دحلان خارج فتح، وكل من يريده فليلحق به.

كان هذا أول تعليق للرئيس الفلسطيني «محمود عباس» أبو مازن بعد فصل «محمد دحلان» من منصبه كقيادي في حركة التحرير الفلسطينية.

بعدها تلقفته أبو ظبي، وضمدت جرحه؛ حتى أصبح من رجال الصف الأول، ومسئولاً نافذًا في سياستها الداخلية والخارجية، فلم ينحصر نفوذه في أبو ظبي وحسب، بل أخذ ظهوره يتوسع على الساحة الدولية بدون صفة معلنة، وأخذ نفوذه يستشري إلى أن بلغ من المكانة العربية والدولية ما لم يبلغه أحد في مثل منصبه.

خلال ست سنوات فقط، أصبح رئيس جهاز الأمن الوقائي السابق في قطاع غزة، والقيادي المفصول من حركة فتح، أخطبوطًا يطول نفوذه السياسي كافة أرجاء المنطقة.


2011: انتكاسة، فانطلاقة

في شهر يونيو/حزيران عام 2011م، فُصل القيادي الفلسطيني «محمد دحلان» من منصبه باللجنة المركزية لحركة فتح بعدما بدأت معركة الرجل مع الرئيس الفلسطيني «محمود عباس»؛ لتكون تلك الخطوة بوابة دحلان لتشعب نفوذه ولعبه دورًا جديدًا ولكن تلك المرة على المستوى العربي.

فقد تمكن من بناء علاقة شخصية ومهنية وثيقة بالإمارات، حيث أُعجب ولي عهد أبو ظبي بـالذكاء والقدرة التي يتمتع بهما دحلان، بالإضافة إلى علاقته الجيدة مع الإسرائيليين. فسرعان ما تولى منصب مستشار ولي عهد أبو ظبي وأخذ يعمل على تغيير مسار الحياة السياسية في الإمارات.

امتلك دحلان مهارات شخصية عالية، بالإضافة إلى علاقاته الوثيقة مع الإسرائيليين؛ مما أهّله إلى تولي منصب مستشار ولي عهد أبو ظبي.

فقد وُصفت قبضته بالحديدية على مقاليد الحكم في الإمارات، داخليًا وخارجيًا، ففي الداخل عمل على قمع الناشطين السياسيين الإمارتيين، وعرضهم لعمليات تعذيب، وخارجيًا تصدّر المشهد السياسي نيابة عن الإماراتيين؛ ليصبح الرجل الأقوى في الدولة الإماراتية.

ومنذ عام 2011 تحول دحلان إلى واحد من أكثر الوسطاء قوة وأكثر تأثيرًا في المنطقة، وقدم الاستشارة لدولة الإمارات على كيفية «كسب المال والنفوذ».

رفع دحلان شعار محاربة الإخوان المسلمين، حيث أكد في أن عداءه مع الإخوان المسلمين يمتد إلى 1981م، حين كان طالبًا في الجامعة الإسلامية بغزة؛ مما أضاف له المزيد من النفوذ عند الدول التي تخشى نفوذ الإسلاميين.

ويرى عدد من المحللين السياسيين أن نفوذ دحلان تغلغل داخل دولة الإمارات لدرجة أنه تمتع بحرية كبيرة في التصرف في بعض المراحل أكثر بكثير من مسئولين آخرين في الإمارات؛ وذلك بسبب تفويض ولي عهد أبو ظبي لدحلان بالكثير من صلاحياته.

وقد أكد موقع «المصدر» الإسرائيلي، في سبتمبر/أيلول 2015م، أن علاقة دحلان بولي عهد أبو ظبي جعلت دحلان «أحد أقوى الشخصيات في الإمارات وفي أماكن عديدة في العالم مع كل ما يعنيه الأمر من نفوذ سياسي واقتصادي وتسهيل الاستثمارات الإماراتية في مناطق السلطة الفلسطينية»، وهذه الاستثمارات تهدف إلى «تعزيز نفوذ الإمارات كما تساعد على تعزيز مكانة دحلان».


البوابة الثانية للعبور

ومما ذكرناه آنفًا يتضح لنا أن من أسباب تزايد نفوذ دحلان في المنطقة هو صلاته القوية بحكام دولة الإمارات التي منحته المناصب، وأغدقت عليه بالأموال، وفتحت أبواب استثماراتها على مصراعيها أمام دحلان لتكون المدخل الأساسي لزيادة نفوذه في المنطقة.

أما المدخل الثاني أو بوابة العبور الثانية لاستشراء نفوذ دحلان فقد أخذت بناصيتها مصر، وبشكل خاص الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي. وتعود علاقة دحلان بمصر إلى فترة حكم الرئيس الأسبق «محمد حسني مبارك»، حيث تمتع بعلاقة قوية مع جهاز المخابرات العامة، وكان لدى دحلان رجال يعملون في القاهرة تحت حماية المخابرات.

وفي عهد الرئيس الأسبق «محمد مرسي» قام دحلان بفتح قناة الاتصال بين أبوظبي ووزير الدفاع المصري – آنذاك – الفريق أول «عبد الفتاح السيسي» أثناء حكم الرئيس مرسي، مستغلاً علاقة سابقة بينه وبين مدير مكتب السيسي اللواء عباس كامل إلى أن تغيرت الأوضاع وأصبح السيسي رئيسًا لمصر.

وقد نقل موقع المصدر عن مسئول فلسطيني قوله «إن المكتب الذي يديره نائب دحلان سابقًا في جهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة، رشيد أبو شباك، أصبح سفارة ثانية للفلسطينيين في مصر، وأن الكثير من الإجراءات والمعاملات الخاصة بالمواطنين الفلسطينيين، وتحديدًا سكان القطاع، في مصر يتم تخليصها في مكتب أبو شباك وليس في السفارة الرسمية لفلسطين، وهذا بطبيعة الحال يعزز من مكانة دحلان ومن علاقاته».

وقد توسط محمد دحلان في توقيع اتفاق بناء سد نهر النيل بين مصر وإثيوبيا والسودان، فقد التقى قادة الدول الثلاث الأفريقية في العاصمة السودانية، الخرطوم؛ لتوقيع اتفاقية تؤكد على المبادئ التي يتم على أساسها بناء سد النهضة. وقد مثّل الاتفاق حصاد عام من المفاوضات والاجتماعات في أبو ظبي وأديس أبابا والقاهرة، وكشفت مصادر عن أن دحلان كان في قلب المفاوضات، حيث كان مدعومًا أيضًا باستثمارات الإمارات في إثيوبيا؛ مما أهّله للعب دور هام في تقريب وجهات النظر بين مصر وإثيوبيا والسودان.

ويعتقد المحللون أن تلك الخطوة تمثّل صورة لجهود دحلان المستمرة لتعزيز نفوذه الدولي، وبشكل محتمل لإعطائه دفعه لتولي القيادة الفلسطينية في المستقبل.


انقلاب تركيا: دحلان خلف الكواليس

كان دحلان قد أظهر عداءه للرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» في عدة مواضع، ففي حوار له في وكالة عمون الأردنية، قال: «أردوغان بياع كلام، بيفكر نفسه عمر بن الخطاب، بينما غيره من العرب كالسيسي والإمارات والأردن قدموا لغزة ما لم يقدمه أحد».

ولم يكن هذا هو التصريح الأول لدحلان، فقد هاجم دحلان تركيا في كلمته أمام منتدى حلف شمال الأطلنطي «الناتو»، ولم يتردد في مواصلة تحريضه ضد الدولة ورئيسها أثناء مداخلته بمؤتمر «الأمن التعاوني والتهديدات المترابطة» في بروكسل.

ففي هذا المؤتمر قال دحلان مخاطبًا الغرب: «أنتم في الطريق الخاطئ، تستخدمون النفاق السياسي بأبشع صوره، فالإرهاب وصل أوروبا، من أين وصل؟، لا أحد يتحدث، هناك تجارة نفط عالمية وكل أوروبا تعرف مع من تجري التجارة ولمن، مع تركيا طبعًا والكل ساكت»، وأردف: «هل موقفكم المتفرج على تركيا وهي تغذي الإرهاب في سوريا موقف مسئول؟، لا أقول هذا الكلام من منطلق عداء لتركيا، ولكني ضد سياسة أردوغان في تدمير الدول العربية، معتقدًا أنه سيعيد إمبراطوريته العثمانية على حساب الدم العربي».

وبعد محاولة الانقلاب في تركيا في يوليو/تموز 2016م، كشفت مصادر مقربة من الاستخبارات التركية لموقع «ميدل إيست آي»، عن تعاون جرى بين الحكومة الإماراتية وبين مُدبري الانقلاب في تركيا بواسطة محمد دحلان، وحسب المصادر فإن دحلان قام بتحويل أموال إلى مدبري الانقلاب في تركيا، وتواصل قبل أسابيع من الانقلاب مع فتح الله كولن المتهم بتدبير محاولة الانقلاب، وذلك عن طريق رجل أعمال فلسطيني يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أكد مركز بحثي غير حكومي في سيراييفو أن دحلان تربطه علاقات صداقة بأتباع كولن، كما أنه قد وعد المسئولين في تركيا بجلب استثمارات إماراتية بالملايين في بلادهم؛ من أجل إنعاش الاقتصاد عقب الانقلاب.


شرق أوروبا وأخطبوط النفوذ السياسي

لم تقتصر شبكة علاقات «محمد دحلان» داخل نطاق المنطقة العربية وحسب، لكنها امتدت من الإمارات العربية إلى صربيا الأوروبية، حيث خصص موقع «ميدل إيست آي» تحقيقًا موسعًا كشف عن ضلوع دحلان في صفقات عسكرية بين الإمارات وصربيا، في الأعوام الأخيرة، في مختلف المجالات الأمنية وتكنولوجيا المعلومات والإنترنت والاتصالات.

وبالرغم من السرية التي تحيط بها أبو ظبي استثماراتها في صربيا، فإن مصادر صربية أكدت أن «الاستثمارات الإماراتية ترمي إلى ما هو أبعد من الأرباح المالية المحتملة». وتتهم بعض التقارير ولي عهد إمارة أبو ظبي، بالعمل كـ «وكيل للولايات المتحدة وإسرائيل في أوروبا الشرقية».

وتقول التقارير إن دحلان «هو الذي يسهل التواصل بين الإمارات وشخصيات نافذة في الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية من جهة، والإمارات وكبار المسئولين في جمهوريتي صربيا ومونتينيغرو من جهة ثانية، تحت غطاء شركات الاستثمار الاقتصادية».

وفي يناير/كانون الثاني 2015، كشفت صحيفة «الجارديان» عن وثائق تبين أن دحلان وعائلته ومعاونيه حصلوا على الجنسية الصربية خلال الفترة من فبراير/شباط وحتى يونيو/حزيران 2014. وأضافت الجارديان أن دحلان قدم وعودًا لصربيا بتسهيل استثمارات إماراتية فيها بمليارات اليوروهات.

وأوضح التقرير أن دحلان أدى دورًا في تعزيز العلاقات التجارية والدبلوماسية بين الشيخ محمد بن زايد والحكومة الصربية، قبل أن يمنحه الرئيس الصربي ميدالية العلم الصربي في إبريل/نيسان 2013؛ لدوره في تطوير وتقوية التعاون السلمي والصداقة بين صربيا والإمارات العربية المتحدة.

كما حصل دحلان على الجنسية من دولة مونتنيغرو (الجبل الأسود) رغم ما توصف به من أنها شديدة الانغلاق ولا تسمح بازدواج الجنسية.


حضور النفوذ في ليبيا وسوريا

قام دحلان بتحويل أموال إلى مدبري الانقلاب في تركيا، وتواصل قبل أسابيع من الانقلاب مع فتح الله كولن.

بحسب «ميدل إيست آي» فإن «دحلان قد استُعمِل كقناة للاتصال والتمويل للإمارات في عدد من العمليات بالشرق الأوسط». فـالرجل لديه خبرة في تجارة الأسلحة بشكل خاص، وهو متهم من حركة فتح بأنه شحن أسلحة إسرائيلية الصنع للرئيس الليبي السابق معمر القذافي، وهو ما أكدته برقية «ويكيليكس» في 2010م تحدثت عن اجتماع تم عقده في إسبانيا مع نجل القذافي.

وعقب الثورة الليبية، وفي تسجيل سري لـ «عباس كامل» مدير مكتب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ذلك الوقت، كشف كامل أن دحلان قد يزور ليبيا بصحبة 3 أشخاص في طائرة خاصة، وأوصى كامل بأن يتم السماح لـدحلان بمغادرة المطار الليبي سرًا.

بمساندة إماراتية، لعب دحلان دورًا محوريًا في تثبيت النفوذ الروسي في سوريا وليبيا.

وهنا نجد أن ما يقوم به دحلان في ليبيا يشير إلى الاتساق مع التوجه الروسي في المنطقة، كما أن استقباله في موسكو يعكس تحسن العلاقة بين روسيا والإمارات.

فقد ظهر محمد دحلان يتوسط اجتماعًا داخل مقر الكرملين مع الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، ونقلت المصادر أن دحلان كان يمثل الإمارات في منتدى الثقافة العالمي الذي افتتحه بوتين في موسكو.

ويربط البعض زيارة دحلان لموسكو أنها كانت مكافأة له على هجومه على تركيا، خاصة بعد التوتر الذي أصاب العلاقات الروسية التركية منذ إسقاط الأخيرة لطائرة روسية انتهكت مجالها الجوي عند الحدود مع سوريا في نوفمبر/تشرين الثاني 2015.

ويرى عدد من المحللين أن الرئيس الروسي لعب بورقة دحلان واستفاد من الرجل، خاصة أن هناك مؤيدين لدحلان في سوريا، ويمكنه تحريك الأحداث من خلالهم بما ينسجم مع التوجه الروسي الداعم لنظام بشار الأسد. ففي مارس/أذار 2016م، دشن المعارض السوري أحمد الجربا في القاهرة تيارًا جديدًا أطلق عليه «الغد السوري»، وكان تأسيس التيار بحضور عدد من الشخصيات المعارضة السورية، ومندوب من السفارة الروسية في القاهرة، وبحضور محمد دحلان نفسه.

ويمثل التيار تتويجًا لجهود مصرية-إماراتية لخلق معارضة سورية تقبل بالعمل مع النظام السوري وغير موالية للسعودية أو قطر أو تركيا.

وهنا، نجد أن محمد دحلان قد أصبح مثالًا نموذجيًا للفرد الفاعل في العلاقات الدولية، بعدما استطاع أن يمد نفوذه في المنطقة العربية وما بعدها، دون أن يملك منصبًا رسميًا يتحرك من خلاله. فهل يستطيع دحلان أن يعود مرة أخرى بمنصب رسمي إلى السلطة الفلسطينية؛ ليتوج مسيرته السياسية؟