إنِّي أدمنُ الحُلم كما يدمنُ أبي الأفيون. بالحلمِ أغيِّر كلَّ شيءٍ وأخلقُهُ
عباس كرم يونس
قال الشيخ عبد ربه التائه: حذار .. فإنني لم أجد تجارة هي أربح من بيع الأحلام.
نجيب محفوظ – أصداء السيرة الذاتية

في مائة وخمسين صفحة تقريبا يقوم نجيب محفوظ بنسج روايته البديعة أفراح القبة، الرواية التي لو أرادنا أن نختار بطلها الرئيسي فلن يكون أحد الرواة الأربعة الذين حكى محفوظ على لسانهم أحداث روايته. فالبطل ليس عباس كرم يونس، ولا أباه، أو أمه، وبالتأكيد ليس طارق رمضان. البطل الحقيقي هو الحلم، فمثلما يحدث عباس نفسه في نهاية الرواية ويؤكد أن الحلم هو بطل مسرحيته الحقيقي، كان الحلم أيضا هو بطل الرواية.

الأحلام المستحيلة التي لا نتمكن من الوصول إليها فندفع أثمانا باهظة قد تتسبب في دمارنا لعلنا نلمسها، تلك الأحلام التي أشار محفوظ إليها من قبل في كتابه أصداء السيرة الذاتية، وحذرنا من تجارتها، كانت إذن هي المحرك الرئيسي للأحداث في تلك الرواية.

عن طريق أحلام أبطاله يقوم محفوظ بنسج روايته وبنائها، ورغم أن الحلم هو البطل الرئيسي للرواية لكن محفوظ لا يكتفي بمناقشته فقط لكن يستخدمه هو الآخر كـأداء بناء لبقية عناصر الرواية وقضاياها. فالرواية رغم أنها صغيرة نسبيا لكن محفوظ بث بها العديد من الأفكار، فالإضافة للأحلام المدمرة تناقش الرواية ثلاث قضايا رئيسية أخرى، وهي: كيف يمكن أن تكون المثالية وأحلام الكمال سببا في تعاستنا، كيف يمكن لتفاصيل صغيرة لا نلتفت إليها أن تعطينا قصة مختلفة وتغير وجهة نظرنا وأحكامنا تماما. وفي خضم قيام الكاتب برسم نفسيات شخصياته المعقدة وبناء الصراع الذي من خلاله يناقش القضايا السابقة، يقوم أيضا محفوظ باستعراض مشاكل المجمتع والرداءة التي أصابته ونفاق الحكومات وقت كتابة الرواية، فتبدو شخصياته مجرد انعكاس للمجتمع الكبير في أعوام ما بعد الانفتاح، وقت كتابة الرواية سنة 1981.

استخدم محفوظ في كتابة روايته تقنية تعدد الرواة، فجاءت الرواية في أربعة فصول تروي نفس الحكاية لكن من وجهات نظر مختلفة وبتفصيلة زائدة أو ناقصة حسب الراوي. نجح محفوظ تماما في استخدام تلك الطريقة فجاءت الروايات الأربعة منطقية، وتفاصيل كل منها ملائم تماما للراوي ووجهة نظره للأحداث.

لم يختر محفوظ تلك الطريقة اعتباطا أو استعراضا منه لبراعته، لكنه اختارها ليقوم بإيصال أحد أفكار الرواية الرئيسية، وهي كيف يمكن لزوايا النظر المختلفة أن تعطي قصة مختلفة تماما. فرغم أن جوهر الحكاية واحد في الأربعة الفصول، إلا أن بعض التفاصيل الصغيرة المختلفة من حكاية لأخرى ستغير حكم القارئ تماما وستجعله في حالة صراع نفسي في نهاية الرواية، وستجعله يفكر أنه في الحياة أيضا يمكن لبعض التفاصيل التي نغفل عنها أن تسبب قصورا لفهمنا، فيصبح القارئ أكثر حذرا في إصدار أحكام على الآخرين حتى لا يكون مثل عباس، ظن أن أمه عاهرة فقط لأنه شاهد سرحان الهلالي يخرج من غرفتها دون أن يكون على دراية باللحظات التي سبقت هذا المشهد! نجح محفوظ إذن في طرح أولى قضايا روايته فقط عن طريق حسن اختيار التقنية التي سيسرد بها الرواية.

يقوم محفوظ بطرح باقي قضايا الرواية عن طريق الشخصيات الأربعة التي اختارها وتفاعلها وصراعها مع بعضها البعض ومع الشخصيات الأخرى، فنجد أن نجيب اختار شخصياته بعناية لتحقيق هذا، فجاءت الشخصيات كالتالي:


عباس كرم يونس

قال الشيخ عبد ربه التائه: الكمال حلم يعيش في الخيال ولو تحقق في الوجود ما طابت الحياة لأحد.
نجيب محفوظ – أصداء السيرة الذاتية.

«لا يوجد من هو أقسى من المثاليين، هم المسئولون عن المذابح العالمية»، بهذه الجملة التي قالها الهلالي مدير الفرقة المسرحية يمكن اختصار شخصية عباس كرم يونس، الشخصية التي تدور في فلكها جميع شخصيات الرواية.

رأى في أبيه شيطانا مريدا، ثم حول أمه لعاهرة في المسرحية التي كتبها. لم يؤمن إلا بعالم مثالي يقبع على قمته أقرانه المثاليون، آمن بثورة 52 وزعيمها وشعاراتها التي ظن أنها الطريق للعالم المثالي الذي ظل يحلم به، ظل يهتف بأناشيد الثورة حتى بعد الهزيمة! ربما يحذرنا محفوظ بحديثه عن عباس من أن الفاشية منبعها تلك المثالية الجامدة، هؤلاء الذين يظنون أنفسهم دوما أكثر أخلاقية من الجميع.

قام محفوظ باختيار وظيفة مؤلف مسرحي لهذه الشخصية، المثالي الذي ظل يبحث طوال عمره عن الكمال، وأخذ يطلق الأحكام على الآخرين، فهو يشعر بالاستعلاء الأخلاقي عليهم. يفاجئه طارق رمضان الذي طالما نعته بالحيوان القذر ببكائه عند وفاة تحية، فيتساءل عباس: «أكان يحبها ذلك الحيوان»، كيف للشر الخالص كما تخيله عباس أن يحب؟! شخص لا يرى سوى الأبيض والأسود بالتأكيد ستدفعه تلك اللحظة للارتباك. صراع أخلاقي وأحاديث داخلية تدفعنا للعديد من التساؤلات، هكذا كانت شخصية عباس كرم يونس.


حليمة الكبش

الحب أقوي من الشر نفسه.
حليمة الكبش

حليمة الحالمة، التي ربت عباس على مثل عليا وقيم كاملة كانت تحلم بها، لكن مآسي الحياة اختارت لها طريقا آخر فحاولت أن تحقق في عباس ما لم تحققه هي. كانت شريكة في مأساة عباس وضحية له. شريكة في صنع المأساة عندما أعدته لعالم مثالي لا يوجد به سوى لونين الأبيض والأسود، وضحية له عندما اتهمها بأنها عاهرة في مسرحيته التي كتبها فقط لأنه لم ير الصورة الكلية. كانت تمثل حليمة الإنسان الذي تنزلق قدمه في طرق مظلمة نتيجة ضغوطات الواقع التي يرضخ لها الكثيرون، رغم أنهم حاولوا أن يقاوموا. تجلت ذروة الصراع بين الخير والمثل العليا والشر والتخلى عن كل المبادئ في شخصية حليمة، فهى على العكس من زوجها ورغم أنها أطاعته في تحويل بيتهم لماخور فإنها ظلت تحاول أن تهرب من هذا المصير، وتجلى هذا في تربيتها لعباس على كل المثل العليا المضادة لنمط حياتها هي وزوجها.

كانت إحدى أجمل شخصيات الرواية، ربما هي الأكثر صدقا وإنسانية، فمحفوظ جعلها آثمة مثقلة بالذنوب لكنها تحاول أن تهرب من هذا الدنس، أخطأت في تربية عباس، لكنها بكل تأكيد لم تكن عاهرة كما وصفها عباس.


كرم يونس

كرم يونس

هكذا رسم نجيب محفوظ شخصية كرم يونس لتعبر بشكل أساسي عن تناقضات المجتمع في تلك الفترة، مدمن أفيون، يؤمن بمبادئ جديدة تمهد طرق الثراء، مبادئ الأخلاق بها شيء نسبي هامشي ممكن التخلى عنه في سبيل السماء التي ستمطر ذهبا. كرم يونس هو إذن مواطن عصر الانفتاح الذي يهمه المتعة والأموال، أما الأخلاق فمكانها الجامع، والفضيلة شعار كاذب لا تسمعه إلا هناك.


طارق رمضان

ربما كانت شخصيته هي أقل شخصيات الرواة الأربعة تركيبا وإثارة للتساؤل، بشكل أساسي كانت تلك الشخصية تعبر عن كيف تأسرنا أحلامنا بعد ضياعها، فطارق ظل يشعر بمرارة وخيبة أمل نتيجة فقدانه لتحية، رغم أنه كان يسيء معاملتها. أيضا مهد الكاتب لأحداث القصة عن طريق حكاية طارق للأحداث بصورة مبسطة وبصراع تقليدي دون إثارة الصراعات الأكثر جدلا والتساؤلات العميقة مثلما فعل مع الثلاثة الآخرين.


تحية

كيف تزج الحكومة بنا في السجن من أجل أفعال ترتكبها هي جهارا؟

رغم أن تحية ليست أحد الرواة الأربعة، فإنها ساهمت بشكل كبير في البناء الدرامي للرواية، فكانت تحية هي محرك الأحداث في أحد مسارات الصراع الروائي الرئيسية. بناء وتركيب تلك الشخصية كان موفقا من محفوظ، في الأغلب أرادها نجيب رمزا لإمكانية انتصار الإنسان على نفسه الآثمة، فمن ناحية كانت تحية تشبه كثيرا شخصية حليمة الكبش، دفعتها الظروف للانحطاط، لكنها كانت تحمل بداخلها تلك الرغبة في الهروب من هذا المصير، لخصت هذا بقولها لعباس: «لا يسأل متسول عما يليق وعما لا يليق»، فعلى الرغم من أنها كانت تريد أن تصبح شخصا آخرا، فإنها رأت أن هروبها من الماضي رفاهية ليست متاحة لها، لكنها فيما بعد بمجرد أن أتيحت لها الفرصة للتخلص من الماضي المثقل بالذنوب والآثام فعلتها بلا تردد.

من الأشياء التي تدعو للتفكير أيضا، لماذا لم تر حليمة رغبة تحية في التطهر رغم أنها تشبهها كثيرا؟ لماذا تقول لعباس: «لها سيرة وتاريخ.. ألا تفهم ما يعنيه ذلك؟»، رغم أن تحية لها سيرة وتاريخ أيضا، أم أن البشر هكذا دوما يظنون أنهم وحدهم هم ضحايا الظروف وأنهم مهما انحدروا فهم أبرياء، أما الآخرون فيقعون في الموبقات بكامل إرادتهم الحرة، كانت حليمة تظن نفسها أكثر نقاءً من تحية بكثير، تعالٍ أخلاقي يخل بأحكامها، وهو إثم كبير، هذا التعالي هو ما نقلته بحذافيره لعباس، فجاءت شخصيته تسمو لكمال مدمر ومثالية تفسد النفس.

تثير أيضا شخصية تحية العديد من الأسئلة الأخرى، لماذا لم ير عباس رغبة أمه الصادقة في الهروب من الماضي والتخلص من خطاياه كما رأى تلك الرغبة في تحية؟ هل حقا آمن عباس بما فعلته تحية أم أن الإنسان من الظلم بحيث إنه لا ينسى أخطاء الآخرين مهما تغيروا؟

بالنسبة للبناء العام للرواية، الرواية تدور في عالم المسرح، والحدث الرئيسي في الرواية هو المسرحية التي قام بتأليفها عباس، والتي يقوم فيها بتمثيل الأحداث التي وقعت في منزلهم، وجاء اختيار محفوظ للمسرح بالذات كرمزية أن الحياة ما هي إلا مسرح كبير، وأن جل ما تفعله الروايات عامة هو إعادة تمثيل الواقع، وهو ما فعله عباس تماما بمسرحيته. واستخدام المسرحية في الأعمال الأدبية هو أسلوب قديم، فقد استخدمه شكسبير من قبل في مسرحية هاملت، حيث قام بإدراج مسرحية داخل المسرحية الأصلية. لم يخترع محفوظ هذا الرمز إذن، لكنه أجاد استخدامه وجاء اختيار هذا الرمز متوافقا مع القضية الرابعة التي أراد أن يعرضها محفوظ في الرواية، وهي أن أبطال روايته هم تجلٍ للواقع الحقيقي بصورة أو بأخرى.


اختيار المسرح أيضا قد يمكننا من قراءة رسالة خفية أخرى في الرواية. فعن طريق المناقشات التي كانت بين أبطال الرواية عن الفن المسرحي الحقيقي، يخبرنا محفوظ بأن الأدب الحقيقي والنجاح الحقيقي للأديب ليس بكتابته عن المثل عليا ورسم شخصيات يوتوبية لأبطاله، لكن نجاحه الحقيقي في الكتابة الواقعية ورسم الواقع بتعقيداته ومشاعر أشخاصه المتضاربة. لست متأكدا من هذه الرسالة الخفية، لكن شخصا مثل نجيب محفوظ ليس مستبعدا عنه أن يعبر عن نفسه وأقرانه من الكتاب الحقيقيين برسالة خفية وسط رواية مليئة بالخطوط الدرامية الأخرى.

بالنسبة للتتابع الزمني في الرواية، يستخدم الكاتب ببراعة مدهشة وبسلاسة فائقة أسلوب «الفلاش باك»، فتشعر أنك تشاهد فيلما مثيرا، لهذا سيندفع القارئ في قراءة الصفحة تلو الأخرى دون أن يشعر بالملل، وبالتأكيد دون أن يشعر بتشتت، فمحفوظ على الرغم من كثرة مشاهد «الفلاش باك» فإنه استطاع أن يحافظ على تماسك روايته.

أخيرا أفراح القبة رواية صغيرة يمكن للقارئ بسهولة أن يلتهمها في جلسة واحدة، لكن على الرغم من ذلك ستثير الكثير جدا من التساؤلات والمشاعر المتناقضة، فكما عودنا محفوظ صفحات قليلة منه تفوق في تأثيرها آلاف الصفحات من مؤلفين آخرين!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.