يعيش العالم الغربي اختبارًا حقيقيًا مع ارتفاع وتيرة الوحشية الإسرائيلية في قطاع غزة. بدأ الاختبار منذ اللحظة الأولى لانطلاق عملية طوفان الأقصى، ثم الهجمات الموسعة التالية من الجانب الإسرائيلي. طوال قرابة 40 يومًا باتت المواقف الأمريكية والغربية عمومًا تتأرجح كحركة البندول، لكن دون مغادرة نصف دائرة دعم إسرائيل، والوصو لقوس إدانة ما يحدث، إلا ببضع ملميترات طفيفة يتجاوز فيها البندول الخط الفاصل ثم يعود سريعًا إلى النصف المفضل مع تأكيد لا نهائي حول أحقية إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

يمكن فهم المواقف الغربية من موقف الإعلام الغربي. فمنذ البداية تخلى الإعلام عن موضوعيته، أو محاولة نقل كافة الروايات، والتزم برواية واحدة فقط، الرواية الإسرائيلية للأحداث. بالتالي أصبح منطقيًا أن تتخذ الحكومات الغربية والأمريكية موقفًا داعمًا للجانب الإسرائيلي. لا يمكن القول إن الموقف الرسمي الغربي جاء من مجرد أن الإعلام الغربي يقول رواية معينة، لكن المقصود أن الإعلام والموقف الرسمي مرآة يمكن من أحدهما معرفة موقع الآخر من الأحداث.

فالموقف الغربي كان صارمًا في بداية الأزمة، ولا مجال لأي رأي آخر أو حلول دبلوماسية. وتكررت عديد من الجمل في خطابات القادة المختلفين، ووزراء الخارجية أو المتحدثين الرسمين باسم غالب الكيانات الأوروبية والأمريكية والدولية. من تلك الجمل مثلًا أن هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول هو هجوم إرهابي قامت به ميليشيا حماس ضد المدنيين الإسرائيليين.

كما كان الموقف الغربي محددًا من إخراج الحادث من أي سياق، فكل الحكاية بدأت يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، لذا فهجوم حماس غير مبرر، وحماس هي التي بدأت كل شيء. بناءً على هذه السردية أصبح من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها بكل الوسائل الممكنة. كذلك تعاملت الحكومات الأوروبية مع الحادث بوصفه تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول جديدة. بالتالي تستدعي ردًا عنيفًا كعنف غزو العراق.

وغيرها من الزوايا التي رأت الحكومات الغربية الأحداث من خلالها، مثل المساواة بين أوكرانيا وإسرائيل. وأن حربهم ضد روسيا وجيشها القوي، لا يختلف عن حربهم مع مجموعة من المقاتلين الذين ينتمون لنفس الأرض التي يحاربون من أجلها. وأن حماس بمثابة المُحتل الذي جاء ليغزو أرض غيره لأسباب سياسية أو لتأمين حدوده.

تلك القناعات ترتب عليها دعم غير مشروط لإسرائيل، سواء بالسلاح الأمريكي الذي لم يتوقف منذ اليوم الأول للمعركة عن التوافد على المطارات الإسرائيلية. وكان واضحًا أن الولايات المتحدة هي من تولت زمام المبادرة في وضع أهداف المعركة، وإرسال حاملات طائرات لضمان عدم دخول أطراف خارجية في الصراع.

كذلك دعمت أوروبا والولايات المتحدة إسرائيل بالتصريحات التبريرية التي ساقها قادة عديد من الدول الأوروبية لتبرير مجازر إسرائيل. مثل تصريح البيت الأبيض الذي تماهى مع الإلحاح الإسرائيلي حول وجود مقار قيادة لحماس ورهائن محتجزين في مجمع الشفاء الطبي.

وفي الأسابيع الأولى من بداية الحرب تقاطر القادة الأوروبيون والرئيس الأمريكي ووزير الخارجية الأمريكي على إسرائيل لإعلان هذا الدعم، وإعطاء إسرائيل شيكًا على بياض لتنفيذ كل ما تراه مناسبًا في سبيل تحقيق الهدف المقدس بالدفاع عن النفس، وحفظ وجودها من الحيوانات البشرية، على حد وصف الإدارة الإسرائيلية، التي تحاول افتراس الإسرائيلي المتحضر.

لكن في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني صرّح إيلي كوهين، وزير الخارجية الإسرائيلي، بأن هناك ضغطًا دوليًا على إسرائيل لإنهاء الحرب. وأوضح كوهين أن إسرائيل أمامها من أسبوعين لثلاثة أسابيع قبل أن يصبح الضغط الدولي مؤثرًا. مما يعني تحولًا دراميًا في الموقف الأمريكي والأوروبي. ففي لحظة قصف الاحتلال لمستشفى المعمداني وتحميله التهمة للمقاومة الفلسطينية كان منتظرًا أن يختلف الحديث الدولي، لكن ما حدث هو العكس.

أكدت الولايات المتحدة وأوروبا موافقتها لإسرائيل، واشترت الرواية الإسرائيلية ودعمت الحديث حول مسئولية المقاومة عما حدث. لكن يبدو أن إسرائيل قد بدأت تخسر معركة الرأي العام الدولي، وباتت الشعوب، بوصفها كناخبين، تضغط على قادتها وممثليها لتبني موقف حيادي على الأقل، أو مضاد للجرائم الإسرائيلية وقت اللزوم.

 فعلى سبيل المثال شهدت العاصمة البريطانية لندن مظاهرات حاشدة ضمت أعدادًا تترواح من 250 ألفًا إلى مليون متظاهر في آخر الفعاليات. وأوضحت التقارير الدولية عن حدوث ما يقارب 4200 احتجاج في أول 21 يومًا للحرب، كان نصيب فلسطين منها قرابة 90% من تلك المظاهرات. كما أظهرت دراسة أجرتها صحيفة الإيكونوميست أن المنشورات المؤيدة لفلسطين على مواقع التواصل الاجتماعي تبلغ 4 أضعاف المنشورات المؤيدة لإسرائيل.

لذلك اختلفت الدبلوماسية الأمريكية والغربية في ما يتعلق بالأحداث. فمثلًا لأول مرة بدأت الولايات المتحدة تتحدث عن ضرورة تجنيب المدنيين خطر القصف والقتل. كما بدأ الصوت الأوروبي يرتفع بضرورة إدخال المساعدات الإنسانية. لكن كانت الجملة الواحدة التي توحي بالدعم لفلسطين يجب أن يسبقها ويلحق بها عشرات الجمل المؤكدة على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس. والأهم أنها كانت تترافق بعبارات عدم تأييد وقف إطلاق النار، أو حدوث أي هدنة.

لكن أتى الضغط الشعبي للإفراج عن المحتجزين من جنسيات مختلفة ليجعل المواقف المتشددة الأوروبية والأمريكية تقل حدتها. وبدأت الإدارات الغربية تطلب من وسطاء التدخل للإفراج عنهم مقابل دعم هدن مؤقتة أو إدخال الوقود لقطاع غزة. أو حتى عدم استخدام الفيتو ضد أي مشروع قرار يطالب بوقف فوري لإطلاق النار أو إدانة جرائم إسرائيل في غزة.

هذا التراجع كان أوضح في الجانب الأوروبي، حيث كانت الانتقادات اليسارية والشعبية أكبر مما توقعت الحكومات ما هدد مستقبلهم الانتخابي لاحقًا. فاضطر مثلًا حزب المحافظين البريطاني إلى الإطاحة بوزيرة الداخلية سويلا برافرمان بسبب شدة انتقادتها للمظاهرات المؤيدة لفلسطين، وانتقدت كذلك تعامل الشرطة مع مظاهرات اليمين المتطرف. فرغم أن ريشي سوناك داعم لإسرائيل فيما تقوم به، فإن برافرمان جعلت الغضب الشعبي منها يتصاعد لمستوى لم يستطع معه سوناك إلا الرضوخ له.

كذلك صرّح مسئول السياسية الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل بأن الاتحاد يدعو إلى وقف مؤقت وفوري للأعمال الإسرائيلية وإنشاء ممرات إنسانية لإيصال الدعم الإنساني لسكان قطاع غزة. لكن رغم ذلك التغيّر في النبرة الخطابية، وما يحمله من دلالة تآكل الدعم الدولي غير المشروط على المدى الطويل، فإن صادرات الأسلحة الغربية لإسرائيل لم تنقطع، ربما صارت القنابل أصغر حجمًا لأسباب إنسانية، كما صرّحت وزارة الدفاع الأمريكية، لكن القنابل تستمر في الهطول في المطارات الإسرائيلية.

ورغم أن المواقف الأوروبية والدولية ظلت على ما هي عليه منذ لحظة انطلاق طوفان الأقصى من حيث الدعم المطلق لإسرائيل، فإنها أدخلت تعديلات طفيفة على خطاباتها ومواقفها لتناسب المزاج الشعبي فيها.

ويبدو أن الخلاف الحقيقي بين الإدارات الغربية وإسرائيل هو في المدى الزمني المسموح لإسرائيل في تلك الحرب. فالإدارة الأمريكية لا تريد مزيدًا من الضغط المالي على مواردها العسكرية والمادية، ويكفيها الأزمة الأوكرانية التي تستنزف معظم مخزونها من الأسلحة. كما أن الإدارات الأوروبية تتشارك مع الولايات المتحدة الرغبة في وقف نزيف السمعة الذي جرّتهم إليه إسرائيل.

فالأهداف التي وضعتها إسرائيل لتلك الحرب، كالقضاء على حماس، هي أهداف غير معقولة، ولا يمكن تحقيقها إلا بثمن باهظ سياسيًا وتاريخيًا وقد يطيح بأي إدارة تدعمه في الانتخابات اللاحقة.

لكن لا يبدو أن إسرائيل لا تكترث بذلك الأمر، وتدرك أنها فوق القانون الدولي، وفوق التصريحات المعلنة لأي سياسي غربي، وسوف تستمر في حربها حتى تكسرها المقاومة عسكريًا وتكبّدها من الخسائر المادية المباشرة ما يجعل الإسرائيليون أنفسهم يدفعون حكومتهم إلى التخلي عن وهم كسر حماس، والانكفاء نحو الداخل الإسرائيلي لإصلاح الأضرار المادية والسياسية التي ستعلق بإسرائيل لسنوات طويلة قادمة.