في البداية أعتقد أن شريحة كبيرة ستوافقني على عنوان المقال، وهذا ليس تكهُّنًا أو دَرْبَا من السحر والشعبذة، ولكن بناءً على العديد من الإحصائيات والدراسات التي أجريت من قبل المختصين، ليس في وطننا العربي وفقط، ولكن على مستوى شمل غالب دول العالم.

ويتضح ذلك بنظرة سريعة على بعض الإحصائيات، فقد بلغت نسبة حالات الطلاق من إجمالي عدد الزيجات في بلجيكا 71%، والبرتغال 68%، والمجر 67%، والولايات المتحدة الأمريكية 53%، وفي مصر 40%، والأردن 37.2%، وقطر 37%، ولبنان 34%، والسودان 30%، وفي السعودية 21%.

لذلك لا نستطيع إنكار حقيقة مأساة الزواج، والمعاناة التي تتكبدها أطراف كثيرة، أهم هذه الأطراف هم الأبناء في حالة الاستمرار والإصرار على تنفيذ باقي أركان هذه الجريمة بإنجاب الأبناء.

ومع هذا ينبغي أن نعترف بأن هناك زواجا سعيدا واقعا، وليس دربا من الخيال، والفرق الوحيد بين مأساة الزواج والزواج السعيد هو نوعية الاختيار، وهذا هو ما سنوضحه من وجهة نظرنا في هذا المقال.


حقيقة الزواج السعيد

ينبغي أولا أن نوضح أمرا مهما، وهو أن «الزواج لا يحقق السعادة»، ربما تكون هذه العبارة صادمة، ولكنها حقيقة يكتشفها غالب المتزوجين، ويرجع ذلك إلى أن كلا من الطرفين ينتظر أن يُمنح السعادة من الطرف الآخر، وإن حدث ومَنح أحد الطرفين أو كلاهما السعادة للآخر، فسيأتي وقت قريب وتنتهي هذه السعادة، أو إن شئت قُل «تُستهلك» أو «تفتر».

وهذه الإشكالية إنما تأتي من أن السعادة الحقيقية تأتي من الداخل أولا، فحينما يكون الشخص في حالة من التقبل والتصالح مع النفس والثقة والشعور بالاستحقاق، تنشأ عنده حالة من السلام الداخلي ويرافقها شعور بالسعادة.

وأعتقد أنه حين يصل الشخص وشريكه إلى هذه الحالة، يمكن ألاَّ يُثقلا كاهل بعضهما البعض في سد الاحتياج الدائم من العجر والعوز والحاجة المرضية إلى السعادة الخارجية، وحينها تصبح أي سعادة تأتيهم من الخارج هي بمثابة لذة إضافية تضيف إلى سعادتهم الداخلية، وحينها مع بعض الاعتبارات الأخرى يكون «الزواج السعيد»، فليس ثمة زواج يحقق السعادة بل هناك أشخاص قادرون على إسعاد أنفسهم.


كيف نُحسن الاختيار لتحقيق «الزواج السعيد»؟!

عزيزي القارئ ربما تكون توقفت قليلا في نهاية الفقرة السابقة حين ذكرنا أن هناك بعض «الاعتبارات الأخرى» ينبغي أن تتوافر كي يصبح الزواج سعيدا، وهي ثلاثة اعتبارات مهمة نذكرها فيما يلي.

أولا النضج: وينقسم إلى النضج الجسدي، والعقلي، والنفسي.

والنضج الجسدي أو الجنسي هو المرحلة التي يصل فيها الفرد إلى أن يكون قادرا جسمانيا على الإنجاب والتكاثر، بحيث يطرأ عليه تغيرات في الهرمونات تؤدي إلى تغيرات جسمانية تشير إلى الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ.

أما النضج العقلي فهو النمو الكافي في الوظائف والقدرات العقلية التي تُمكن الفرد من التفكير وامتلاك شخصية مستقلة غير تابعة، تستطيع أن تتفاعل مع المجتمع بصورة طبيعية.

نأتي إلى النضج النفسي، وهنا أود أن أنقل رأي عالم النفس أوتورانك OTTO RANK، فهو يرى أن الإنسان حين يولد يتوحد نفسيا مع الأم، فهي كل شيء في الحياة بالنسبة له، ثم يكتشف بعد ذلك أنها لا تكفي كل احتياجاته، فيتجه نحو الأسرة ككل فيتوحد معها.

ثم يكتشف بعد فترة (أثناء المراهقة تقريبا) أن الأسرة ليست كل شيء فيستقل عنها نسبيا ليتوحد مع مجتمعه المحلي، ثم يكتشف أن هناك عالما آخر من البشر خارج نطاق مجتمعه المحلي فيتوحد مع الإنسانية كلها، وفي مراحل تالية في النضج النفسي يكتشف أن الكون أرحب بكثير من الأرض وما عليها من البشر، فيستقل نسبيا عن الناس ليتوحد مع الخلود ومع العالم اللانهائي، وتلك أعلى درجات النضج النفسي عند أوتورانك..

ويقول د. محمد المهدي في كتابه (مستويات النفس): أما في حالة عدم النضح فإن النشاط النفسي ينحصر في المستوى الأدنى فقط (الجسدي فقط أو الجسدي والعقلي دون النفسي)، ويتثبت هذا النشاط في تلك المستويات، بمعنى أن تصبح حركته أقل مرونة، وبالتالي يعيش هذا الإنسان غير تام النضوج وجودا محدودا، ويغرق في تفاصيل احتياجاته الجسدية والعقلية، ويقضي حياته مدافعا عن ملذاته وممتلكاته ولا يتسع وعيه للمستويات الأعلى من الوجود.

آثـرت الذكر التفصيلي والأكاديمي إلى حد ما لاعتبار النضج، وخاصة النضج النفسي، وذلك لما أعتقده من أهمية بالغة، ستتضح فيما يلي.

كيف نختار الشريك الناضج؟!

وأعتقد هنا أن الخطوة التي ينبغي أن تسبق اختيار الشريك الناضج هي إدراك وتحديد مدى نضجنا نحن أولاً جسديا وعقليا ونفسيا، وإلى أي مرحلة نظن أو نعتقد أننا وصلنا إليها، والخطوة التي تلي ذلك هي اختيار الشريك الأقرب لمستوى النضج بالزيادة أو النقصان المعقول.

ولكن هنا تأتي إشكالية كبيرة تواجه القاعدة العريضة من الوطن العربي والدول النامية والأفراد الأقل وعيا في الدول المتقدمة نفسيا، وهي إشكالية الزواج بمجرد الوصول إلى النضج الجسدي وفقط دون وضع اعتبار للنضج العقلي ودون الوصول إلى أي درجة من درجات النضج النفسي، ومن هنا يأتي كابوس وجريمة الزواج الفاشل، وخاصة الزواج الذي اعتمد على النضج الجسدي وفقط.

وفي اعتقادي أنها علاقة عبودية عاهرة وآثمة، وهي أسوأ أنواع الزواج، فلا يتم فيها الاختيار سوى عن طريق المواصفات الجسمانية للفردين، ويرافق هذا الاختيار غالبا تفضيلات المستوى المادي والاجتماعي وأشياء أخرى ترتبط بالأعراف والعادات التي لا تمت بأي صلة للوصول إلى «الزواج السعيد» فالتوافق الجسدي وفقط دال على علاقة جنسية وليس أكثر.

إنما السعادة الزوجية الحقيقية هي الوحدة الكاملة بين الجسد والعقل والروح أو النفس، ولكن للأسف تسود ثقافة «السندريلا والأمير» الأمير الذي يبحث عن فتاة جميلة، والفتاة التي تبحث عن ثراء ينقذها من الفقر والحاجة أو من شبح تأخر الزواج. وأعتقد أن في هذا النوع من الزواج ظلما بينا على المرأة غير الناضجة غالبا عقليا أو نفسيا، ووضعها في مأزق العبودية المقنعة لدى رجل غير ناضج، غالبا لا يرى فيها سوى سلعة له حق الاستمتاع بها.

«المعين النظير» لـ «تسكنوا إليها»

وهذا هو الاعتبار الثاني الذي يأتي بعد النضج، يقول الكتاب المقدس في سفر التكوين (2– 18) وقال الرب الإله: «لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ»، يقول الخالق هنا بأن الإنسان كائن اجتماعي لا تناسبه الوحدة، ولكن كيف يكون الشريك المناسب له؟! يقول في ذلك مُحددا «مُعِينًا» والمعين هو الشخص المُكمل الذي يدفع الترس للأمام، وهو الداعم بما ليس موجود.

ويأتي ذلك من اختلاف الثقافات والخبرات والتجارب التي تُسهم في تحديد درجة النضج العقلي والنفسي، ثم يقول «نَظِيرَهُ»، وهو ما يعني في اعتقادي الشخص القريب من درجة النضج والإدراك.

ويتضح هذا جليا في القرآن الكريم سورة الروم (21): «وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا»، حيث أوضح الخالق أيضا أن من دلائل عظمته «وَمِنْ آَيَاتِهِ» البينة خلق الشريك، ومن شروط خلقه أن يكون من «أَنْفُسِكُمْ» وهذا المعنى عميق جدا، ويتضح من «نَظِيرَهُ»، وتتجلى الرؤية أكثر حين يقول «لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا» ونِعم السكن هو «مُعِينًا» مكملا يحتوي الآخر ويتوافق معه ليكونا كما قيل في إنجيل مرقس (10-8): «وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ».

وهنا نذكر بيتا من الشعر الصوفي للحلاج يقول فيه «روحه روحي وروحي روحه.. إن يشا شئتُ وإن شئتُ يشـا»، ومن هنا لنختار الشخص المعين النظير كي نسكن إليه ينبغي أن نؤكد نقطة أثرناها في الاعتبار الأول، وهي أن نعرف وندرك أنفسنا أولا لنتمكن من تحديد الشريك المُكمل والقريب من درجة النضج.

هل العاطفة التي تسبق الاقتناع أصدق أم العاطفة التي تلي الاقتناع؟!

نأتي إلى الاعتبار الثالث والأخير وهو الحب أو المشاعر، وهنا نضرب مثالين، الأول: بالنظرة الأولى إلى غابة ممتلئة بالأشجار المُزهرة ترفرف عليها الفراشات والطيور البرية الملونة، وتتخللها البحيرات والأنهار في مشهد خلاب مُبهج يوحي بالهدوء والسكينة وراحة البال والطمأنينة.. هذا المكان رائع حقا للاستجمام.

ولكن لحظة.. في رأيي أن غالب الحب الذي يأتي من النظرة الأولى أو الحكم على صلاحية أحدهم للارتباط عن طريق القبول بالمشاعر وفقط، يشبه كثيرا هذه الغابة التي أصابت ناظريها بفتنة العشق من النظرة الأولى، وتوهموا منها السكينة وراحة البال.

بيد أن الناظر بإحكام العقل سيرى أن احتمالية وجود الأفاعي والثعابين والحشرات السامة والقاتلة لا تنتفي وقائمة بشدة، كما أن البحيرات والأنهار ربما تحتوي أيضا على تماسيح مفترسة، وغيرها من الأخطار التي ترافق الغابات، لذا من الضلال في اعتقادي الحكم على ظاهر الأشياء دون الولوج إلى المعنى.

المثال الثاني مُتداول إلى حد ما وهو عن الثمرة غير المكتملة النضج الداخلي، لكن مظهرها الخارجي يوحي بغير ذلك فتظهر في صورة النضوج الكامل، كثمرة المانجو أو الجوافة أو البطيخ مثلا.. يشتهيها الناظر وتتملكه رغبة في تناولها.

ولكن حين يتملكها ويبدأ في تناولها يكتشف أنها ثمرة مُرة المذاق، غير مكتملة النضج والتكوين.. ربما لو انتظر قليلا ولم يتعجل الحصاد لأصاب أشهى الثمار بعد اكتمال نضجها، وهكذا بعض الناس يكون مظهرهم أو اكتمالهم الجسدي مُبهر فاتن وجذاب، ولكن طبعهم العقلي والروحي مُر المذاق غير مكتمل النضج صعب المراس.

أتذكر قول الشَّعْبِيِّ «إِنَّمَا سُمِّيَ الْهَوَى لأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ»، ويقال إن الهوى هو الحيد عن العقل، وأعتقد في هذه المسألة أن الهوى نوعان.

الأول وهو الذي يسبق الاقتناع بالعقل، كمن يرتبط بامرأة لأنها جميلة، أو رجل لأنه وسيم أو صاحب سلطان، فلا يُدرى عن عمقهم شيئا، أممتلئ بالأفاعي والتماسيح أو مُر المذاق، أم حلو وغابته لا يسكنها سوى حملان وديعة، والأهم فلا يدري أيضا أهو إن كان بكل ما يحتويه من جمال داخلي وخارجي، هل هو مناسب ويصلح «مُعِينًا نَظِيرَهُ» لـ «لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا» أم لا.

والنوع الثاني من الهوى هو الذي يلي أو يرافق الاقتناع بالعقل، وهو الأقوى والأمتن لأنه قائم على دعائم من التوافق في العقل والروح والجسد، وأختم هذه الفقرة وأقول إن من يفقد الروح يبحث عن الجسد، ومن يفقد المعنى يهتم بظاهر الأشياء.

أن تعيش عزبا أفضل من أن تعيش متزوجا تعيسا!

مما سبق يتضح كيفية الاختيار السليم نسبيا لتحقيق «الزواج السعيد»، وفي اعتقادي أن الزواج التعيس يكون كذلك بسبب التهاون في الاختيار والاستسلام للهوى والعاطفة التي تسبق الاقتناع بالعقل، وتتناسب درجة النضج طرديا مع درجة السعادة، بمعنى كلما زادت درجة النضج عند الشريكين، زادت درجة السعادة والتفاهم بينهما.

النقطة الأخيرة في هذا المقال هي «وهم تغيير الآخر ليناسبني»، نحن ربما نؤثر في الآخرين، ولكن لا نستطيع تغييرهم أبدا، ما لم يكن هذا الإنسان يمتلك الوعي والإدراك والرغبة الكافية والإرادة في التغيير.

فيقول بولس الرسول مخاطبا الإنسان الفرد والجماعة: «تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ»، ويقول القرآن الكريم: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»، وتروي الكثير من القصص التراثية عن الأنبياء وأصحاب الرسالات الذين لم يتمكنوا من تغيير أبنائهم أو أزواجهم أو مجتمعاتهم، نعم.. يؤثرون فيهم، لكن لا يغيرونهم ولن يتسطيعوا ما لم يغيروا هم أنفسهم بأنفسهم.

لذا عزيزي القارئ لا تنخدع بوهم القلب في إمكانية تغيير أحدهم، ويكون هذا الوهم دافعك القوي والهش أيضا للارتباط به.. وفي الختام عزيزي القارئ الخيارات أمامك مُتاحة، فاختر لنفسك ما تشاء، فليس للإنسان إلا حصاد ما زرع.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.