منذ إعفائي من منصب رئاسة الحكومة وأنا أحاول أن أدير هذه الأزمة بالتي هي أحسن.. أسمع كلاما مؤلما وغير صحيح في حقي من أشخاص بعضهم من المقربين ومع ذلك أسكت، ولو أنني أنا الأمين العام، ويمكن لي إذا أردت أن أنشئ لجنة تحقيق.

هكذا عبّر الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة المغربية السابقة، عبدالإله بنكيران، عن استيائه مما يتعرض له منذ تم إعفاؤه من مهمة تشكيل الحكومة، وهي أول أزمة كبرى يتعرض لها الحزب منذ نشأته في 1998، ثم يعلن الآن أن الكلام قد انتهى ليطوي معه صفحة أكبر أزمة داخلية يشهدها حزب العدالة والتنمية.


البداية: الشيطان يكمن في التفاصيل

لقد استطاع حزب العدالة والتنمية المغربي تقديم نموذج سياسي فريد، في قدرته على التنظيم الحزبي، والتماسك المؤسسي، والديمقراطية الداخلية، جعلته أفضل أحزاب النظام السياسي المغربي، حيث ظل طوال تاريخه عصيا على الاختراق الملكي، وذلك بفضل ثلاثة عوامل:

أولها، وحدته الداخلية وتماسك صفوف مناضليه التي ظلت محصنة من كل أنواع الاختراق، وفي أصعب المراحل التي مر بها الحزب، إلى أن تمكن مؤخرا «الشيطان» من اختراق هذه الصفوف! على حد تعبير الشيخ أحمد الريسوني.

العامل الثاني الذي حصن الحزب هو ديمقراطيته الداخلية التي كان يضرب بها المثل في حرية التعبير عن الرأي والانضباط للقرار في نفس الوقت.

أما العامل الثالث فيُعزى إلى المرجعية الإسلامية للحزب، وقد لعب الجناح الدعوي داخل الحزب، ممثلا في حركة «التوحيد والإصلاح»، دورا مهما في الحفاظ على وحدة الحزب وتماسكه من خلال الترويج لقيم الوحدة والتماسك والتضامن.

بدأت الأزمة الداخلية من الطريقة التي تم بها إعفاء زعيم الحزب وقائده من تشكيل الحكومة، من قبل الملك محمد السادس، وتعيينه الرجل الثالث الهادئ داخل الحزب، سعد الدين العثماني، رئيسا للحكومة الحالية، رغم تصريحات نائب الأمين العام، سليمان العمراني، الذي أكد أكثر من مرة أن حزبه تنازل أكثر ما يمكن التنازل، وأن إرادة بعض الأطراف في إفشال مهمة بنكيران نجحت في النهاية.

والجدير بالذكر أن طريقة تدبير العثماني تشكيلته الحكومية السريعة جدا، وطبيعة الحقائب التي تولاها حزب الأغلبية، وحجم التنازلات التي قدمها، فضلا عن قبول تمثيل حزب «الاتحاد الاشتراكي» ، وكذا حزب الأحرار الذي حظي بحقائب استراتيجية، رغم أن ترتبيه كان الرابع في نتائج الانتخابات، قد ألقت كل هذه العوامل بظلالها على قواعد الحزب، بل أحدثت داخلهم شعورا بالمهانة، والخيانة، وإحساسهم برغبة الدولة العميقة في المغرب، في إزاحة عبدالإله بنكيران، فضلا عن سيطرة الحزب على الحقائب الثانوية، وتركه الوزارات الاستراتيجية، الأمر الذي ربما يؤدي إلى فشل الحكومة برمتها، وفقدان العدالة والتنمية لثقة الناخبين في الانتخابات المقبلة.

وصف بنكيران نفسه ما حدث بأنه «زلزال»، أما العثماني فوصفه بأنه «اللحظة الصعبة والمؤلمة». رغم أن هنالك قسمًا ثانيًا مؤيدًا لما فعله العثماني، مؤكدًا أن ذلك سيمنع الطريق على الملك للانقلاب على الإصلاحات الدستورية التي حدثت في 2011.

لقد نتج عن هذه الأزمة انقسام داخلي، بل إن الصراع بين قادة الحزب وصل لمعدلات غير مسبوقة، نتيجة تبادل الاتهامات حول رغبة كل تيار في الاستحواذ والسيطرة، بغرض تحقيق منافع شخصية زائلة، وهو ما وضع شعبية الحزب وسمعته على المحك، فضلا عن إمكانية انقسام الحزب إلى حزبين، نتيجة تصدع قاعدته الداخلية.


القصر الملكي: تاريخ من الرقص على الأحبال

لا يمكن فهم الأزمة الحالية داخل حزب العدالة والتنمية بمعزلٍ عن فاعل أساسي ومؤثر، ويتعلق الأمر بالسياق السياسي المغربي، وتأثيره على الفاعلين السياسيين، فأزمة الحزب ليست فقط نتيجة اختلافٍ في الرؤى بين قياداته، وإنما هي أكبر من ذلك، انعكاس لصراع موازين القوى داخل الساحة السياسية المغربية، فالحزب الذي اكتسب شرعيةً شعبيةً وديمقراطيةً أصبح مصدر إزعاج للسلطة في المغرب التي عملت تاريخيًّا على إضعاف كل الأحزاب السياسية التي قد تهدّدها في شرعيتها.

ومن يعيد قراءة تاريخ علاقة الأحزاب السياسية ذات الامتداد الشعبي في المغرب مع السلطة فسيجد أنه تاريخ من الصراع حول من يتحكّم في موازين القوى. حدث هذا في فجر استقلال المغرب، عندما أفشل القصر الملكي عام 1958 محاولة الزعيم التاريخي لحزب الاستقلال، علال الفاسي، تشكيل أول حكومة مستقلة في تاريخ المغرب المستقل، وعمد القصر آنذاك إلى اللعب على أجنحة حزب الاستقلال المتصارعة مرجحًا كفة جناحه اليساري على جناحه المحافظ الذي كان يمثله علال الفاسي، ليس حبًا في الجناح اليساري للحزب الذي كان يمثله عبد الله إبراهيم، وإنما بهدف إضعاف الجناح المحافظ داخل الحزب، وهو ما مهّد لانشقاقه عام 1959 وولادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو الأمر الذي يحدث اليوم، مع بنكيران.

رغم أن الأحزاب السياسية الموجودة في المغرب لم تسع إلى المطالبة بأهداف ثورية وجذرية، من قبيل إسقاط النظام، بل عملت على منحه الشرعية التي يحتاجها دوما، إلا أن ذلك لم يمنعه من العمل على تفتيت قوتها، وسعيه نحو تحويلها لأحزاب كرتونية، ما يمنحه شعورا دائما بالاستقرار، وهو ما دفع البرلمانية أمينة ماء العينين إلى القول بأن «الحزب رفع طويلا شعار استقلالية القرار الحزبي، وكان يقصد به قوة الأحزاب وقدرتها التمثيلية، وصون المشروعية التي تكتسبها بأصوات الناخبين».

كما أضافت: «الأحزاب السياسية اليوم تتعرض إلى حملة قوية غايتها التحجيم والتدجين، وسائلها متعددة، وتختلف باختلاف خصوصية الأحزاب، ما بين الترغيب والترهيب والإغراء والتدخل المباشر، ما يشير إلى العودة القوية للسلطوية لتهيمن على القرار والفعل السياسي».


مصلحة العدالة والتنمية هي شرع الله

حاول حزب العدالة والتنمية طوال تاريخه الحصول على رضا وثقة البلاط الملكي، رغم سعي الأخير لتقزيم دوره، وتفتيته داخليا، لاسيما أن «المخزن»، يدعي أنه ينطلق من قاعدة دينية، إذ يصف الملك بأنه أمير المؤمنين، لذا فالعدالة والتنمية، صاحب الشعبية الكبيرة، أضحى ينافسه في مشروعيته الدينية، رغم أن الحزب لطالما أكد أن الملك هو صاحب المرجعية الدينية الأولى، حماية لنفسه، ورغبة في تجنب مصير حزبي الأمة والبديل الحضاري، اللذين تم حلهما في 2009، ناهيك عن جماعة العدل والإحسان، التي يحظر النظام عليها التوجه نحو العمل السياسي.

علاوة على ذلك، يشوب حزب العدالة والتنمية حالة من الغموض والاتهام، نتيجة علاقاته مع القصر، رغم مرجعيته الإسلامية، إذ نشرت الصحف المغربية تقارير عن العلاقات السرية التي كانت قائمة بين الأمين العام الحالي بنكيران والمؤسسة الأمنية، حيث يتهمه معارضوه بأنه ملكي أكثر من الملك نفسه، بل إن القيادي في الحزب مصطفى الرميد اعترف هو نفسه بأنه كان يعد تقارير سرية عن الحركات الإسلامية في المغرب بطلب من وزير داخلية الملك الراحل الحسن الثاني، إدريس البصري، وهو الذي كان يوصف طيلة ربع قرن الذي رأس فيه وزارة الداخلية برجل النظام القوي وحكم المغرب بيد من حديد.

بل الأكثر من ذلك، رفض الحزب على لسان قائده حراك الربيع العربي الذي حدث في المغرب، والذي طالب بإسقاط الفساد والاستبداد، ووقف الحزب في صف البلاط الملكي، رغم أن الصلاحيات التي يتحرك بها الحزب اليوم، هي من نتاج هذا الحراك.


الملك وبنكيران: كلاهما يفشل

في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن الملك أمام كبار مسئولي الدولة بجانب النواب والوزراء، امتعاضه من المشهد السياسي، متوعدا إياهم بالمحاسبة عن كل تقصير، ومتعهدا بـ «معالجة الأوضاع وتصحيح الأخطاء وتقويم الاختلالات»، حتى لو اقتضى الأمر حدوث «زلزال سياسي»، وهو ما فسّره البعض بوجود رغبة لدى المخزن في تنظيم انتخابات مبكرة، ستمكنه من ضرب حزب الأغلبية، في ظل ما يتعرض له من أزمات حادة أفقدته ثقة الجماهير، لذا من المتوقع انتكاسة حزب العدالة والتنمية إذا تمت إعادة الانتخابات، وحينها سيكتب للحزب تاريخ جديد، ربما سيكون مغايرا تماما لربيعه الماضي.

وقد حاول الأمين العام السابق للعدالة والتنمية ورئيس الحكومة تقوية نفوذ الحزب، من خلال زيادة كاريزميته، وجمع قواعد وقطاعات الشعب حوله، الأمر الذي جعله مصدر قلق كبير للملك، رغم أنه كان دائم الاعتذار له علانية، إلا أن الخطيئة الكبرى التي وقع فيها، كانت رغبته المضمرة على الأقل في تغيير النظام الأساسي للحزب، من أجل تجديد ولايته، الأمر الذي أظهر تعامله مع العدالة والتنمية باعتباره حقا حصريا له، لذا مثلت قضية تصويت برلمان الحزب على عدم التجديد له، وحسم الصراع الداخلي الذي نشب حوله، بأنها الرصاصة الأخيرة التي صوبت في وجه الرجل، حتى شوهت تاريخه السياسي، الذي طالما ثار الجدل حوله.

بنكيران السياسي الذي حاول في كل مواقفه السابقة مراعاة موازين القوى داخل حزبه وخارجه، لاسيما السلطة، أخفق عندما لم يراعها هذه المرة، فظن أن العدالة والتنمية سفينة نوح، التي ستمكنه من الاستمرار في حشد شعبية جماهيرية، إلا أن صدمتي إعفاء الملك وإزاحته من منصب الأمين العام وطريقتهما مكنت المتربصين به من القول بأن نهايته طبيعية نتيجة تاريخه الملتوي.


مستقبل قاتم ينتظر العدالة والتنمية

إن الأزمة التي يتعرض لها الحزب حاليا تشير بقرب نهاية فاعليته في أغلب الأحوال وتحوله لحزب صغير، وربما تفككه إلى حزبين في حالة عدم تمكن الأمين العام الجديد من ضبط الأمور، لذا هناك سيناريوهان اثنان غالبا:

الأول: هو قدرة الأمين العام الجديد على إحلال محل بنكيران، وإعادة تماسك الجبهة الداخلية، وتقديم نقد ذاتي للحزب، وربما اعتذار للمواطنين على ما بدر منهم من نشر للغسيل الداخلي أمام مرأى ومسمع الجميع، رغم ادعاء الحزب التزامه بالمرجعية الإسلامية.

الثاني: هو تمزق الحزب، نتيجة تعلق قاعدة كبيرة منه ببنكيران، وشعوره بأن تيار الوزراء لا يفكرون بغير مصالحهم الشخصية، وهذا السيناريو سيؤدي إلى تصدع الحزب، وفقدانه قوته السياسية، وربما تلاشيه من الساحة السياسية، إذ سيسهل على الملك أمر حله.

ختاما، يتسم النظام السياسي المغربي بأنه نظام ملكي دستوري، يتغنى دوما بالخطوات البعيدة التي اتخذها نحو الديمقراطية، والتي انتهت بحصول البرلمان على شرعية تشكيل الحكومة، التي يختار الملك رئيسها، إلا أن نتائج الأزمة المشتعلة حاليا ستلقي بظلالها حتما على التحول الديمقراطي في المغرب، إذ ستمسح بعودة الاستبداد القائم بالفعل، ولكن بصورة أشد وطأة.

أما خارجيا، فعلى الإسلاميين استكمال مسلسل هزائم الحركة الاسلامية في العالم العربي، وتمكن الثورة المضادة، من تحقيق مزيد من الانتصارات. وهو الأمر الذي لابد أن يصحبه مراجعات شاملة حول أسباب تلك الانتكاسات التي منيت بها تجارب الإسلام السياسي، مذ وصلت إلى السلطة، وربما إعادة تشكيل تصوراتها ورؤاها حول العملية السياسية، وجدوى المشاركة في العمل الحزبي، وهي كلها عوامل تشير بدرجة أو أخرى، إلى صعوبة المستقبل الذي ينتظر الإسلام السياسي، وطبيعة الأنظمة العربية الحاكمة، الآخذة في التشكل، في ظل عصر الحرب العالمية على الإرهاب.