صعد إلى المنصة في خُطوات منتظمة ثابتة كعادته، فهو يحفظ سُلمات هذا المسرح جيداً، أو قُل هي تحفظه بالمعنيين: تتذكره وتُبقيه آمناً.

الجميع يترقب ويلتقط أنفاسه حتى تحس أن صوت صعود صدورهم ونزولها معزوفة بيتهوفنية تجمع بين الخوف والشوق والإثارة. التصفيق حار هذه المرة؛ وكيف لا يكون فالرجل قد أعلن أنه سوف يُقدم العرض الأخطر والأخير.

الأمر مُختلفٌ بعض الشيء، هل ابتعدت درجات السُلم عن بعضها البعض؟ هل ابتعدت المنصة؟ هُناك شيءٌ ما يجذبه للخارج، لأنْ يبتعد، هل قد يُصاب رمز الشجاعة وأيقونتها بلعنة الخوف؟ بالتأكيد لا. وها هو يُسرع من خطواته ليظهر كالأسد واقفاً فتنطفئ كل كشافات الإنارة إلَّا تلك التي تُظهِر الدائرة التي يقف فيها ومن أمامه الميكروفون:

أيها الحضور، قد أنفقتم أموالكم وأوقاتكم لتروا لا لتسمعوا – أنا أعلم هذا جيداً – ولكـن دعونا نجعل كُل شيء مختلفاً في المرة الأخيرة.

قالها ثم استدار كعادته عندما يُنهي أياً من عروضه، ولكن، لا تصفيق، لا هُتاف، لا شيء، فقط السكون الحَذِر الذي تقطعه عيون مُستثارة لامعة في ظلام المقاعد المُدرجة.

اقترب صاحبنا من جديد ليُمسك بالميكروفون طالباً – بإشارات أصابعه – من كشافات الإنارة أن تُضيء جميعاً إلَّا تلك التي على خشبات المسرح ليتبدل الأمر فتضيء الجماهير وينطفئ الساحر:

ألم أقُل لكم، بأن المرة الأخيرة سيكون كل شيء مُختلفاً، لكنها الحقيقة. لطالما خدعتم أنفسكم بأن العرض يحدث هنا، ولكنه دائماً كان بينكم، بين ضلوعكم وداخل رؤوسكم، أنتم من تصنعون النور، أنتم أحق بكشافات الإضاءة.

– فمـن ناحيةٍ، أنا لا أفعل أي شيء، الجمهور يفعل كُل شيء، يُجبرني على اختيار العروض الذي يحبها هو، وإلَّا حرمني من زاده المتصل وتصفيقه الحار وسلبني إعجابه الذي أدمنت.

– أنا لا شيء، وأنتم كُل شيء.

– وفي النهاية، هو يحتاج إلى أن يرى فعلاً خارقاً، وإلا شعر بأن أمواله ذهبت دون فائدة، فيرى كل ما أفعله خارقاً حتى لو لوَّحت بيدي يميناً ويساراً.

بدأت الهمهمات تتعالى، وسكون الجمهور يتلاشى شيئاً فشيئاً، هل هذا هو العرض الأخطر؟ هل هذا هو العرض الأخير؟ وقبل أن ينقطع حبل النظام وتحل العشوائية، عاد إليهم من جديد:

انظروا إلى أنفسكم، حدِّقوا بمكنوناتكم وإمكاناتكم، أنتم أقدر مني ومن كل شخص على إنجاح كل هذه العروض أو إفسادها بلا رجعة، أنتم محركو كل شيء، أنتم من تمسكون الخيوط وكلنا نرقص كالعرائس، الفنانون والكُتَّاب والساسة وكل من تجعلونهم مشاهير. كلنا نرقص لكم، بألسنتنا تارة وبأجسامنا تارة، نرقص مرتدين القُبعات أو الأوشحة أو حتى الحُلل الرسمية، أنتم من صنعتمونا لنعبدكم، نحن الفرادى وأنتم التجمع العشوائي، صنعتمونا لنُبدل بإرادتنا إرادتكم، أنتم السادة ونحن العبيد، فلا تدعوا عبيدكم يخدعوكم يا سادة.

قالها، ثم عاد كُل شيء إلى نِصابه الطبيعي؛ كشافات الإنارة والمعزوفات الموسيقية السريعة المُثيرة، والساحر الشجاع مُرتدياً وشاحه الأسود. يبدو أن العرض سيبدأ أخيراً. ثم يظهر تابوت بُني كبير في نصف المسرح مملوءاً حتى حافته بالماء. الناس تعرف هذا العرض جيداً، عرض «التابوت الغارق»، العرض الأخطر والأكثر إثارة.

وها قد تطوع بعض الجمهور ليقفوا على الصندوق الذي صُنع خصيصاً ليُناسب طول ساحرنا الشجاع، أحكموا إغلاقه، ووقفوا على أطرافه، ليبدأ الجمهور بالعد مع الساعة الرقمية التي ظهرت على شاشة المسرح. تُرى أي رقمٍ قياسي سيُسجل هذه المرة؟

يهتف الجمهور بصوتٍ عالٍ متناسق: خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد، ثم صفق الجمهور تصفيقاً حاراً. قد كسر صاحبنا حاجز الخمس الدقائق! وما زال العد مستمراً.

تُرى ماذا يفعل؟ كيف استطاع أن يصمُد كل هذا الوقت؟

الهتاف يرتفع والتصفيق يزداد حرارة ويهز جنبات المسرح، الوقت يمر والرجل صامد، والجمهور يهتف، والمتطوعون منتظرون. عشر دقائق وما زال الأمر كما هو. الوضع أصبح غريباً، وبدأت حماسة الجمهور تتبدل بنظرات التعجب والترقب.

لم يخرج صاحبنا من التابوت أبداً، تاركاً رسالة صوتية لجمهوره:

أنتم السادة، ونحن عبيدكم، لكني للمرةِ الأولى سأتحرر من عبوديتكم الحمقاء وعطاياكم الدنيئة، هذه المرة فقط اخترت ما أُريده أنا، وللمرةِ الأولى أتعافى من مُخدر صوت تصفيكم ونظرات إعجابكم، والسلام.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.