أرجأت الولايات المتحدة الأمريكية رفع العقوبات عن السودان لثلاثة أشهر أخرى، تنتهي في الثاني عشر من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، لتخالف توقعات الخرطوم التي لبّت المطالب الأمريكية، ويبدو أن ارتدادات الأزمة الخليجية طالت لعنتها السودان التي ةقف حائرة بين الدعم القطري السخي والدور السعودي والإماراتي في التوسط لدى واشنطن لفك عزلة الخرطوم إلى جانب استثماراتهما الضخمة.


لماذا أجل ترامب رفع عقوبات السودان

فاجأت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السودان بتأجيل رفع العقوبات بالكامل عنها، والتي كانت أعلنت في وقت سابق أن معيار الالتزام بحقوق الإنسان لن يؤثر على قرار الرفع، لكن جاء بيان وزارة الخارجية الأمريكية يوم 11 يوليو/تموز الجاري بتأجيل البت في قرار رفع العقوبات بشكل دائم لمدة ثلاثة أشهر، ليثير مخاوف الخرطوم من استمرار سيف العقوبات الأمريكية مسلطًا عليها، واستمرارها كورقة مساومة حتى يتم ترويض نظام البشير تمامًا.

بدأ فرض هذه العقوبات على السودان في العام 1997، وظلت الإدارات المتتالية تجددها وتضيف إليها إلى أن أصدرت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، في يناير/كانون الثاني 2017، أمرًا تنفيذيًا بالرفع المؤقت للعقوبات وسمحت بإجراء التحويلات المصرفية بين البلدين واستئناف التبادل التجاري، لكن الأمر التنفيذي أبقى العقوبات المفروضة على السودان كـ«دولة راعية للإرهاب»، ومنح السودان 6 أشهر لتحسين حالة حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب.

واستبشرت حكومة البشير خيرًا بترامب، الذي أعلن منذ دخوله البيت الأبيض أن قضايا الالتزام بحقوق الإنسان لا ينبغي أن تؤثر على مصالح الولايات المتحدة، لكن جاء قرار التأجيل وفق الأسباب المعلنة متعللًا بحالة حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، إلى جانب تأكيد مصادر أمريكية وجود صلات بين حكومة السودان ونظيرتها في كوريا الشمالية، وسعي الأولى للحصول على صفقات صواريخ من كوريا الشمالية.

لكن يبدو أن الأزمة الخليجية لعبت دورًا في بقاء العقوبات، التي ألحقت خسائر بالاقتصاد السوداني تقدر بـ 45 مليار دولار؛ فالخرطوم لم يحسم موقفه إلى الآن هل هو مع الحلف الرباعي أم مع قطر، وهذا الموقف الحيادي لن تقبله الرياض التي تتبع الآن سياسة «إما معنا أو ضدنا»، فكما ساهمت من قبل الإمارات والسعودية في فك العزلة الأمريكية عن نظام البشير بعد تخليه عن إيران، من المرجح أنهما وراء وقف رفع العقوبات حتى يخرج السودان من الحاضنة القطرية.


السودان ضمن العُزلة القطرية

منذ إعلان الدول العربية الأربعة (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) في 5 يونيو/حزيران الماضي قطع العلاقات مع قطر، خرجت السودان ببيان يكشف عن حقيقة نظامها الذي يدين للسعودية والإمارات بمساعدته في الخروج من دائرة الغضب الأمريكي إلى جانب الاستثمارات الضخمة لكليهما،فالرياض أكبر مستثمر عربي في السودان خلال العام الماضي، باستثمارات تقدر بنحو 26 مليار دولار، أما الإمارات فتُقدر استثماراتها بحوالي 6.7 مليار دولار، وذلك وفقًا للتقرير السنوي لوزارة الاستثمار السودانية الصادر في أبريل/نيسان الماضي.

كما تدين للأموال والاستثمارات القطرية التي أنقذت نظامها من السقوط بسبب العقوبات الأمريكية طوال العشرين عامًا السابقة، إلى جانب دعم ورعاية عمليات المصالحة في دارفور. وتبلغ الاستثمارات القطرية بالسودان حوالي 1.7 مليار دولار، وهناك خطط لرفعها إلى 3 مليارات دولار خلال العام الجاري.

وجاء موقف السودان المحايد من الأزمة خوفًا من خسارة الدعم الإماراتي السعودي، وكذلك القطري، كما يخشى البشير من دعم الإمارات والسعودية لمصر ضده مستقبلًا وهي الضلع الرابع في محور المقاطعة، والتي قدمت تقارير تكشف عن دعم قطر لجماعات موالية لها في ليبيا عن طريق السودان، وقد ضمت قائمة الإرهاب التي وضعتها الدول الأربعة أشخاصًا وجماعاتٍ ليبية مدعومة من قطر ومناهضة لمصالحهم.

فعلى الأقل إن لم يقطع نظام البشير علاقته مع قطر فعليه ألا يتعاون معها ضد مصالح الدول الأربعة، لكن يخشى البشير الابتعاد بشكل كامل عن قطر، فالدول الأربعة استهدفت من انقلابها على الدوحة وقف دعمها لجماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين التي يتعاون معها البشير، وبالتالي تخليه عن قطر يعني أنه سيتم نقل المعركة داخل نظامه.

وبدأت بوادر هذا التغيير بتجهيز أفراد من داخل نظام البشير ليحلوا مكانه، فقد منع البشير، الفريق طه عثمان أحد المقربين لمحور الإمارات والسعودية من السفر للرياض عقب الأزمة، ثم أقاله في اليوم التالي من منصبه كمدير مكتبه ووزير الدولة بالرئاسة، وبعد إقالته تلقفته الرياض لتعينه ضمن مستشاري حكومتها، وهو ما يُشعر البشير بالخطر من وجود مخططات لاستبدال نظامه إنْ لم يرضخ لمطالبهم ويبتعد عن دائرة قطر.

وفي محاولة من البشير لمنع اندلاع موجة غضب سعودية إماراتية ضده أجرى زيارة إلى البلدين الأسبوع الماضي التقى فيهما مسئولي البلدين، عارضًا الوساطة، لكنهم لا يريدونه وسيطًا فهو تابع لكلا الحليفين ولا يستطيع أن يملي أو يقترح شروطًا على داعميه، وفي إشارة من الرياض إلى أنها ستساعد الخرطوم في رفع العقوبات الأمريكية إن لم تنجرف كثيرًا ناحية الدوحة طالب الملك سلمان خلال لقائه بالبشير باستمرار التعاون مع واشنطن لرفع العقوبات.


السودان إلى قطر أم إلى السعودية؟

سيكون مفيدًا لنظام عمر البشير انتهاء الأزمة مع قطر سريعًا خلال الوساطات الجارية لاسيما الأمريكية، أو على الأقل وقف حدة التصعيد ومنع الاستقطاب ووقف محاولات السعودية تطبيق مبدئها في رفض الحياد، ويبدو أن الولايات المتحدة نجحت في ذلك، فقد أوقفت التصعيد المتبادل وعرضت نفسها كقاض وحام للجميع؛ فعقدت اتفاقية مع قطر لمكافحة الإرهاب وهذا يعني أن واشنطن هي التي ستحدد مفهوم الإرهاب وجماعاته للجميع.

كما لوّحت واشنطن بورقة الإرهاب لتضم الجميع تحت مقصلتها، حيث أكد تقرير الخارجية الأمريكية السنوي، الصادر قبل أيام، عن استغلال أفراد وتنظيمات إرهابية للنظام المالي في الإمارات وقطر وكذلك السعودية لتمويل الإرهاب، كما اتهم أفرادًا وكيانات سعودية بدعم التطرف، وبهذا أوقفت واشنطن تصعيد رباعي المقاطعة، فحينما جاء وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون إلى الخليج في جولة لحل الأزمة أعلن أن «يد الجميع ليست نظيفة»، وذلك في إشارة تهديد للجميع بضرورة الانصياع لما ستقرره واشنطن لحل الأزمة.

وفي إشارة لخوف الخرطوم من خسارة قطر، اعتذر وزير الإعلام السوداني أحمد بلال عثمان أمام برلمان بلاده عن إساءات وجهها لقناة الجزيرة القطرية، متهمًا إياهم بدعم الفوضى، وأكدت الخرطوم التزامها بموقفها الحيادي من الأزمة مع قطر.

وبافتراض استمرار الأزمة فإن البشير لن يقدر على التخلي عن قطر، فهذا يعني استهداف نظامه بالأساس وليس علاقاته فقط مع الدوحة، فمن قبل قطع علاقته مع إيران مقابل الأموال والاستثمارات السعودية الإماراتية ومساعدته في تحسين علاقته مع واشنطن، لكنه الآن لن يقدر على التخلي عن قطر أو معاداة الرياض وأوبوظبي، وبالتالي سيحاول خطب ودهما وتقديم المزيد من قواته في حرب اليمن لقاء استمرار وساطتهما ودعمهما لمصالح بلاده عند ترامب.