تشهد الساحة الثقافية تحولات عميقة تمس جذور العقل العربي، والمشاهد لما يجري، لا المتابع عن كثب، يفهم أن صيرورة ما تنفض ما لا يخضع لمنطقها بعيدًا إلى خلفها متحركة باتجاه مستقبل ما تزال ملامحه غامضة، لا ندرك عنه شيئًا سوى أنه يتشكل مع كل حدث تلو الآخر، ثورة تلو الأخرى، أو إشكالية تلو الأخرى.

ومع تسارع تلك التحولات وسقوط بعض الرموز القديمة والمحافِظة على حساب رموز جديدة ومتقدمة، كتراجع دور الشيخ التقليدي، على حساب دور الشاب المتحمس العقلاني، لقيادة دفة عملية الخروج من المأزق، يحاول بعض الشباب المشاركة في الدفع بعجلة تلك التحولات بطريقة أو بأخرى على ألا تفوتهم اللحظة التاريخية من غير أن تمر تحت بصماتهم الخاصة، رغبة في صياغة مستقبل واعد يحررهم من سلاسل كثيرة قيدت مقدراتهم، وقوضت إمكانياتهم وأضاعت عمرًا غير قليل من حياتهم، خضوعًا بغير وعي لرموز شكلت المخيال العربي، اتضح أنها مُقعدة وعاجزة عن إنتاج حضارة أو حتى إحداث تطورات اجتماعية.وفي ظل تقدم الوعي تطورت أساليب الرفض والتغيير على مر التاريخ الإنساني، من الثورات الدموية وجز رأس الملك على المقصلة، مرورًا بالإضرابات والمقاطعة المدنية للسلطة الحاكمة، وليس انتهاء بالإعلام الموجه ولكن بأساليب أكثر فردية في التعبير، في عصر تضاعفت فيه فرص الحرية بلا شك، بسبب التقدم التكنولوجي مما أنتج ظواهر إبداعية في المقاومة والتغيير كان أبرزها: السخرية.والملاحظ في الآونة الأخيرة أن السخرية تتقدم لتلحق بنظيراتها من أساليب التغيير وطرق المقاومة من حيث الانتشار، ويتبدى الأمر في مستويات مختلفة من وسائط الفضاء الإسفيري وجلسات الشباب العاديين، وحتى خطابات السياسيين الذين يحملون رؤى ثاقبة.على كل، ما يستحق تفسيره الآن ليست نشأة السخرية كأسلوب مقاومة، إنما الأمر الذي يستحق حتمًا التوقف عنده هو ظاهرة اعتمادها من قطاعات واسعة من الشعب والمؤسسات الإعلامية، وهي ظاهرة يمكن تقسيم أسبابها إلى الآتي


أسباب سيكلوجية

السخرية كـ Short-cut:

تعمل السخرية بطريقة حرق المراحل -حيث تدفع الشباب رغبة عارمة لامتلاك معارف تؤهلهم للعب دور مهم في لحظة تاريخية عابرة- بمعنى آخر دائمًا تتناول السخرية النتائج لأنها واضحة سهلة القطف. ولا عجب أن السخرية من الأيديولوجيا منتشرة، بينما السخرية من الأبستمولوجيا ما تزال مستعصية على فهم معظم الشباب. يسخر الشاب من أصولية دينية أو يسارية ثورية فيتوفر على شعور بجودة أدائه الثقافي، ويجد أنه من السهل الرد على من يتبنون الحراك النخبوي ويجد أنه من السهل أيضًا بمكان، أن يتحرك -بنخبوية- بين مجتمعه داخل محيطه.بهذه الطريقة وبسرعة فائقة نتحصل على مثقفين، فالسخرية كمحاولة تثاقف نهج سريع فعال، على ما يبدو لا يحتاج المرء لكد وجهد ولا لرعاية تطوره الفكري عن طريق دراسة أو تأني -في عصر يمكن فيه التقاط المعلومات في أي مجال وفي أي وقت- فقط تحتاج لعقل مرتب قليلًا يمكنك من ربط تلك المعلومات وتوظيفها بطريقة ساخرة، هكذا يسهل الأمر وتتم المثاقفة.ولا يغيب هنا أن وحدة المصدر الاشتقاقي للمثاقفة (acculturation) والاستزراع (cultivation) تؤسس علاقة ترادفية بينهما؛ مما يعني أن المثاقفة تحتاج إلى جهد وعمل ورعاية حتى تنمو وتونع وتثمر.

السخرية كـ Satisfaction:

تعبر السخرية عن حس نقدي جيد وتعكس مقدرة الفرد على تتبع التسلسل المنطقي للأحداث أو الخطابات الموجودة في الساحة، وتشكل كل ثغرة أو زلة بالتالي مادة دسمة لصياغة فكاهة حول الأمر المطروح؛ وبالتالي فإن مهارة حياكة النكتة أو السخرية تستبطن لزومًا ملكات عقلية ليست فقط تلزم المثقفين والنخب، وإنما تلك الملكات هي غاية عملية التثاقف في الحقيقة، فالغرض من التثاقف ليس حصد المعرفة وإنما تخطيط وترتيب العقل وتشكيل قوالبه لينتج أنماط إدراك وتفكير عالمية قادرة على استيعاب ومساءلة كل فكرة أو أيديولوجيا.ومع كل إنتاج أو استقبال لتهكم يختص بإشكالية ثقافية أو سياسية يستشعر الفرد رضى -بوعي أو لا وعي- عن مقدراته النقدية ويؤمن على ملكاته العقلية ويختصر تكاليف الزمن والجهد والطريق، وربما تحلو السخرية من هذه الزاوية، من الذين يدعون أن للمعرفة والثقافة طريق طويل وشاق، وأنها كسب عمل مضنٍ وبحث جاد ليصوروا الأمر بتعقيد على الذين يستجيبون لخطابهم.بالطبع هو أمر مهم أن تحفز السخرية الطاقات النقدية للمجتمع وأن تقاوم كل صيغ وأشكال السذاجة والاستغلالية المفروضة عليه، لكن دعونا نتفق أن السخرية ليست تثاقفًا وأن المثقف صاحب مشروع لا ملكات نقدية فقط.


أسباب ثقافية

آلية هادمة للرموز:

لابد في البدء من إيضاح دلالي، فكلمة رمز هنا تشير إلى كل ما يعبر عن مخيال أمة وكل ما يشارك في تحديد عقلها، فيمثل تاريخها وتطلعاتها، أو مقدساتها أو اهتماماتها ومشاغلها. وبهذا التعريف يمكن أن نفهم «زمن التحولات» كعملية إحلال وإبدال للرموز، تأخذ فترات من الزمن متصلة أو متقطعة تتغير بموجبها توليفة الرموز الموجودة.تعمل السخرية، في هذا الزمن بالتحديد على تحطيم الرموز عن طريق عرضها بصورة ساذجة، أو بكشف هشاشتها، أو عن طريق التقليل من شأنها بمجرد السخرية منها. وغالبًا تتبنى هذه الآلية تيارات ثقافية ناشئة (جديدة على المجتمع) تود أن تفسح المجال لبعض رموزها، أو فئات من المجتمع تضررت من عادات وسياسات مفروضة بسبب وجود تلك الرموز.

تحفيز للعقل النقدي:

يحتاج زمن التحولات إلى عقل مهيأ قادر على نقد رموزه. ولذلك تسبق زمن التحولات فترة إعداد يعمل خلالها المشغولين بأمرها والقادحين لزنادها قبل أن تنطلق، على تحفيز وحرث التربة التي تنشأ فيها؛ وهي العقل. و«العقل» هنا له دلالة مرادفة لـ«الأيديولوجيا»، غير أن الأخيرة تستخدم دائمًا للتركيز على المضمون الثقافي، في حين أن المراد هنا هو الأداة المنتجة لذلك المضمون؛ أي عقل الأمة المحدد لأنماط تفكيرها.تحفز صناعة السخرية العقل النقدي وتعمل كتمارين شد وارتخاء للعقل لتستفز مقدرات المجتمع لإعادة صياغة رموزه.في الواقع، إن إشكالية السخرية والعقل النقدي هي إشكالية شرط ونتيجة. هل السخرية سابقة للعقل النقدي أم العكس؟، بالطبع الإجابة غير مهمة. لكن من البديهي أن يدرك الذين ينتهجون السخرية أنها وإن كانت شرطًا فهو شرط غير لازم وغير كافٍ، كما أن عليهم دائمًا أن يفترضوا لها نتيجة، بمعنى أن تكون السخرية ليست بالضرورة مبررة، لكن على الأقل موجهة تخدم غرضًا ما.

خلق رأي عام خصوصًا في المسألة السياسية:

تكتسب النكتة فعاليتها في المجتمع من سهولة انتشارها وسرعة تناقلها، لا من عمقها التحليلي، فتعمل كحامل لمضمون يتعلق بالنظام القائم وسياسته، تتم الاستفادة من سرعة تمريره بين الشعب بعيدًا عن رقابة سلطة الدولة المركزية، لتشكيل عقل جمعي في أي حراك، أو لتعبئة رأي عام في مسألة سياسية.يذكر غسان كنفاني في كتابه «فارس فارس» أن السخرية ليست تنكيتًا على مظاهر الأشياء، لكنها نوع من التحليل العميق. ويهتم عبد الوهاب المسيري بالنكتة باعتبارها تعبر عن لا وعي الشعوب وعن خرائطهم الإدراكية الحقيقية؛ أي الطريقة التي يدركون بها الواقع. وبالطبع يمكن أن تعمل النكتة كمؤشر لتصاعد الوعي الشعبي. لكن عندما يتعلق الأمر بتشكيل رأي عام، وفي ميدان السياسة على وجه الخصوص، لا يتطلب الأمر عمقًا تحليليًا بقدر ما يحتاج إلى نكتة سهلة تتناول ما يثير استفزاز الشعب أو ما يرتبط بمصيره.على سبيل المثال، لم يكن «جون ستيوارت» مهرجًا في برنامجه الـ«ديلي شو» بل كان يقدم نموذجًا ناجحًا لتوظيف السخرية في تجلية الوعي السياسي وفي تعرية السياسيين وتقريب المشهد السياسي للمواطن الأمريكي. وهو بذلك يخدم هدفًا آخر في الواقع أيضًا:رفع مستوى النضج الشعبي في تناول الأفكار وتقبلها ومقاومتها. ليس من المناسب أن نحكم على السخرية أخلاقيًا ما دمنا لا نستطيع أن نميز حدودها، فهي غير قابلة للتحكم تعتمد على الجو الشعبي العام والبداهة والعمق في آن، والوضع السياسي والاقتصادي والثقافة ومستوى العدالة في آن آخر، وغيرها من المتغيرات المرنة التي لا يمكن التنبؤ بها.لكن يمكننا دائمًا محاولة وضعها في سياقها الذي وظفت فيه، ومن ثم نفهم ما إذا كانت تخدم بالفعل رؤية تثري بدورها الإشكال الفكري القائم -من خلال تقديم إجابات محتملة أو تفنيد إجابات فقدت صلاحيتها- وما إذا كانت في نهاية الأمر فقط تخدم أيديولوجيا تؤدي بدورها لإنتاج نفس الوضع القائم بمتغيرات فكرية مختلفة، دون أي إضافة في مجالات التنمية وخدمة الصالح العام.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.