اليأس ينهش القلوب. الأمل لم يجد له متسعًا في الزنزانة الضيّقة. العدالة تبدو حلمًا لن تناله الأرواح المصلوبة. لا ندمَ على ما اقترفوه ليعاقبهم سجّانهم بالصلب. فالصليب مجالهم الحيويّ، مسراهم الوحيد من الحصار إلى الحصار. لكنها القضية التي آمنوا بها. رفعوا من أجلها السلاح، أو تبارت فيها ألسنتهم وأقلامهم.

 فإذا قيّد السجن قدرتهم على الحركة والوصول لرفاقهم، فلن يكسر أرواحهم ولا يمنعهم من الاستمرار في الإيمان بما كان سببًا في سجنهم. لكن في السجن تتضاءل الأسلحة، وتقلّ الاختيارات، ويصبح الكلام صراخًا في فضاء، لا يسمعه من بالخارج. فيقرر أن يؤلف كتابًا في الثبات على المبدأ، وطلبًا للعدالة الغائبة، ويرسل رسالةً للجميع أن روحه لا تُقهر، فيُضرب عن الطعام.

الإضراب عن الطعام احتجاج مشروع، يلجأ له السجناء والمعتقلون عند استنفاد الوسائل الأخرى. غالبًا ما يكون هدفه لفت النظر إلى قضية أكبر من شخص المُضرب. كانتهاكات حقوقية ضخمة أو التعذيب في السجن. يريد المضربون من ذلك الضغط على السلطة التي تحتجزهم أن تمنحهم حريتهم أو تنفذ مطالبهم بخصوص المعاملة الآدمية وتحسين ظروف الاحتجاز أو تقديمهم لمحاكمات عادلة.

بعض السجناء يرفضون الطعام كله. بعضهم يُضرب عن أنواع محددة. يختار آخرون الاعتماد على المُكملات الغذائية والفيتامينات فحسب. بالطبع يوجد الماء كعنصر أساسي في الأنواع السابقة. لكن قد تضطر الظروف القاسية بعض المُضربين إلى اختيار الامتناع عن المياه كذلك. وحين تتدهور حالتهم الصحية قد يختار بعضهم الحقن بالمحاليل الوريدية للإبقاء على حياته، بينما قد يرفضها البعض، وتستنكر الأغلبية ممن اختاروا الامتناع عن المياه فكرة أن يتم حقنهم بالمحاليل.

لا يعني ذلك أن المُضرب يسعى للموت، فهناك طرق عدة للانتحار السريع غير المؤلم. لكن معناه أنه يريد تنفيذ مطالبه، ويرى مشروعيتها إلى حد الترحيب بالموت في سبيل تحقيقها. وقد اختارت معظم لوائح السجون في دول مختلفة أن تتجاهل الحديث عن بروتوكلات التعامل في تلك الحالات. فكل حادثة تكون كأنها الأولى، ويكون لها تصرف رسمي وتناول شعبي مختلف.

العصا والجزرة

في معظم الحالات تتبع إدارة السجون سياسة تجمع بين الترغيب والترهيب. عصا الإجراءات العقابية الإضافية إذا لم ينهوا إضرابهم أو جزرة الحصول على مزايا عديدة إذا أنهو الإضراب. بالطبع لا يكون تحقيق كامل المطالب، كالإفراج، مطروحًا على الطاولة في بداية الأمر. وفي حالات قليلة تقوم إدارة السجون بالتواصل مع المُضرب لمعرفةأسبابه. وفي بعض الأحيان تُجبرهم السلطات على تناول الطعام.

ما يطرح سؤالًا حول الإطعام الإجباري للمضربين عن الطعام. طبقًا لإعلان مالطا الذي أصدرته الجمعية الطبية العالمية التغذية المصحوبة بالتهديد أو الإكراه أو القوة أو استخدام القيود البدنية هي شكل من أشكال المعاملة اللاإنسانية أو المُهينة. وتساويها في انعدام المقبولية ممارسة التغذية القسرية لبعض المحتجزين بهدف تخويف أو إكراه غيرهم من المضربين عن الطعام على وقف الإضراب. وكان الإعلان واضحًا في أنه إذا كان السجناء قادرين على التعبير عن رغباتهم بوضوح ولا يعانون من اختلال عقلي، فلا يجوز إعطاؤهم طعامًا أو علاجًا يرفضونه.

ربما اشتهر الإضراب عن الطعام في السنوات الأخيرة في نطاق المعتقلين والمسجونين، لكنه كان معروفًا من قبل ميلاد المسيح. كانت بداياته في أيرلندا، وأوردت عددًا من النصوص الأدبية ما يشبه الطقوس لذلك الإضراب. غالبًا ما يكون أمام بيت الجاني، حتى يتسبب المُضرب عن الطعام في إحراج أكبر ويحصل على حقه أسرع. كما أشارت بعض المصادر إلى أنه كان إضرابًا لليلة واحدة في معظم الحالات، فعادةً ما يحصل المضرب على ما يريد قبل دخول اليوم التالي.

في الهند مثلًا نجد قانونًا صدر عام 1861 ينص على إلغاء سلوك الإضراب عن الطعام أمام بيت الجاني. ما يعني أن الطقس كان موجودًا ومنتشرًا في البلاد قبل ذلك التاريخ بوقت طويل. ويُرجعه بعض المؤرخين إلى عام 750 قبل الميلاد. ويعتبر المهاتما غاندي من أشهر المضربين عن الطعام خلال سنوات سجنه لدى الاحتلال البريطاني. وقد كرهت بريطانيا أن يموت الرجل في سجونها نظرًا للشهرة العالمية التي حققها.

قانون القط والفأر

في سياق مقاومة الهند للاحتلال البريطاني يبرز أسماء أخرى. جاتين داس الرجل الذي يعرفه الهنود بالذي صام حتى مات. ثم بهجت سنج، ودوت، الاثنان فكّا إضرابهما بعد 116 يومًا من الامتناع عن الطعام. بذلك حطمّا الرقم القياسي للإضراب عن الطعام الذي بلغ 97 يومًا. كما توفي أماراجيفي سريرامولو، الثائر الهندي في اليوم 58 لإضرابه عن الطعام.

بعيدًا عن الهند، وفي قلب بريطانيا نفسها، نجد ماريون دونلوب. امرأة بريطانية خاضت إضرابًا عن الطعام عام 1909 لأجل حق المرأة في الاقتراع. أطلقت السلطات البريطانية سراحها خوفًا من أن يمنحها الإضراب مزيدًا من الشعبية. بعدها بدأت باقي المُطالبات بحق الاقتراع في الإضراب عن الطعام. لكنّهن كن أقل شهرة من ماريون، فقررت السلطات البريطانية إطعامهن بالقوة. أدى الإطعام القسري إلى موت عدد كبير من المُضربات، سجلّ التاريخ منهن ماري كلارك، وجين هيوارت، وكاثرين فراي.

في عام 1913 لجأت السلطات البريطانية لقانون غريب عُرف باسم قانون القط والفأر. يقضي القانون بالإفراج المؤقت عن المضربين عن الطعام بسبب حالتهم الصحية واعتلال أجسادهم بسبب الإضراب. لكنهم يعودون بعد ذلك للسجن لقضاء باقي مدتهم المقررة، حال كانوا مدانين بقضايا جنائية.

انتقل الأمر من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ولمّا لم تجد المرأة الأمريكية من يعطيها حق الاقتراع لجأت للإضراب عن الطعام. كانت تلك الحملة بقيادة أليس بول. تعرضت هي ورفيقاتها للسجن في إصلاحية بولاية فيرجينا. وحين بدأن إضرابًا عن الطعام، أخضعتهن إدارة السجن للتغذية القسرية.

على ذكر الولايات المتحدة فقد شهدت عام 2005 و2013 إضرابين عن الطعام في معتقل غوانتانامو. استمر الأول لمدة شهرين، وامتد الثاني قرابة 6 أشهر. في تلك الإضرابات طالب 166 معتقلًا بالعودة لبلدانهم الأصلية، وافقت الولايات المتحدة على 86 منهم لبلدانهم الأصلية لثنيهم عن الإضراب.

يتساقطون لتبقى العدالة

بدأ الإضراب عن الطعام من أيرلندا، وعاد إليها مرة أخرى. فقد كان الصيام للفت نظر تجاه ظلم السادة عادة متجذرة في التراث الأيرلندي. لدرجة أن الأمر أُدرج بصورة كبيرة في القانون البريهوني، مجموعة قوانين تعمل بها العشائر في أيرلندا منذ العصور القديمة.

استخدم الأيرلنديون الإضراب عن الطعام عام 1917 أثناء الحرب الإنجليزية على أيرلندا. قابل البريطانيون هذا الإضراب بالإطعام القسري فانتهى الأمر إلى وفاة توماس آش، في سجن مونتجوي. وفي عام 1920 توفي تيرينس ماكسويني، عمدة مدينة كورك، إثناء إضرابه عن الطعام في سجن بريكتسون. ومن الجيش الأيرلندي أيضًا توفي جو مورفي ومايكل فتزجيرالد بسبب الإضراب عن الطعام كذلك. وتعتبر تلك المجموعة هي صاحبة الرقم القياسي في أطول مدة للإضراب عن الطعام، دون أن يتخللها أي إطعام قسري.

انتهت الحرب الإنجليزية الأيرلندية، وحدثت الحرب الأهلية الأيرلندية وانتهت عام 1923. بعد انتهائها دخل قرابة 8000 أسير من الجيش الجمهوري الأيرلندي إضرابًا مفتوحًا عن الطعام بسبب استمرار دولة أيرلندا الحرة في اعتقالهم. توفي في ذلك الإضراب اثنان من الجنود، فقامت السلطات بإطلاق سراح النساء المعتقلات. وماطلت في إطلاق سراح الرجل حتى العام التالي.

عادت أيرلندا في الأربعينات للإضراب عن الطعام ضد حكم إيمون دي فاليرا. توفي في عهدة ثلاثة بسبب الإضراب. لكن لم يبال بهم الرجل. دخل المئات في إضراب بعد وفاتهم لكن أصر الرجل على تجاهل الأمر كأن لم يحدث. نجح عدد من الجمهوريين الأيرلنديين في استرداد حريتهم بالإضراب عن الطعام مثل شين ماكستيوفين. لكن قضى الآخرون نحبهم بسبب الإطعام القسري في السجون مثل مارك ستاج، بعد إضراب لـ62 يومًا. وتوفي مايكل جوهان بعد إخضاعه للإطعام القسري عام 1974 في أحد السجون البريطانية.

عادت أيرلندا أخرى للواجهة عام 1980. حيث قام 10 سجناء بالإضراب عن الطعام في سجن ميز. بسبب معاملة الحكومة البريطانية السيئة لهم. لكنهم هذه المرة قرروا أن يبدأوا في الإضراب واحدًا بعد الآخر. هدفهم كان جذب أكبر قدر من الأنظار لمتابعة مصير كل فرد منهم منفردًا. بوبي ساند، كان أول العشرة موتًا. ودخل الآخرون في فترات إضراب تتراوح بين 46 يومًا إلى 73 يومًا. وفي النهاية خضعت الحكومة البريطانية لمطالبهم.

أسباب مختلفة ووسيلة واحدة

بعيدًا عن أيرلندا تظهر كوبا على خريطة الإضراب عن الطعام. عام 1972 قام بيدرو لويس بوايتي، شاعر وسياسي، بإعلان إضرابه. استمر لمدة 53 يومًا على المياه فحسب، وتوفي في النهاية. ودخل جوليرمو فاريناس إضرابًا عن الطعام لسبعة أشهر عام 2006 بسبب الرقابة المشددة على الإنترنت. انتهى الإضراب بحصوله على جائزة الحرية الإلكترونية من منظمة «مراسلون بلا حدود»، لكن ترك الإضراب له إرثًا ضخمًا من عديد من المشاكل الصحية.

لم يكن الرجل وحده. خورجي لويس غارسيا دخل إضرابًا عن الطعام هو الآخر عام 2009، برفقة زوجته أيريس لدعم السجناء السياسين. وفي عام 2010 أعلن أورلاندو تامايو إضرابه عن الطعام لمدة استمرت 83 يومًا، توفي بعدها. وقد بدأ إضرابه بسبب الأوضاع المتردية في السجون الكوبية، وسُجن بتهم ازدراء الدولة وعدم احترامها.

تركيا عرفت الإضراب عن الطعام لأول مرة في تاريخها عام 1984 احتجاجًا على الظروف القاسية لمعاملة المعتقلين. وكان أول ضحاياه أربعة «عبد الله ميرا، وحيدر بسباق، وفاتح أوكتولموس، وحسن تيلسي». ومنذ ذلك التاريخ والإضراب عن الطعام أمر معتاد في السجون التركية. في عام 1996 حدث إضراب عن الطعام أودى بحياة 12 شخصًا. وعام 2000 حدث إضراب من قبل المعتقلين التابعين لحزب العمال الكردستاني وتوفي فيه 28 سجينًا.

بجانب هؤلاء عديد من الأسامي المنفردة التي خاضت الإضراب عن الطعام طلبًا لحريتها. مثل محمد صلاح سلطان، صاحب أطول إضراب عن الطعام في العالم لمدة عام، لم يُقدم طلب تسجيل رسمي لإضرابه في موسوعة جينس. وإبراهيم اليماني، الطبيب المصري. وآنا هازاري، صحفي هندي. وسوامي نيجاماناند صاحب إضراب امتد لـ115 يومًا اعتراضًا على عمليات التعدين غير الشرعية على ضفاف نهر الغانج، وتُوفي بسبب إضرابه عن الطعام.

الدول لا تملك أجساد مواطنيها

لا يمكن الحديث عن الإضراب عن الطعام أو معارك الأمعاء الخاوية دون المرور بفلسطين. لكن تكثر تلك الإضرابات في سجون الاحتلال الإسرائيلي لدرجةٍ تجعل من حصرها أمرًا مستحيلًا. لكن أبرز تلك العمليات هي عملية الإضراب الجماعي التي حدثت عام 2012 حيث أعلن قرابة 1800 أسير فلسطيني إضرابهم عن الطعام احتجاجًا على ما تسميه إسرائيل الاعتقال الإداري.

 بدأ الإضراب في فبراير/ شباط، ثم في مايو/ أيار أعلن المضربون موافقتهم على إنهاء الإضراب بعد أن وافقت إسرائيل على تقليل مدة الاعتقال الإداري لمدة 6 أشهر فحسب. وعلى زيادة زياراتهم العائلية وإعادتهم للزنازين العادية لا الانفرادية.

في فلسطين كذلك عديد من الأسماء المفردة التي قامت بالإضراب. مثل بلال الكايد الذي أضرب عن الطعام بسبب مماطلة إسرائيل في إطلاق سراحه بعد قضاء مدته. وكذلك محمد القيق، صحفي فلسطيني. وخضر عدنان، أضرب لـ55 يومًا حتى أُطلق سراحه. ومحمود عيسى، عميد الأسرى الفلسطينين، محكوم عليه بـ49 عامًا و3 مؤبدات، وقضى 12 عامًا في السجن الانفرادي.

الإضراب عن الطعام قرار داخليّ، لا يفرضه أحد على المُضرب. بل قرار يثبت فيه الشخص أنه هو من يمتلك حق تقرير مصيره. وأن حياته وموته بيده، لا كما يتوّهم السجّان أحيانًا أنه المتحكم فيهما. فالإضراب عن الطعام في جوهره تحطيم للسلطة ولظنونها عن نفسها ولتصوّرها أن بإمكانها هندسة أجساد أفراد شعبها بالنفي والوجود والغياب.

 قد ينجح المُضرب في تحقيق هدفه الظاهر، وقد يموت قبل ذلك أو يخضع لسياسة العصا والجزرة أحيانًا. لكن الانتصار قد تحقق في كل الأحوال منذ لحظة الإعلان أن الطعام والشراب أبسط حاجات الإنسان وأشد احتياجاته ضرورية، لا يمكن مقايضتها في نفس الشخص بشعور الحرية أو الجوع للعدالة.