تمكنت دولة ميانمار خلال السنوات القليلة الماضية من أن تصبح إحدى حلبات التنافس الدولي بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية وآسيوية، لما حباها الله من موقع استراتيجي وثروات طبيعية، جعلتها تحتل مكانة مهمة لدى كثير من الدول، حتى إذا همت حكومة ميانمار بارتكاب أعمال وحشية بحق مسلمي «الروهينغا»، لم تفلح العقوبات الاقتصادية وقطع العلاقات الدبلوماسية من قبل الدول الأوروبية والولايات المتحدة في ثنيها عن أعمالها الإجرامية، فهي باختصار تملك «البديل» الذي لا يهمه مظهره كحامٍ لحقوق الإنسان ومدافع عنها بقدر ما يعنيه حجم استثماراته فيها والمكاسب التي يجنيها من وراء توطيده لعلاقاته مع حكومة ميانمار.


البديل حاضر

يخبرنا التاريخ عما واجهته ميانمار عام 1988 من حصار وعقوبات اقتصادية غربية وحرمان من المنافع التي تمنحها المؤسسات المالية الدولية، بسبب قمع العسكر المعارضة بقيادة «أونغ سان سوكي»، إلا أن تلك العقوبات لم تؤثر فيها بشكل أو بآخر، لأن الصين وجدت في تلك العقوبات الفرصة للانفراد بثروات ميانمار. وتحولت الصين في إطار ذلك من تأييدها للحركات الثورية المعارضة إلى التواصل مع الحكومة الميانمارية والعمل على توثيق علاقاتها معها، وقامت بـ توقيع أول اتفاقية للتجارة بينهما في أغسطس/آب 1988، أي في نفس العام الذي فُرضت فيه العقوبات على ميانمار، ومنذ ذلك التوقيت والصين أكبر شريك تجاري وأهم مورِّد للأسلحة، التي بلغت قيمتها خلال عشر سنوات 1.4 مليار دولار.

وعندما تيقنت الدول الأوروبية والولايات المتحدة أن العقوبات التي فرضوها على ميانمار لم تجنِ ثمارها، بل على العكس كانت في صالح الصين، اتجهوا جميعًا إلى تغيير سياساتهم تجاه ميانمار وعملوا على إحداث تقاربات معها لمواجهة النفوذ الصيني في ميانمار والاستفادة من ثرواتها. فبُعيد فوزه بولاية رئاسية ثانية عام 2012، اتجه الرئيس «أوباما» إلى إقامة علاقات متينة مع ميانمار، وكان أول رئيس أمريكي يزور ميانمار التي ظلت طيلة العقود الماضية قيد عزلة سياسية.

وتزامنًا مع زيارة أوباما لميانمار، أُصدرت حزمة من القرارات الأمريكية والأوروبية التي تهدف إلى تخليص ميانمار من عزلتها السياسية؛ إذ قام أوباما برفع العقوبات المفروضة على ميانمار بشكل تدريجي، كما أسهم البنك الدولي في بناء نظامها المالي وعمْل مشاريع مرافق فيها. بينما تقابل الرئيس الميانماري «ثين سين» مع «ديفيد كاميرون» عام 2013 واتفقا على إفراج ميانمار عن المعتقلين السياسيين (وهو ما لم يحدث) مقابل رفع «ديفيد كاميرون» للعقوبات الاقتصادية عن ميانمار، ومنذ ذلك الوقت والعلاقات البريطانية مع ميانمار تشهد تحسنات على كافة الأصعدة.

وسيرًا على درب أوباما،دعا وزير الخارجية الأمريكي «ريكس تيلرسون» مستشار الدولة الميانماري «أونج سان سو كي» يوم 20يونيو/حزيران الماضي لزيارة رسمية لواشنطن، كشكل من أشكال التأكيد على استمرار العلاقات بعد صعود الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» إلى سدة الحكم.


«ميانمار» ساحة للتنافس الدولي

للاهتمام الدولي المتزايد بميانمار مسوغاته التي لا تنفك عن كونها فرصة ذهبية لتحقيق مصالح اقتصادية، ولربما وجد صناع القرار الأوروبي والأمريكي في أزمة مسلمي «الروهينغا» الفرصة لتوسيع نفوذهم فيها أكثر من مجرد نجدة هؤلاء المستضعفين.

بين عملاقي آسيا

بالنظر إلى موقع ميانمار على الخارطة، نجد أنها ثاني أكبر دولة من حيث المساحة بين رابطة دول جنوب شرقي آسيا بعد إندونيسيا، فهي تقع بين عمالقي آسيا وأكثرها سكانًا؛ حيث تقع الصين في الشمال الشرقي لميانمار، وتقع الهند في الشمال الغربي منها. وموقعها الاستراتيجي بينهما له دلالات من الناحية الاقتصادية، فما يُستخرج من ثروات ميانمارية ويتم إنتاجه في مصانعها برءوس أموال أجنبية يتم تسويقه في كلا البلدين، كما تُعد ميانمار سوقا لمنتجاتهما أيضًا.

إننا نعمل على تشجيع حكومة ميانمار على حفز بعض عمليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة، والتي ستقلل بدورها الكثير من المشكلات أو تقضي عليها نهائيًا، كما نعمل على تمكين الحكومة من دعم التعايش الطائفي في الولايات
سفير الهند لدى ميانمار «فيكرام ميسري» 1 سبتمبر/أيلول 2017

وعلى الرغم من الدور الذي لعبته الهند في احتضان اللاجئين من مسلمي ميانمار عام 1988، والفضاء الرحب الذي وفرته للمعارضين في المنفى، إلا أن سياستها تجاة ميانمار بدأت في التغير التدريجي مع نهاية التسعينات، لتعود الهند لبناء جسور التشارك والتعاون مع ميانمار مرة أخرى، ولها في ذلك مآرب؛

1- الاستعانة بالجيش الميانماري في التعامل مع حركات التمرد ضد نيودلهي، التي يطالب بعضها بالاستقلال أو الحكم الذاتي في شرقي الهند، فيما يُعرف بالولايات، والتي تعد شبه منفصلة عن بقية أجزاء الهند.

2- مواجهة النفوذ الصيني وسعيه للإطلال على المحيط الهندي من خلال ميانمار، وجاء ذلك ضمن سياسة هندية عُرفت بـ «التوجه نحو الشرق»، والتي لاقت ترحيبًا من قبل الرئيس الأمريكي السابق «باراك أوباما».

3- خلق أسواق للمنتجات الهندية وللاستثمار الهندي في ميانمار، ففضلًا عن الحدود البرية فإن السواحل الميانمارية هي أقرب سواحل دول آسيان إلى الهندـ، لذا فإن حكومة ميانمار تلعب على تلك الميزة الجيوسياسية لتحقيق منافع من كلا الجانبين الهندي والصيني.

مخزون هائل من الثروات الطبيعية

تمتلك ميانمار ثروات طبيعية تمثل بالنسبة لها أهم نقاط الجذب للاستثمارات الأجنبية، ومن بين تلك الثروات؛

1- النفط والغاز والمعادن: يحظى إقليم أراكان باهتمام الشركات الاقليمية والدولية بسبب ثرواته الطبيعية من نفط وغاز، إذ تنشط شركات آسيوية للطاقة في بلدة «تشابيو» في أراكان، ومن أهم استثمارات الطاقة في أراكان مشروع غاز «شوي» المشترك في جزيرة «رامري»، الذي تتشارك فيه شركات من الهند والصين وكوريا الجنوبية، وينتج نحو 500 مليون قدم مكعبة من الغاز يوميًا،وتُصدر ميانمار ثلثي هذه الكمية إلى الصين.

2- مصادر المياه والثروة السمكية: تعتبر ميانمار أغنى دول شرق آسيا من حيث كمية المياه المتوفرة لكل فرد سنويًا، فثلاثة أرباع الطاقة الكهربائية مولدة من مياه أربعة أحواض نهرية، كما أن قطاع الأسماك لدى ميانمار يمنح فرص عديدة للنمو الاقتصادي، فحوالي 8% من إنتاجها الكلي للأسماك يُصدر لنحو 29 دولة، أغلبها لدول الاتحاد الأوروبي بقيمة 650 مليون دولار أمريكي، بحسب إحصائيات ترجع للعام 2011.

3- القطاع الزراعي: تمثل الزراعة العمود الفقرى للاقتصاد الميانماري، إذ يمثل الإنتاج الزراعي نحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن 50% من العمالة في ميانمار تعمل في القطاع الزراعي، و20% من صادراتها تجنيها من الأراضي الزراعية التي تغطي مساحة تقدر بنحو 12.8 مليون هكتار.


الولاء الإسرائيلي لحكومة ميانمار

إسرائيل تعطي الشرعية للقوات العسكرية في ميانمار، وكأنها تقول إن كل العقوبات الأمريكية والأوروبية هُراء، وأنها تبيع الأسلحة لميانمار عوضًا عنهم.
«إيتاي ماك»، محام إسرائيلي في لقاء صحفي – RT الروسية

قررت المحكمة العليا في القدس المحتلة عقد جلسة استماع يوم 26 سبتمبر/أيلول الحالي للنظر في قضية توريدات الأسلحة الإسرائيلية إلى ميانمار. وبحسب ما ذكرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، فإن حكومة تل أبيب مستمرة في توريد الأسلحة إلى حكومة ميانمار، على الرغم من تقرير مبعوث الأمم المتحدة، الذي أكد فيه على ارتكاب دولة ميانمار جرائم بحق الإنسانية.

وترجع بداية توريد إسرائيل للأسلحة إلى ميانمار إلى عام 2015، عندما قام قائد جيش ميانمار، «مين أونغ هلينغ»، بزيارة إلى إسرائيل، لأجل شراء أسلحة إسرائيلية. وتلى ذلك في صيف العام نفسه، زيارة رئيس دائرة التعاون الدولي في وزارة الدفاع الإسرائيلية، «ميخائيل بن باروخ» إلى ميانمار . ونتج عن تلك الزيارات، شراء ميانمار زوارق دورية سريعة «سوبر دفورا» من إسرائيل، فضلًا عن شراء أسلحة أخرى.

وفي أغسطس/آب 2016، نُشرت صور للتدريب على بنادق «كورنر شوت» الإسرائيلية على موقع شركة إسرائيلية متخصصة في توفير التدريب العسكري، تسمى «تار إيديا كونسيبتس»، علاوة على بيان حول بدء الاستخدام التشغيلي لهذه الأسلحة في ميانمار، و هذه التوريدات بالطبع لها انعكاسات إيجابية على اقتصاد تل أبيت، كما أنها عامل مساعد على نشر علاقاتها السياسية وبسط نفوذها في العالم. فإسرائيل لا يهمها ما تتعرض إليه من انتقادات، فهي بالأصل تمارس الانتهاكات والأعمال الوحشية بحق شعب فلسطين، وهو ما يجعلها لا تختلف كثيرًا في إجرامها عن حكومة ميانمار، فوحدها المصلحة هي التي تحكم سير علاقاتها مع ميانمار.

خلاصة القول، أن انتهاكات ميانمار خلال العقود الماضية لم تردعها العقوبات الاقتصادية ولا المقاطعات السياسية، فحتى لو اجتمعت الدول الغربية جميعها وقررت مرةً أخرى التخلي عن مصالحها مع ميانمار ومحاصراتها، ستجد ميانمار الصين وإسرائيل تمدان يد المساعدة والعون، ولن يغير الأمر من شيء، وهو ما يدركه المجتمع الدولي اليوم.