لم تكن ثورة يناير بالنسبة لي مجرد حدث عابر شهد صعودا لأحلام وآمال متعلقة بتغيير النظام في مصر وبتحقيق العدالة والحرية والكرامة التي يفتقدها المصريون منذ عشرات أو مئات السنين، ولكنها كانت قبل كذلك بمثابة زلزال كبير ترك أثرا غائرا في نفسي وفي نفوس ومخيلة مئات الآلاف وربما الملايين من الشباب المصري.بصفتي واحدا من هؤلاء الذين تركت فيهم ثورة يناير هذا الأثر الغائر الذي لا يمكن محوه مهما كانت الخطوب ومهما كان نتائج واقعنا الحالي، فإنني سأتعرض في هذه المساحة البسيطة لبعض من هذه الآثار التي أثرت في وجداني منذ 25 يناير 2011.


(1)

تابعت في سنين إدراكي السياسي الأولى في نهاية ثمانينيات القرن الماضي نجاح ثورات دول أوروبا الشرقية على الحكم الشيوعي والمظاهرات الحاشدة للطلبة الصينيين في الميدان السماوي، ثم تابعت في أوائل عشرينيات عمري الثورة على سوهارتو دكتاتور إندونيسيا، ثم تابعت بعد ذلك ثورات أخرى في أوكرانيا وجورجيا وغيرها.رغم افتتاني بتلك الثورات إلا أن قناعاتي كانت راسخة حول انعدام فرص الثورة في مصر.كانت هذه القناعة نابعة من خلاصتين:أولاهما: أن الشعب المصري شعب مستأنس غير قابل للثورة بطبعه.ثانيهما: السيطرة المطلقة لنظام مبارك وتغلغله في حياة المصريين بشكل يمنع الثورة عليه أو يمكن له من سحق أي شرارة لأي ثورة محتملة.إزاء هذه القناعات الراسخة، فقد اعتبرت أن 25 يناير ستكون كسابقاتها مجرد زوبعة في فنجان وستنقضي مثلما كانت تنقضي مظاهرات حركة كفاية ذات العشرات، أو مظاهرات الإخوان محدودة السقف ذات الآلاف؛ لذا فلم أنزل للاعتصام في ميدان التحرير إلا في التاسع والعشرين من يناير.كنت متسمرا أمام شاشة التلفزيون، وأنا أتابع مسيرات الثامن والعشرين من يناير.. كنت مندهشا من الأمواج البشرية التي تسير في الشوارع بلا توقف وبلا خوف من الآلة القمعية لنظام مبارك. كنت متعجبا من انهيار الشرطة الكامل في الميادين وهروب عتاة رجالها من الأقسام والسجون خوفا من الجحافل الشعبية المفاجئة التي هاجمت تلك المقرات الأمنية بلا سابق ترتيب ولا تخطيط. كنت نادما على تلك القناعات التي منعتني من شرف الالتحاق بجموع الشعب الغاضبة.أحدثت يناير زلزالا في نفسي؛ فلم أكن أتخيل أن عصا أمن مبارك كانت أضعف من منسأة سليمان التي أكلتها دابة الأرض بعد مماته!أكدت لي يناير أن الأنظمة القمعية -مهما كانت قوتها الظاهرة- أوهى من شعوبها إذا ما تحركت وتخلصت من أوهام تبقيها طويلا في العذاب المهين.


(2)

حيث أني كنت إسلاميا سابقا، فقد كنت أعتقد أن التغيير السياسي مرهون بإصلاح أخلاق المجتمع، وأن التغيير السياسي مرهون بالتغيير الاجتماعي الذي تلعب السياسة فيه دورا مساعدا ضمن مجموعة مجموعة أخرى من الأدوار الأسمى والأرقى.أتت يناير لتزلزل تلك الأفكار البدائية التي كانت تخلط أمورا ما كان لها أن تختلط، وتقيد عقولا طال أوان عقالها في مشاريع إصلاحية لا يعلم لها أول من آخر.أتت يناير لتعلمني أن مسارات التغيير أوسع من أن تربط جميعها في قيد واحد، وأن التغيير الاجتماعي مسار قد يتوازى حينا وقد يتقاطع حينا مع التغيير السياسي، ولكنهما في النهاية مساران مختلفان قد يسبق أحدهما الآخر وقد يساعد أحدهما الآخر إلا أن أحدهما لا يقيد الآخر كما توهمت قبل يناير.


(3)

رغم أني كنت من معارضي نظام مبارك، ورغم إدراكي لكونه لصا بدرجة رئيس جمهورية، إلا أني لم أكن لأدرك أن الدولة المصرية بكامل مؤسساتها وهيئاتها ما هي إلا صور مصغرة أو مخفية أو مخففة من مبارك وأبنائه اللصوص.لم أكن أدرك بدرجة كافية صعوبة أو استحالة أن توجد مؤسسة وطنية (بمعنى تقديم مصالح عموم المواطنين على مصالح المؤسسات أو الأفراد) في ظل نظام فاسد؛ لأن النظام الفاسد هو من يملك ذهب المعز الذي يعين به أتباعه أو أشباهه، ويملك في ذات الوقت سيفه الذي يبتر رأس أو يد أي شريف قد يدخل في هذه المنظومة الفاسدة من رأسها حتى قدميها.علمتني يناير أن الشفافية والمحاسبية صنو للديمقراطية والحرية والنهضة، وأن أي مؤسسة تدار في السر ودون مراقبة هي جزء من منظومة الفساد مهما كانت رمزيتها ومهما كان شأنها ومهما كانت الأساطير المحيطة بها.


(4)

شاركت في الانتخابات البرلمانية التي كان يتحكم فيها نظام مبارك من ألفها إلى يائها منذ انتخابات 1995، مرورا بانتخابات 2000، وانتهاء بانتخابات 2005. كنت أظن أن المشاركة الانتخابية واجبا مهما كانت فجاجة النظام، ومهما كانت عبثية تلك الانتخابات.كانت انتخابات 2010 البرلمانية بداية إدراكي لعبثية المشاركة في انتخابات محسومة سلفا، وفي القبول بوجود مجلس نيابي يمثل حالة ديكور تجميلي لقبح النظام وظلمه وفجاجته.أتت يناير لتؤكد لي أن المشاركة في عملية انتخابية تمثيلية دون قواعد جادة كما حدث لعشرات السنين قبل يناير ساعدت النظام على البقاء وشوهت فكرة التغيير ذاتها.أكدت لي يناير أن مشاركة في انتخابات بلا قواعد حاكمة تضمن حرية التعبير وحياد المؤسسات وتساوي الفرص، وأن مشاركة في مجالس تمثيلية غير قادرة على المراقبة والمحاسبة؛ تطيل عمر الأنظمة الديكتاتورية وتساعد في تجميلها ليس أكثر.علمتني يناير أننا إن لم نقدر على خلع النظام؛ فأقل ما نستطيع فعله هو أن نقاطع مسرحياته التمثيلية وأن لا نشارك في تجميله حتى يستطيع الشعب أن يراه مكشوفا عاريا دون رتوش أو تزويق.


(5)

مرت من سنين عمري قبل الخامس والعشرين من يناير أكثر من خمسة وثلاثين عاما، ورغم اهتماماتي السياسية المبكرة إلا أني لم أفكر في أن أدرس أو أن أتعلم بشكل عميق ما يتعلق بأصول السياسة وتاريخ التغيير السياسي والسياسات العامة والأيديولوجيات السياسية وغيرها من المعارف التي نحتاجها في أي مسار تغييري مستقبلي.كانت تجربة يناير فرصة شخصية لي، وأظن أنها كانت لكثيرين غيري؛ لندرك حالة الجهل السياسي التي كنا نعيش فيها قبل يناير. كنا نعرف جيدا منذ الثورة أننا لا نريد نظام مبارك بظلمه وفساده وتمييزه، ولكننا لم نكن نعرف في الحقيقة شكل ذلك النظام الذي نريده. كنا نعرف «ما لا نريد» ولكننا لم نكن نعلم «ما نريد». لم يكن ذلك إلا نتاج جهل وغياب معرفة قبل كل شيء.علمتني تجربة يناير أن معظم التنظيمات والتيارات السياسية المصرية لا تحمل في جعبتها إلا شعارات فارغة المضمون، وأن تلك التيارات وما تقدمه من رموز سواء كانت إسلامية أو قومية أو لييرالية لا تمتلك مشاريع سياسية وأنها مجموعات مجوفة في مجملها؛ لذا فقد كان سهلا أن تقذفها الأنواء حيث يريد أصحاب القوة.علمتني تجربة يناير ونتائجها الحالية أن الحركة بلا أفكار أشبه بمسير للعميان بلا دليل ولا موجه، وأن الأفكار دون تجارب تصقلها وتطورها أشبه بتحليق في الفراغ.


(6)

كانت يناير زلزالا في الأفكار وفي الرؤى وفي التصورات. كانت يناير زلزالا هدم أصناما في العقول. كانت يناير زلزالا قلّب لنا أرضنا العطنة وأخرج لنا عفن تربتها وكريه رائحتها، وهكذا يبدأ التغيير.عندما يحدث زلزال فإنه قد يثبط حينا، ولكن توابع له تتلوه، وقد تكون تلك التوابع أكثر قوة وأكثر تأثيرا من أصله. أما وقد حدث الزلزال فإن توابع له قادمة لا ريب، وأثر التوابع سيكون أكبر وأوقع بإذن الله.لم أكن قبل يناير كما كنت بعدها، وما زلت على قناعة بأن يناير 2011 ستكون حدثا فاصلا في التاريخ المصري، وإن غدا لناظره قريب.