بدأت مشكلة فلسطين على مبعدة آلاف الأميال منها، وقبل قرون طويلة من نكبتها واحتلالها وتهجير أهلها.

ففي أوروبا، التي منحها التطور التاريخي مكانة المركز في العالم مع نهاية القرون الوسطى وبداية عصر الكشوف الجغرافية وانطلاق الحملات الاستعمارية؛ أي منذ أوائل القرن السادس عشر تقريبًا، احتلت المسألة اليهودية ومنذ العصور الوسطى مساحة أهمية لا يمكن تجاهلها في تطور تاريخ القارة، بحيث أصبح مصطلحًا فضفاضًا مثل (المسألة اليهودية) عنوانًا لمشكلة سياسية اجتماعية اقتصادية ديموغرافية التصقت بيهود أوروبا دون سواهم، وأفرزت في النهاية الحل الصهيوني.

يعتقد غير المتخصصين أن الصهيونية – كفكر وحركة – نشأت كحركة لخدمة اليهود وحمايتهم وتسهيل عودتهم إلى فلسطين تحقيقًا لوعد إلهي/توراتي بمنحهم أراضي فلسطين المقدسة، ومما يدعو للأسف أن الكثيرين من المتزمتين دينيًا وهواة نظريات المؤامرة المريحة التي توزع أدوار الخير والشر بشكل كاريكاتوري قد انساقوا وراء هذه الرؤية – إيمانًا أو ترويجًا – دون بحث متروٍ عن جذورها.

لكن تتبع تاريخ المسألة اليهودية في أوروبا يفضي بنا إلى استنتاج أقرب إلى الواقعية، مفاده أن الفكر الصهيوني قد نشأ أول ما نشأ في أوساط معادية لليهود لأسباب اقتصادية واجتماعية أكثر منها دينية، وبتحديد أكثر، فإن الصهيونية ظهرت في مبتدئها بين أوساط النخب الحاكمة والاقتصادية -بما فيها العنصر أو المكون اليهودي داخل تلك النخب- في بلدان غرب أوروبا، والتي انزعجت من موجات هجرة الجماعات اليهودية الكثيفة إليها واستيطانها فيها قادمة من شرق أوروبا، بعد أن أفرز تعثر التحديث في شرق القارة خلال القرن التاسع عشر اتجاهات شعبية ونخبوية معادية لليهود؛ بسبب أدوار اجتماعية واقتصادية معينة تولوا مسئوليتها.


غرباء عن المجتمع

كانت المسألة اليهودية إفرازًا طبيعيًا من إفرازات حركة التنوير والتحديث وظهور الرأسمالية الغربية وبنية الدولة الحديثة بمؤسساتها التي تضطلع بالكثير من الأدوار التي كانت بعض الجماعات الوظيفية -والمصطلح للمفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري- موكلة بها في العصور الوسطى، ومن ثم انتفت الحاجة الملحة إلى وجود تلك الجماعات، ومنها بالطبع الجماعات اليهودية التي اتسمت بسمات واضطلعت بأدوار متقاربة في مختلف بلدان أوروبا في العصور الوسطى ولفترة طويلة بعدها.

تمتع يهود أوروبا بوضع غريب شاذ ميزهم اجتماعيًا -فوق تمايزهم الديني- عن بقية فئات المجتمع، فقد كانوا عبيدًا مملوكين حرفيًا للملوك.

كان من المفهوم لدى المجتمعات الأوروبية ولدى الجماعات اليهودية نفسها أن الأخيرة لا تشكل جزءًا عضويًا من المجتمع، وأنها عنصر أجنبي يتمتع بصفات وخصائص تميزه عن بقية فئات المجتمع، وفي عصور هيمنة الكنيسة الكاثوليكية كان اليهود يعيشون في بيئة معادية تزدريهم باعتبارهم قتلة المسيح، وبسبب عمل الكثيرين منهم في التجارة والإقراض الربوي واستيلائهم على رهونات العاجزين عن التسديد، فنشأت صورة نمطية في المخيلة الشعبية الأوروبية عن اليهودي بوصفه مصاص دماء أجنبي خبيث.

ساهم هذا المناخ المعادي لليهود مع إحساسهم بالغربة والقلق والتوجس إزاء الأوساط المحيطة في تكريس عزلة الجماعات اليهودية شعوريًا عن مجتمعاتها، وحاجتها إلى التماسك العضوي والتجمع في أحياء خاصة بها -وهي الجيتو في غرب أوروبا والشتل في شرقها-، كما ساهم في الحيلولة دون اندماجهم في مجتمعاتهم وبقائهم كجماعات تتمتع بقدر عالٍ من الحركية والاستعداد للترحال والقيام بأي وظيفة تسندها إليها المجتمعات أو النخب الحاكمة، حيث لم تكن الأغلبية الساحقة من يهود أوروبا تعمل بالزراعة مثل أغلبية سكان المجتمعات الإقطاعية، وبالتالي لم ترتبط الجماعات اليهودية عضويًا أو روحيًا بأماكن إقامتها أو محيطها السكاني.

كانت أهم الجماعات اليهودية في أوروبا هي جماعات «يهود البلاط» التي ظهرت بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهي نخب يهودية تشابهت أوضاعها إلى حد التطابق تقريبًا عبر معظم بلدان أوروبا، وكانت نمطًا متكررًا يتألف من يهود يتمتعون بمستويات عالية من الكفاءة يتولون أدوارًا مثل إقراض البلاطات الملكية والنبلاء وحتى العامة -في عصر لم تكن البنوك الحديثة قد ظهرت فيه- وكذلك القيام بدور الوكالة التجارية والمالية عن الملوك، وجباية الضرائب والتجارة في المجتمعات الإقطاعية الزراعية، واستيراد السلع المطلوبة بما فيها المعدات الحربية.

تمتع يهود أوروبا بوضع غريب شاذ ميزهم اجتماعيًا -فوق تمايزهم الديني- عن بقية فئات المجتمع، فقد كانوا عبيدًا مملوكين حرفيًا للملوك، وكانوا يتمتعون بحمايتهم الكاملة وببعض المزايا التي لم تكن متاحة لغيرهم مثل حرية التنقل المطلقة والإعفاءات الضريبية، ولكنهم بالمقابل كانوا ملكية خاصة يتصرف بهم الملوك كما يشاؤون، فيبيعونهم أو يهدونهم للغير، وكانت ممتلكات اليهودي حين يموت تؤول للخزانة الملكية ولا تورث للأبناء.

وبالإضافة إلى ذلك، كانت أوضاعهم تتعرض لتهديدات جسيمة إذا ما ضعفت سلطة الملوك وحمايتهم للجماعات اليهودية، أو ظهرت طبقات أو فئات محلية تقتحم المجالات التي يتمتع فيها اليهود بالريادة مثل التجارة، فكانت تنتفي الحاجة إلى دورهم وتُرفع الحماية الملكية عنهم في بعض الأحيان، فيغدون عرضة لبطش الجماهير أو السلطات بهم.


يهود الأرندا نموذجًا

منح نظام الأرندا في بولندا -وكلمة أرندا تعني (الأجرة) في البولندية- اليهود فرصة استئجار حق تحصيل بعض العوائد الملكية، مثل الجمارك والضرائب وسك العملة، وكان هذا نظام يُعرف بالأرندا الكبرى أو الحكومية، وقد ظهر في أواخر العصور الوسطى في بولندا، وساهم فيه اليهود مساهمة كبيرة بسبب استعدادهم الطبيعي لمهام الوكالة عن الملوك والالتصاق بهم.

وفي عام 1569، اتحدت بولندا مع ليتوانيا، وكان من نتائج ذلك أن ضمت بولندا أوكرانيا، وكانت طبقة النبلاء البولنديين (شلاختا) تتمتع بنفوذ قوي للغاية يفوق نفوذ الملك ذاته، وعندما تملّك نبلاء الشلاختا الضياع والإقطاعيات الأوكرانية الواسعة كانوا بحاجة إلى من يديرها ويشرف على تطويرها واستثمارها، ولم يكونوا قادرين على القيام بذلك بأنفسهم بسبب عدم ارتباطهم تاريخيًا بالأراضي الأوكرانية التي انتقلت ملكيتها إليهم فجأة، وكذلك حاجتهم إلى البقاء بقرب مركز الحكم وصنع السياسة في بولندا.

هكذا وجد نبلاء الشلاختا البولنديين في الجماعات اليهودية عنصرًا نموذجيًا يتمتع بالخبرة والاستعداد للانتقال والاستيطان ليقوم بدور الوكالة عن النبلاء في إدارة الإقطاعيات الأوكرانية، وارتحلت أعداد ضخمة من اليهود إلى أوكرانيا التي تمتعوا فيها بسلطة ونفوذ هائلين، لكن العلاقة بينهم وبين الفلاحين وأقنان الأرض الأوكرانيين كانت سيئة للغاية بسبب الأساليب القاسية التي اتبعها يهود الأرندا في اعتصار الفلاحين وجمع الضرائب منهم لحساب نبلاء الشلاختا، الذين لم يأبهوا لمعاناة الفلاحين الأوكرانيين أو تنظيم العلاقة بين الفلاحين ووكلائهم من يهود الأرندا.

وفي عام 1647، نشبت انتفاضة القوزاق أو انتفاضة الفلاحين الأوكرانيين بقيادة بوجدان شميلنكي ضد استغلال الإقطاعيين البولنديين ووكلائهم من يهود الأرندا، وكان من الطبيعي أن يتحول هؤلاء إلى هدف لنقمة الفلاحين الثوار، وقد تعرض يهود الأرندا بالفعل إلى عمليات تصفية وانتقام دفعت الكثير منهم إلى الفرار خارج أوكرانيا وخارج بولندا نفسها إلى وسط أوروبا وغربها.


ظهور المسألة اليهودية

تمتع يهود غرب أوروبا بفرصة كبيرة للاندماج في مجتمعاتهم بسبب ظهور المذهب البروتستانتي المتصالح إلى حد ما مع اليهود، وكذلك نشأة وتطور حركة التحديث والرأسمالية الحديثة بشكل طبيعي، وإعطائهما دفعة كبيرة نتيجة الوفرة وتراكم الثروة الناجمين عن الكشوف الجغرافية والحملات الاستعمارية، الأمر الذي خفف من حدة التوترات الطبقية في الدول ذات النشاط الاستعماري الواسع.

كما أن شيوع الفكر الليبرالي ومبادئ المساواة والقومية الحديثة بعد الثورة الفرنسية ساهم في صهر مكونات المجتمعات الغربية -ومنها اليهود- في قوالب قومية متجاوزة للفروق الطبقية والدينية.

أما في وسط أوروبا فبدأت عملية التحديث في وقت متأخر -أواسط القرن التاسع عشر- وتمت بشكل فوقي وبفرض من الدولة، حيث لم تكن هناك طبقة رأسمالية قوية تنهض بأعباء التحديث، وكان معظم اليهود في دول وسط أوروبا (مثل ألمانيا والنمسا) من المهاجرين الوافدين من شرق أوروبا وبولندا بالتحديد، وكانوا في وضع متخلف اجتماعيًا مقارنة بيهود وسط أوروبا، الذين كانوا قد حققوا معدلات عالية من الاندماج، بل وأزعجتهم موجات الهجرة اليهودية من الشرق، وخشوا من احتمالات ظهور مناخ معاد لليهود بسببها، خاصة وأن أعدادًا كبيرة من اليهود الوافدين كانوا من المعدمين وانضموا إلى الحركات اليسارية الراديكالية.

أما في شرق أوروبا، فقد تعثرت عملية التحديث التي بدأت متأخرًا أصلًا – في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ففي دول مثل روسيا، كانت الطبقة البرجوازية أضعف من أن تقود عملية التحديث، فتولتها الدولة بشكل شمولي وبتعجل زائد عن الحد، كما لم تكن عمليات دمج اليهود تتبع سياسات وأساليب إقناعية وإنما كانت تتم قسرًا، الأمر الذي كان يدفع بالكثير من أعضاء الجماعات اليهودية (وكان معظمهم من يهود بولندا التي ضمت روسيا أجزاءً منها) إما للانغلاق والدفع باتجاه تماسك الجماعة اليهودية وتمايزها وانعزالها، وإما إلى الهجرة إلى وسط أوروبا وغربها.


الحل الصهيوني

انزعج يهود غرب ووسط أوروبا من تزايد موجات الهجرة اليهودية من الشرق، وخشوا من ظهور مناخ معاد لليهود بسببها.

كانت تلك هي الظروف التي دفعت بالكثير من يهود شرق أوروبا للفرار إلى غربها، وكانوا في معظمهم من جماعات يهودية متخلفة اقتصاديًا واجتماعيًا مثل يهود اليديشية في روسيا وبولندا وألمانيا، والذين تزايدت أعدادهم بشكل متسارع في شرق أوروبا حتى وقع ما يشبه الانفجار السكاني في أوساطهم، وازدادت أوضاعهم المعيشية صعوبة مع عمليات التحديث السريعة القاسية الشمولية وإدراكهم عدم كونهم موضع ترحيب في دول شرق ووسط أوروبا، حتى من جانب النخب والعناصر اليهودية المندمجة في مجتمعاتها المحيطة في تلك البلدان.

تبنى نشطاء وزعماء اليهود في غرب أوروبا ووسطها الحل الصهيوني، كطريقة للتخلص من الفائض البشري اليهودي القادم من الشرق وغير المرغوب فيه.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت فكرة الفرار خارج أوروبا كلها تراود عددًا من أعضاء الجماعات اليهودية، خاصة في شرق أوروبا، وكانت فلسطين بطبيعة الحال محط آمال اليهود المؤمنين بالحل الصهيوني بسبب انتشار نمط التدين الشعبي اليهودي المعروف بالحسيدية بشكل كبير بين أوساط يهود شرق أوروبا.

ومن ناحية أخرى، وجدت العناصر اليهودية البرجوازية الكبيرة منها والصغيرة المندمجة في مجتمعات غرب أوروبا، وجدت نفسها منزعجة بشدة إزاء توافد موجات هجرة ضخمة من يهود شرق أوروبا، تستفز المجتمعات الغربية بتخلفها الحضاري والاجتماعي، وتعيد إلى الجماعات اليهودية في غرب أوروبا هواجس انبعاث المناخ المعادي لليهود من جديد، بعدما كانت أوضاعها قد استقرت بشكل كبير.

وفي هذا الإطار تبنى نشطاء وزعماء اليهود في غرب أوروبا ووسطها الحل الصهيوني، كطريقة للتخلص من الفائض البشري اليهودي القادم من الشرق وغير المرغوب فيه، فبرزت أسماء رأسماليين كبار ومفكرين يهود تبنوا الحل الصهيوني، مثل موسى مونتيفيوري، وليونيل روتشيلد، وناثان بيرنباوم، وتيودور هرتزل، وماكس نوردو.

وتزامن ذلك مع تفتق الذهنية الاستعمارية الأوروبية عن حل يضمن التخلص من اليهود، ويضمن كذلك زرع كيان غربي في قلب المشرق العربي لتأمين المصالح الاستعمارية؛ وهنا تحديدًا بدأت مأساة فلسطين.

المراجع
  1. عبد الوهاب المسيري، "الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد"، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، 2002.
  2. ريجينا الشريف، "الصهيونية غير اليهودية: جذورها في التاريخ الغربي"، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1985.
  3. محمد حسنين هيكل، "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل: الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية"، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1996.