار خوض العلوم لا يمكنه أن يخرج من المادة، وبالتالي فالسؤال عن أي شيء غيبي لا معنى له، علاوةً على طبيعة ما توصل إليه هذا العلم، لأنه لا يمكن اختزاله باكتشافات اليوم فحسب، لأن من ذاتيات العلم التجدد والتغير، أمّا إسباغ هذه السلطة العلمية على جميع تساؤلات الإنسان، فهو بتعبير «بول فييرابند» وهو أحد أكابر فلاسفة العلم المعاصرين: «استبداد منهجي على المعارف»

خاتمة

يقدم كتاب «التصميم العظيم: إجابات جديدة عن أسئلة الكون الكبرى» عدداً من الأفكار العلمية التي تؤول بضرورة الحال إلى مآلات فلسفية، ولذلك فإن حد هذه الاستدلالات في الحيز المادي فقط يؤدي إلى تجاهل مقاصد هوكينغ نفسه، ومما لا شك فيه أن ذلك يعتبر تقصيراً صريحاً لرسالة الكتاب، فهو يتعدى كونه كتاباً علمياً، لكون هوكينغ تطفل على مائدة غيره دون أهلية كافية، وقد أثبتت ذلك كتبه السابقة، فضلاً عن هذا الكتاب، وهو الأمر الذي يستدعي تحرير مباحثه بشكل موسع، ومحاكمتها بالأدوات المعرفية كافة، كانت طبيعية أم عقلية.

المراجع
  1. ستيفن هوكينغ وليوناردو مولدينو، «التصميم العظيم: إجابات جديدة على أسئلة الكون الكبرى»، دار التنوير (الطبعة الأولى)، ص 10.
  2. المرجع السابق، ص 49.
  3. المرجع السابق، ص 203.
  4. الفيزيائيون (وليس أدباء العلوم) مثل «بول ديفيز» يرون استحالة وجود ما يسمى بالعدم المحض في العالم الواقعي، لأن أساس مفهوم العدم يعود إلى سلب مطلق الوجود، أي هو مفهوم ذهني محض.
  5. المرجع السابق، ص 10.
  6. تخصّص فيلسوف العلم «توماس كون» (١٩٢٢-١٩٩٦م) في هذه الجزئية وتناولها بإسهاب في كتابه الشهير (بنية الثورات العلمية) الذي يُعتبر حجر أساس مشروعه العلمي، ومن عباراته المشهورة: «إن تاريخ العلم (أي الطبيعي) مليء بالأخطاء والتناقضات والإشكالات المعرفية، وهذا نمط تطوره».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.