بالنسبة للإنسان المصاب بالاكتئاب تبدو الحياة كابوسًا ثقيلًا لا فكاك منه، حلم أسود مزعج ومرهق كجبل لا يمكن الاستيقاظ منه. تفقد الأشياء معانيها، حتى تلك التي كانت بالنسبة للإنسان مفعمة بالبهجة والحياة والفرح تصبح ممارسات آلية يمر من خلالها لأنه يجب أن يمر من خلالها وحسب.

هذا الإنسان المسكين يرغب في كل لحظة أن يستيقظ، أن يمر كل هذا وحسب، أو أن ترجع الأشياء إلى معانيها الأولى الطبيعية قبل أن يصاب بما أصابه، لكن دون جدوى، يستمر الكابوس بلا نهاية.

نجح المخرج اليوناني «يورجوس لانثيموس» في خلق حالة كابوسية بجدارة في فيلمه الأخير «مقتل غزال مقدس The Killing of Sacred Deer»، وكعادته أنشأ عالمًا من خياله لا يشبه العالم الطبيعي، ووضع له مجموعة من القواعد لا توجد في العالم كما نعرفه، بالضبط كما فعل في فيلم «السلطعون The Lobster» قبل عامين، في 2015، حيث يلجأ البشر العازبون إلى منتجع بغرض الحصول على رفيق/ رفيقة، وإذا لم ينجحوا في ذلك فإنهم في النهاية يتحولون إلى حيوانات تهيم في الغابة المحيطة بالمنتجع وتكون عرضة للقتل أو الالتهام بين أنياب الحيوانات الأخرى.

هذا العالم الذي يبدو خاليًا إلا من جراح قلب «ستيفن» أو «كولين فاريل» وزوجته طبيبة العيون «آنا» أو «نيكول كيدمان» وابنهما الصغير «بوب» وابنتهما المراهقة «كيم» وعدة شخوص آخرين قلائل يبدو كساحة لتجربة علمية مستقبلية غامضة، يبدو فيها أبطال العمل كروبوتات أكثر منهم كبشر، يتحدثون بطريقة آلية خالية من العواطف والمشاعر، كائنات وظيفية استخدمها لانثيموس في إجراء تجربة تسلط الضوء على العلاقة المعقدة والجدلية بين عالم الميتافيزيقا وعالم العقل بمعناه الحاسوبي والرياضي والمنطقي، أكثر من معناه الإنساني.

تمضي الحياة الروبوتية في بداية الفيلم بشكل منطقي، ستيفن يحظى بوظيفة مرموقة في مستشفى كبير، آنا تخطط لتجديد وتطوير عيادتها، الابن يسعى لأن يصير طبيبًا، والابنة يتطور أداؤها داخل فريق الغناء الجماعي، والجميع يعيشون في بيت كبير يليق بأسرة برجوازية تحيا الحلم الأمريكي الاستهلاكي كما يجب أن يكون. كل الأشياء لها معنى واضح وصريح، حيث واحد زائد واحد يساوي اثنين دون زيادة أو نقصان.

تنقلب الحياة رأسًا على عقب عندما يموت مريض بعد جراحة على يد ستيفن بعد أن فعل كل ما بوسعه، حيث موت المريض حتمي ومنطقي أيضًا، هنا يظهر ابن المتوفى «مارتن» ويتقرب من «ستيفن»، تنشأ بينهما علاقة سريعة تبدو كصداقة، حيث يخرجان سويًا ويتبادلان الهدايا، ويتعرف مارتن على باقي أفراد أسرة ستيفن وأيضًا يحمل للابنين بعض الهدايا – أيضًا في شكل روبوتي رتيب -، قبل أن تضرب الميتافيزيقا ضربتها القاتلة، يخبر مارتن صديقه بلهجة من يقرر شيئًا ودون أن يحمل أدنى قدر من التهديد، أنه مسئول عن قتل أبيه، وأن عليه تكفيرًا لذنبه أن يقتل أحد أفراد أسرته، الأم أو الطفلين، للتكفير عن ذنبه وإلا فإن الجميع سيصابون بالشلل، وستدمع أعينهم دما، وسيموتون في النهاية، عليه أن يقرر بسرعة لأن الوقت ليس في صالحه.

هذا موقف غريب جدًا يبدو بين مواقف أخرى شديدة الغرابة –الحياة الروبوتية التي تناقض حياتنا الإنسانية التي نعرفها-، شيء «فوضوي» لا معنى له ويمكن لستيفن أن يصرف احتمالية «وجوده الشاذ» من انتباهه الذي ضربه التوتر بمنتهى البساطة، لأنه إما أنه لا معنى له، أو أن له تفسيرًا منطقيًا فقط عليه أن يبذل بعض الوقت والمجهود ليحلله ليجد له سببًا ذا معنى.

تبدأ نبوءة مارتن في التحقق ويسقط الابن ثم الابنة أسرى لحالة الشلل الموعودة، يتحول مارتن في ذهن ستيفن إلى قوى خارقة، إله شرير قادر على القيام بالمعجزات الشريرة، وخصوصًا إثر استطاعته أن يأمر الابنة أن تقوم من شللها فستطيع القيام بالفعل للحظات، لا يهم هنا كيف استطاع مارتن القيام بذلك، ولا يعطينا تفسيرًا ويترك لكل منا التفكير في الأمر بطريقته، المهم بالنسبة للانثيموس هو كيفية تعامل الأشكال الوظيفية شبه البدائية من البشر مع هذه المعضلة.

يصارح ستيفن زوجته بعلاقته مع الصبي مارتن وعن والده الذي توفي على طاولة جراحته، وعن محاولته للتقريب بينه وبين أمه الأرملة، التي كانت ترغب في علاقة عاطفية معه، صدها ستيفن بحسم لأنه رجل متزوج. وبدلًا من أن يبدأ الزوجان ستيفن وآنا في التفكير في حل منطقي للأزمة، تدب فيهما المشاعر الأولية من الخوف والذعر التي نشأت مع الشكل الإنساني البدائي من أجل الحفاظ على باقي النوع البشري، لنفعل أي شيء يمكن أن نفعله من أجل الحفاظ على حياة ما يمكن الحفاظ عليه من أبناء القبيلة / الأسرة، حتى ولو على حساب التضحية بواحد من تلك القبيلة، دعنا نستسلم للأمر الغامض المفارق وليكن ما يكون.

في الميثولوجيا، قام أحد البشر بقتل غزالة مقدسة، فعاقبته الآلهة بجزاء قاسٍ، بأن يقوم بقتل فرد عزيز من أفراد أسرته في المقابل. في فيلم لانثيموس لا وجود لآلهة في المدينة الروبوتية التي أنشأها، فقط زرعت تصرفات «مارتن» الغامضة الفكرة في ذهن ستيفن وزوجته، تم ميلاد الإله هنا وفي تلك اللحظة، وظهرت فورًا الشعائر الغرائزية المستسلمة لما لا نعرف، فنجد الأم تقبل قدمي مارتن من أجل سلامة ولديها، ونجد مفهوم القربان يظهر، ونجد الفوضى العشوائية تضرب البناء المنطقي المحكم، حتى في وسط المدينة العصرية الحداثية نجد شيئًا أقرب لتصرف الإنسان البدائي أمام ظواهر جبارة مثل الرعد والبرق، التي لم يفهمها فأرجعها لإلهة خارقة لا يراها، أنشأ من أجلها الأوثان، وأخذ في عبادتها استرضاءً لها حينا وتجنبًا لشرها حينًا آخر.

مرحلة مرحلة، وخطوة خطوة، يتطور أداء الأسرة الروبوتية ليصبح أكثر إنسانية بدافع الاستجابة للميتافيزيقا التي ظهرت في حياتهم، وهو ما يدفع للتساؤل: هل استسلام الإنسان لما لا يعرف دون أن يكلف نفسه عناء التساؤل، هل يدفعه ذلك للتطور إيجابًا على سلم التطور الطبيعي أم العكس؟ هل يحافظ ذلك على الرباط الأسري/القبلي/الاجتماعي أم العكس؟ هل يحفظ ذلك للإنسان نوعه أم العكس؟ هل الميتافيزيقا ضرورة حتمية لا مفر منها أم العكس؟

بموسيقى غرائبية موترة، وبلوحات بصرية عظيمة تملأ كل كادر في العمل، يبحر بنا لانثيموس في موجات مضطربة من الأسئلة دون جواب، في عمل يبدو كحوار عنيف داخل نفس إنسانية مكتئبة ومثقلة بهموم غياب الإجابات يسيطر عليها عالم مليء بالغموض والظواهر التي لا طاقة له بالإجابة على النذر اليسير منها إجابات شافية، يبدو العمل ككابوس يدور فقط في خلد ستيفن وأن لا شيء حقيقي فيما يحدث حوله، وأنه هو البطل الوحيد لكل الأحداث دون آخرين يشغلون نفس الحيز الذي يشغله.

تبدو هذه الفكرة جلية للغاية في واحد من بوسترات الفيلم، حيث ستيفن يقف في غرفة المستشفى التي كانت تستضيف ولديه، ويبدو أعلى البوستر ممطوطًا عن عمد، في إشارة إلى تشوه ما Anomaly يدور في الأجواء، فيما ستيفن يحدق في سريرين فارغين، حيث المفترض أن يرقد الابن والابنة.

في النهاية كيف نعرف ما إذا كان ما حولنا حقيقيًا أو لا، أو أننا نموج داخل عالم من الأفكار الكئيبة فقط وقد نستيقظ يومًا على لا شيء، فنجد أننا في ظلمات بعدها ظلمات وحسب. ككود حاسوبي من أكواد الذكاء الاصطناعي موجود على شريحة كمبيوتر قدر له أن يظن نفسه ذا وعي خاص بنفسه، لكن الحقيقة أن لا وعي له إطلاقًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.