في المقال السابق توقفنا عند فوضى التفاهمات التي دارت أثناء الحرب العالمية الأولى والتي كانت متضاربة في مصالحها وأهدافها، وقد كانت نهاية الحرب هي لحظة دخول هذه التفاهمات حيز التنفيذ، وقد كتبت الغلبة في النهاية للتفاهمات التي تحقق مصالح القوى الاستعمارية، ممثلة في سلسلة من المؤتمرات التي عقدت عام 1920 (مؤتمر لندن فبراير 1920، مؤتمر سان ريمو إبريل 1920، واتفاقية سيفر أغسطس 1920 – والتي تم تعديلها لاحقًا عقب حرب الاستقلال التركية في اتفاقية لوزان 1923).

وبدون الخوض في تفاصيل هذه الاتفاقيات، فما أسفرت عنه هو تفتيت البلدان العربية ووضعها تحت السيطرة الاستعمارية: مصر والسودان تحت الحماية البريطانية، المغرب وتونس تحت الحماية الفرنسية، العراق (بعد ضم الموصل) وشرق الأردن وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي، بالإضافة إلى مشيخات الخليج العربي والتي كانت بالفعل تحت الوصاية البريطانية عبر اتفاقيات ثنائية.

أما مراسلات الشريف حسين مع سير ماكمهون فلم تفضِ إلى دولة عربية (أو خلافة عربية) موحدة ومستقلة، بل نتج عنها دويلات ثلاثة ممزقة وتحت السيطرة الاستعمارية: مملكة الحجاز والتي حكمها الشريف حسين ثم من بعده ابنه علي بن الحسين (ولكنها لم تستمر طويلاً إذ سقطت في يد آل سعود عام 1925)، ومملكة العراق والتي أعطيت لابنه فيصل، ومملكة شرق الأردن والتي أعطيت للابن الثالث عبد الله (وكلا المملكتين كانتا تحت الانتداب البريطاني).

ومن جهة أخرى لم تكن شعوب المنطقة مستسلمة أمام هذا المصير المحتوم، واندلعت الثورات في مصر والعراق والشام، وأجبرت بريطانيا على تسكين ثورة العراق بالتعهد بإنشاء دولة عربية برئاسة الأمير فيصل عقب ثورة العشرين عام 1921، وعلى إعطاء مصر استقلالاً اسميًّا عام 1922 عقب ثورة 1919.

وقد تنوعت أساليب المقاومة العربية، فتمثلت أحيانًا في تكوين بعض الأحزاب السياسية والحركات الوطنية الاستقلالية مثل حزب الوفد بمصر، والحزب الدستوري الجديد بتونس، وحزب الاستقلال بالمغرب، وهذه الأحزاب اتبعت وسائل عدة تراوحت بين النضال السلمي بجمع التوقيعات وتقديم العرائض الاحتجاجية والمسيرات والإضرابات وحملات المقاطعة، إلى أن استخدمت وسائل أكثر عنفًا مثل التفجيرات والاغتيالات. وفي حالات أخرى، تم إعلان العصيان المسلح ضد المستعمر وخوض حرب استقلال حقيقية، ويعتبر النموذج الجزائري الأكثر ضراوة حيث راح ضحيتها على أقل تقدير سبعمائة ألف شهيد. ومع اختلاف النماذج هذه، إلا أن وسائل المقاومة على تنوعها أثبتت نجاحها وأجبرت المستعمرين على التفاوض والانسحاب، بعد أن زادت تكلفة الاستعمار عن مصالحه المرجوة.

وقد تحقق الاستقلال الوطني لدول المنطقة على ثلاث موجات:

  1. كانت مصر والعراق أول من حصلتا على استقلال اسمي من الاستعمار عامي 1922 و 1932 على الترتيب، وإن ارتبطتا بالدولة المستعمرة بريطانيا بعدة اتفاقيات تتيح التواجد العسكري لها، ولم تحصلا على استقلال حقيقي إلا في خمسينيات القرن العشرين.
  2. المرحلة الثانية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي صحبتها وعود من القوى الاستعمارية بمنح الاستقلال في مقابل دعم الدول المستعمرة لها في الحرب، والتي أسفرت كذلك عن تراجع للقوى الاستعمارية التقليدية لصالح صعود القوى العالمية الجديدة (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي)، لينتهي حينها الانتداب على سوريا ولبنان والأردن منتصف الأربعينيات، كما انتهت الحماية الفرنسية على تونس والمغرب عام 1956.
  3. الموجة الثالثة للاستقلال بدأت منذ العام 1196 باستقلال الكويت، وحتى العام 1971، حين حصلت دول الخليج (قطر والبحرين والإمارات) على الاستقلال، وقد كانت الضغوط الداخلية في بريطانيا ضد تكلفة التوسع الإمبريالي السبب المباشر للإعلان البريطاني عن استقلال أغلب هذه الدول. كذلك حصلت الجزائر على استقلالها عام 1962 خلال تلك الموجة.

هذا إجمالاً – من منظور تاريخي – عملية ميلاد الدولة العربية الحديثة وسياقاتها، لكن من المهم كذلك أن نرصد المنظور المؤسسي والنُظُمي لعملية الميلاد تلك، وبحث كيف أثرت هذه السياقات والملابسات على طبيعة هذه الدولة وطبيعة مؤسساتها، وهو ما سوف نتناوله في التدوينات القادمة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.