أمكث في سوق العمل منذ سبع سنوات، بدأت بالعمل في محطة بنزين، ثم انتقلت للعمل في إحدى الشركات اللبنانية الشهيرة في مجال مستحضرات التجميل والعناية بالبشرة، كمندوب للدعاية. وبجانب عملي أقوم دومًا بتدوين ملاحظات عن بيئة العمل وأخلاق المهنة والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بحيّز العمل وإستراتيجيات الكفاح المعيشي والخطط الفردية عن الارتقاء الطبقي، وتأثير كل ذلك على الفرد وسلوكياته والطريقة التي ينظر ويتعاطى بها مع الحياة.

بلا شك كان انتقالي من العمل بمحطة البنزين إلى مجال الدعاية، بمثابة نقلة نوعية طبقية، بين بيئتين مختلفتين تمامًا. في الأولى أتعامل يوميًا مع الفئات الأكثر انحدارًا وقُربًا من قاع المجتمع: سائقي الميكروباصات والتكاتك وبائعي الأرصفة والمواقف، الذين يفترشون مساحات واسعة مُحيطة بالمحطة. أمّا في الثانية أتعامل مع زملاء مُنحدرين من فئات وسطى وميسورة الحال، حاصلين على مؤهلات وشهادات عليا: صيادلة وخريجي كليات العلوم والطب البيطري، بجانب الشرائح العليا من الطبقة الوسطى والبرجوازيين من الأطباء وأصحاب الصيدليات والمديرين وأصحاب الشركات.

شتان الفارق والوعي الطبقي الذي يحتكم لدولاب كامل من اللغة والأيديولوجيا والعلاقات، مُغاير تمامًا من بيئة لأخرى. فمن السهل أن ترى أن هذا عمل وذاك عمل بالنهاية، ولكن عالم «اليومية» يختلف تمامًا عن عالم «الراتب الشهري» أو كما جرى تسميته عالم «السالاري» Salary.

العالم الأول هو عالم الشارع والمعافرة المضنية والشاقة في البحث عن سبوبة أو لقمة عيش، يصبح الشارع مساحة تعبير عن شكل من النضالات والصراعات الوجودية التي من الممكن أن تستغرق حياة الفرد وعمره كله، بوجود البائعين و«السرّيحة»، والسائقين والتكاتك، ومنْ يفترشون الشوارع لبيع الملابس والأحذية والفواكه والإكسسوارات والموبايلات المسروقة؛ مُستحوذين على أغلب مساحة الطريق، و«الفواعلية» المتمركزين بالعشرات على مداخل وفتحات المناطق، ينتظرون بيع قوة عملهم كل صباح، والكم المهول من المتسولين والمشردين، والذين يُعد الشارع المساحة الوحيدة والمتاحة لنشاطهم اليومي وبياتهم الليلي. أمّا الثاني فهو عالم تجارة الطموح ووهم القيمة المصطنعة.

ارتقاء طبقي أم ابتزاز طبقي؟!

تفتّحت عيني بعد انتقالي للعمل كمندوب للدعاية على العالم الذي ينشط فيه أبناء الطبقات الوسطى: حملة الشهادات العليا وأصحاب السير الذاتية (CVs) ومُدمنو كورسات تطوير الذات والتنمية البشرية، والذين يجتذبهم سوق الدعاية والتسويق وخدمات ما قبل البيع وقطاع الأدوية والبنوك والمكاتب الاستشارية والخدمية.

وبعكس الشارع حيث الجميع ضعفاء وتحت عاديين ومعدومون وفاقدون للطموح، كان المندوب يُغذي بداخله حس التطلع، وإيهامه دومًا بأنه يستطيع أن يصبح في مكان أعلى، مدير مثلًا، فقط حين يمتلك خبرات متراكمة للعمل، وقدرات إدارية وقيادية يستطيع تحصيلها من خلال دراسات وكورسات تعليمية. بالإضافة لعديد من المزايا والتسهيلات ولزوم الوجاهة الاجتماعية: المظهر المتأنق بالملابس والساعات، مزايا التأمين الطبي والاجتماعي، تسهيلات لامتلاك سيارة خاصة وإمكانية الحصول على قروض شخصية، التعاملات والعلاقات الاجتماعية الراقية كالتعامل مع أطباء وصيادلة وأصحاب شركات ومديرين، بالإضافة لكوني وبالرغم من أني حاصل على بكالوريوس العلوم فإنني أعُرّف نفسي بأني «دكتور فلان» مثلما هو مدون على بطاقة تعريفي الخاصة.

فمن عالم تحكمه إستراتيجيات الكفاح اليومي، إلى آخر تحكمه مغريات الترقي الطبقي، حيث مصلحة الشخص هي مصلحة ذاتية بحتة غير مرتبطة بالظروف الجماعية، كل ما عليه هو أن يفكر في نفسه ويُطوِّر من نفسه، وهنا مكمن مفهوم «الشطارة» الذي يحكم أي تطلّع أو ترقّي. حيث الشطارة لم تعد تقتصر على مدى الكفاءة أو القدرات الذاتية للفرد، بقدر ما أصبحت في عالم اليوم مزيجًا من قدرة الفرد على ممارسة الفهلوة وتسليك الأمور وتملّق المديرين من ناحية، ومن ناحية أخرى قدرته على وضع نفسه على طريق (Track) اكتساب أخلاق المهنة، والمهنة (من المهانة) هي التوصيف الأمثل لشكل العمل في المجتمع الرأسمالي الحالي، وتختلف عن الصنعة أو الحرفة التي تمثل العمل في مجتمعات ما قبل الرأسمالية.

في الوقت الذي أصبحت الوظائف والأعمال روتينية لدرجة تصل بها حد التفاهة، فتجد غالبية السّير الذاتية شبه متطابقة، بكليشيهات ثابتة ومكررة، والقدرات الذهنية والعملية متقاربة، ومساحات الإبداع والتطوير والتثقيف الذاتي شبه معدومة. فأصبحت الشطارة تعتمد على مجموعة وصفات وإرشادات مدربي التنمية البشرية ومديري الموارد البشرية (HR) عن كيف تمتلك الشغف (Passion)؟ وكيف تُسخِّر قدراتك وطاقتك لتخلق طريقك المهني (Career Path)؟ وكيف تعزل نفسك عن أجواء الكآبة وعدم التفكير في الظروف المُحيطة بغيرك؟

وكعالم الشارع، يحتكم هذا العالم أيضًا لدولاب من اللغة والأيديولوجيا، وعليه فإن الغذاء والسكن والعمل واقتناء الملابس والسيارة الخاصة وإجازات الصيف وسفرية الساحل الشمالي… إلخ هي حزمة (Package) يكتسبها أي شخص ناجح في عمله، بغض النظر عن كونها حقوق بديهية بالأساس. هنا لا مجال للحقوق، هنا اسمها فرصة وما عليك إلا التمسك بالفرصة (Catch The Opportunity). بجانب الهَوس الاستهلاكي المتنامي عن الأذواق والجمال والمتعة والسينما والأكل الصحي والاهتمام بالرياضة، والذي يحفّزه الوعود بالزيادات السنوية، والخصومات على الماركات والبراندات المستوردة، ودعوات النوادي والمنتجعات والقرى السياحية.

وبعكس مظاهر الحرمان والتقشف التي تميز عالم الشارع، تنمو هنا مظاهر الرفاهية وتتزايد مُغريات الارتقاء الطبقي ودعوات اعتناق نمط حياة استهلاكي قائم على التناوب الدائم والمستمر بين التملّك والتطلّع. حيث النزعة الاستهلاكية الجديدة، يتطلع الفرد إلى الاستهلاك الذي حققه الآخرون. فالاستهلاك في حد ذاته يصبح قيمة، تتحول على إثره حياة الفرد لمسيرة ركض متواصلة تجاه تحقيق هذه القيمة، كل هذا يؤسس لمضمون أيديولوجي للابتزاز والتهديد بفقد المكانة.

ربما تكون هناك مفارقات كثيرة تفصل بين عالمي الشارع وعالم الكارير (Career)، إلا أن مفهوم الهشاشة الطبقية يظل القاعدة التي تنطلق منها هذه المفارقات. ففي العالم الأول تتمثل الهشاشة في الوضع الاجتماعي نفسه، والتي تنعكس بدورها على الصراع المباشر واليومي في حياة أفراده، في صورة كرّ وفرّ دائمًا، من أجل توفير حد الكفاف، أي الحد الأدنى اللازم لأدنى معيشة. أمّا في الثاني، فالهشاشة تتمثل في مضمون القيمة، القيمة التي يُقدِّمها وجود متضخم، بنسبة مخاطر عالية في عدم الاستقرار والأمان المعيشي.

مفهوم تمامًا معنى أن يُكافح الفرد في الحياة، خصوصًا في أوضاع استثنائية تجعل من أبسط جولات الحياة معارك وصراعات كبرى. ولكن غالبية هذه الفئات والقطاعات لا تقع تحت طائلة الضغوطات وفقط، بل تحت تأثير الابتزازات والإغراءات المستمرة، والتي تجعلهم يُمثِّلون الأشكال الأكثر وقاحة ودونية في مشاريع الكفاح، لكي يدافعوا عن وجود بائس في وظائف تافهة -بحسب «ديفيد جريبر»- وعلاقات اجتماعية متضخمة، مُطبّعين كل ما هو ناقص وانتهازي ووصولي لصالح خدمة وجودهم المهني، وبالتالي المعيشي. مؤمنين بالأمر الواقع، ومتماهين تمامًا مع عواقبه ونتائجه، بلا أي طموح أو غاية سوى بقاء الوضع كما هو عليه، وأن يستمر في أن يُماهي بين ذاته وعبوديته… بين حياته وشقائه، في معادلة لا تسري لصالحه.

وظائف غير مستقرة وأوضاع هشة

لم تكن هذه الأوضاع الاجتماعية نتاج صدفة، بل كانت نتاج سياسات جذرية قلبت الطاولة على المكتسبات التاريخية للطبقة العاملة، عبر نضالها التاريخي في انتزاع حق وشروط وضمانات العمل، وهلهلت كل وجود متماسك يربط العامل بالآخر، ومن ثَمَّ الفرد بالمجتمع. لتترك الفرد وحيدًا دائمًا أمام الجميع، ليُعلن انتهاء عصر «الشهادات» لصالح عصر جديد: عصر السير الذاتية أو «السيڤيهات» CVs، لكي تتشكل بنية جديدة للعمل، بشروط ومتغيرات عديدة.

فأصبحت شهادة البكالوريوس التي يُدفع فيها الكثير من الأعمار والسنين وآلاف من الأموال، مجرد جزء من سيرة ذاتية ضخمة لا تستوفي الشروط القاسية للعمل الذي يشترط الخبرة بالسنين، ومن ناحية أخرى يشترط ألّا يتجاوز سن طالب العمل 28 عامًا، ما يعني ظلمًا للمُتخرج الحديث وعدم إنصاف لأصحاب الخبرات.

كل هذا كان البداية لخلق وازدهار الوظائف الخدمية بدلًا من الإنتاجية، ولتنتهي حالة الاستقرار والأمان والتدرج الوظيفي لصالح حالة المرونة الدائمة في العقود السنوية والنصف سنوية ووصفات تحويل المسار (Career Shift). ويتم الاستيعاض عن الدخل الثابت اللازم والضروري للعيش بالمرتبات المرتبطة بتحقيق المستهدف (Salary Per Target) وعوضًا عن التأمين الصحي والضمان الاجتماعي يُترك الفرد لشركات التأمين الخاصة والعلاج الاستثماري. لنصبح أمام هيكل أكثر هشاشة للعمل وللطبقة العاملة، أطلق عليه الاقتصادي البريطاني «جاي ستاندج» مصطلح «البريكاريا»، والمشتق من كلمة «بريكاريوس» والتي تعني المتزعزع وغير الثابت.

فلم تعُد الشهادات والمؤهلات التعليمية الاعتيادية كافية لتضمن لك وظيفة، في وقتٍ كانت فكرة الاستثمار في تعليم الأبناء يُروَّج لها باعتبارها الطريقة الوحيدة والشرعية لتحسين وضع الأسرة وتأمين دخول مستقبلية من الوظائف، والتي من المفترض أن تنتظر خريجي الجامعات وكليات القمة، والمستقبل السعيد الذي ينتظر حملة البكالوريوس والشهادات العليا، ولكنّ ما حدث ليس بالقدر اليسير.

ففي دراسة بحثية أخرجها البنك الدولي عام 2018 تتحدث عن التعليم وعلاقته بسوق العمل والتوظيف في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يتم الإفصاح عن أرقام وإحصائيات وحقائق تعكس حالة الانفصال الحاد بين مخرجات التعليم واستيعابية سوق العمل. تتحدث الدراسة عن:

  • شباب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حققوا مستويات تعليمية تفوق تعليم والديهم بكثير، وبنسبة أعلى من أي منطقة في العالم، ولكن على عكس المناطق الأخرى، لم يُترجَم تحصيلهم العلمي بعد إلى فرص أفضل ودخل أعلى. بالفعل حظوا بمعدل تعليم أعلى لكن هذا لم يُساهم في توفير وظائف مستقرة أو حياة أفضل حالاً بالعموم.
  • في الوقت الذي تحتل فيه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المرتبة الأعلى في العالم من حيث القدرة على التطور التعليمي بين الأجيال، إلا أنها تسجل المرتبة الأدنى في القدرة على ارتفاع الدخل بين الأجيال.
  • رغم أن متوسط الإنفاق على التعليم في المنطقة يفوق المتوسط العالمي، فإن مخرجات وقدرات التعلّم فيها تعد من بين الأدنى في العالم. فمن الممكن أن تكون حاصلاً على بكالوريوس في الهندسة أو العلوم، إلا أن مكانة تلك الشهادة في سوق العمل العالمي هي الأدنى.
  • رغم تفوق الإناث على الذكور في مخرجات التعلم والحصول على الشهادات العليا والمراتب الأولى، إلا أن المنطقة تشهد أدنى معدلات في العالم من حيث مشاركة الإناث في القوى العاملة.
  • تُسجِل المنطقة أيضًا أعلى معدلات بطالة بين الشباب في العالم، هذه البطالة مقصورة بنسبة تُجاوِز 40% على الخريجين وحملة الشهادات.

أخيرًا من النقاط المحورية التي أشارت لها الدراسة هي اختلال التوازن في سوق العمل بين الشهادات من ناحية والمهارات والقدرات المطلوبة من ناحية أخرى، حيث كان التوظيف الحكومي -في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا- مضمونًا لمجرد كونك من حملة الشهادات (بكالوريوس أو دبلوم). وكانت مزايا الوظيفة الحكومية تشمل راتبًا ثابتًا وتأمينًا طبيًا واجتماعيًا وبدلات وحوافز…. إلخ، بجانب المكانة والوجاهة الاجتماعية.

إلا أنه بالاتجاه لخصخصة القطاع العام وإحلال الشركات الخاصة محل الحكومية، وهذا ما تُسمِّيه الدراسة بإحلال عقد اجتماعي جديد، أصبحت على إثره متطلبات الشركات الخاصة من كورسات إضافية ولغات واختبارات وتقييمات عديدة مختلفة تمامًا عن متطلبات الحكومة التي كانت تقتصر على الحصول على شهادة جامعية. هنا حدث الافتراق النهائي بين التعليم والتوظيف، باعتبار التعليم هو أحد الروافد الرئيسية والمُتعارف عليها لإمداد سوق العمل.

لم يكن هذا الافتراق نتيجة فقط قصور في تطوير بنية التعليم والمناهج والبنى التحتية وتأهيل المعلمين، ولكن ما لم تذكره الدراسة أنه في الفترة ما بين عامي 1910-2000 وقع تغيّر في هيكل العمل نفسه، حيث حدث انخفاض مهول في عدد العمالة بالقطاعات الإنتاجية العامة كالصيد والصناعة والزراعة والعمالة الحرفية، وفي الوقت نفسه استفحلت العمالة بقطاعات الإدارة والأعمال المكتبية الروتينية والمهن الخدمية وخدمة المبيعات، وتضاعفت من ربع إلى ثلاثة أرباع. بعبارة أخرى، تحولت الوظائف الإنتاجية إلى يد الآلات بشكل كبير كما هو متوقع، لكن بدلًا من السماح بتخفيض عدد ساعات العمل بشكل كبير لعتق رقاب جموع العاملين، أو تخفيض ساعات العمل بحجة تشريك البطالة وتذويبها في سوق العمل، إلا أن كل هذا لم يحدث، بل حدث تضخم في قطاع «الاقتصاد الخدمي».

توفيق الأوضاع: محاولات وإحباطات

هذا التحول الكبير في التشغيل والتوظيف رسّخ لأسطورة أيديولوجية عن قصة النجاح التي من خلالها يستطيع الفرد أن يجد وظيفة وراتبًا شهريًا ويعمل على تكوين أسرته الخاصة، وأن هذا في حد ذاته إنجاز كبير، تتحول الحياة على إثره لفرصة وغنيمة، وسُبل العيش لحظوظ ومِنح، وإمكانية النجاة والاستمرار احتمالية ضعيفة، وتوافر المتطلبات العادية لحياة الأفراد بمثابة امتياز وليس حقًا.

قصة حزينة ومأساوية تجعل حياة وأحلام الفرد رهن تهديدات ومخاطر عالية، تتأسس عليها قاعدة عامة من اللا مساواة والظروف غير العادلة والتفاوتات الطبقية الفجّة، التي تُغذِّي من ناحية حس التطلّع والولع الدائم بالترقي الطبقي عند قلة أسعفهم الحظ للنجاح، ومن ناحية أخرى العجز وقلة الحيلة والخيبة عند كثيرين ممّن وقعوا ضحايا منطق الغرابة والتناقض في عالمنا البرجوازي، الذي أصبح كالكلب المسعور، فلا نستطيع قتله ولا نعرف كيف نتعايش معه.

كل هذا يُنتِج ظروفًا وشروطًا موضوعية، لا تعمل في صالح الفرد وتحسين وعيه وإمكاناته الذاتية، وبالتالي تكبح وتعطّل تطلعاته وأمنياته بصدد مستقبله، وتتحول على إثرها أبسط جولات الحياة لمعارك وصراعات كبرى، ويتم التغاضي والتشويش على المسببات الاجتماعية الضالعة في بنية الفشل، ويتحول مصدر الفشل للفرد -بكونه إمّا غير مؤهل أو يبخل بجهده وعمله- إلى إرادة أو طموح.

فلم نعُد نتحدث عن فرد لا يشعر بذاته، أو أسرة تم تفكيكها بسبب ظروف قهرية، أو عائلة فقدت منْ يعيلها، بل أصبحنا نتحدث عن أفراد وقطاعات اجتماعية كاملة لم تعُد قادرة على تأمين ضرورات حياتها. فكل محاولات توفيق الأوضاع، والعيش والاستمرار وسط الضغوطات، والقبول بكل ما تحمله الحياة من مرارة انتظارًا لحلوها، كل هذا لم يأتِ بما هو منتظر، بل تم تعميم مظاهر البؤس، مما أدّى لتنامٍ أكثر للقلق الدائم بصدد ما تُخفيه لنا الحياة، وشعور متفاقم بعدم الأمان، وفشل كبير يتشاركه الجميع ويستشرفون بوادره في كل تصوراتهم وطموحاتهم للحياة، لتتحول كل محاولات تخطيط وتشكيل الحياة لممارسات عبثية لا تجني سوى مزيد من الإحباط، في ظل إيهام وإيعاز مستمر بضرورة أن تعمل على نفسك، وتُطوّر من نفسك وإمكاناتك وقدراتك، حتى تحظى بما تريده وما تتمناه.

ولكنّ هذه النصائح والإرشادات التي تنهال علينا من أخصائيي التنمية البشرية والمشاهير الذين تغمر قصص نجاحهم برامج «التوك شو» وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لا تُشكّل حافزًا ودافعًا للأفراد، بقدر ما تعمل على ابتزازهم وتنفيرهم أكثر فأكثر، فتعمل على تحميل كامل المسئولية على عاتق الأفراد وقدراتهم واختياراتهم التي دومًا ما تنحصر بين السيئ والأسوأ. هذه المفارقة بين السيئ والأسوأ لا تعمل إلا على إنتاج شخص مُحبَط ومضطرِب وخائف دومًا، وتُشكِّك أي طامح أو حالم.

الفرضية التي ننطلق هنا من خلالها، بأن الإحباطات العامة التي ينتجها نمط الحياة ويغديها، هي السبب الرئيسي لانتشار الكآبة والملل والتثبيط النفسي بين الأفراد، وتلك الفرضية تُنافي المفهوم السائد عن الإحباط، والتي لا تكتفي بإسقاطه وتحميله فقط على الفرد، بل بإنتاجه من خلال سياسات وتشريعات تعمل بالأساس وفق نظام تتشكّل بموجبه طبقة حاكمة من الطُغمة المالية العالمية، التي تضع وتُشرّع قوانينها الاقتصادية والاجتماعية للسيطرة على موارد ومداخيل السواد الأعظم، من خلال خصخصة الخدمات العمومية، وسلب الفرد حق الغذاء والمسكن إلا بأجرة، واعتبار تنظيم العُمال -في اتحادات نقابية- عائقًا في وجه تراتبية طبيعية يشكّلها الناجحون والفاشلون، واعتبار النوادي الترفيهية والتجمعات الشبابية والثقافية وقفًا على منْ يمتلك القدرة على دفع الاشتراكات الباهظة، واعتبار اللا مساواة أقصى الفضائل، حيث إنّها الآلية التي يغتني بها الغني والفقير على حد سواء. فإن كنت لا تمتلك وظيفة فلأنّ رذيلة الكسل في شخصك، لا بسبب سياسات التسريح والتشريد، وإن كنت تبيع كليتك اليسرى/ابنك الرضيع/جسدك كأنثى… إلخ، فأنت حُر، وأنتِ حُرة أيضًا. هذه هي النيوليبرالية، بعيدًا عن التعريفات الأكاديمية.

بالنهاية، فالإحباط والاعتلال النفسي لا يمكن أن يُفهَم إلا كعرَض ونتيجة للاعتلال الاجتماعي العام، والذي يترك آثارًا وأعراضًا جماعية، كالفوارق الطبقية الفجّة، والصعوبات المعيشية المتنامية، وقلة الوظائف، وفشل التعليم، وفساد الأغذية والمأكولات، والموت بالإهمال، والعيش في ظل جائحة…. إلخ، وهي معوّقات تُحاصر الفرد وتأخذ من وقته وصحته وسلامته النفسية والجسدية، لتفصله أكثر فأكثر عن ذاته وعن الآخرين.

نفس المنطق المشوّه الذي تحتكم له العلاقات الإنتاجية والاستهلاكية، أصبح ممتدًا للعلاقات الإنسانية والتشكيلات الفردانية، وبمصطلحات مالية صرفة أصبحنا في انهيار تلو الآخر، نواجه إفلاسًا أخلاقيًا، وفقرًا عاطفيًا، ومجاعة روحية حقيقية. لماذا؟! بسبب ما يبثه المجتمع الاستهلاكي من دعاية وأوهام الارتقاء الطبقي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.