بعدما التقى خليل الوزير بياسر عرفات، وتم عقد الاجتماع التأسيسي في الكويت وإطلاق «حركة التحرير الفلسطيني»، أصبح الوزير الرجل الثاني والذراع العسكرية اليمنى لعرفات القائد العام للثورة الفلسطينية.


رجل المهمات الصعبة

اختار الوزير أن يُؤصل لانطلاقة «حركة التحرير الفلسطيني» بالدم والنار فراح يُجهز مُخططاته لتنفيذ أول عملية عسكرية تُفجر انطلاقة الثورة عبر نسف خط أنابيب المياه المعروف بـ«نفق عيلبون» في جنح ليل 31 ديسمبر/كانون الأول 1964، وعلى إثرها أُعلن اليوم التالي الفاتح من يناير/كانون الثاني 1965 تاريخ انطلاق الكفاح المُسلح للثورة الفلسطينية، ومن ثمَّ انتقل إلى دمشق ومنها عمل على توطيد العلاقات مع الخلايا الفدائية داخل فلسطين.

وفي عام 1967 بدأ يُوجه عملياته العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجليل الأعلى شمال فلسطين المحتلة عام 1948، واستكمل نشاطه الفدائي خلال معركة الكرامة بالأردن في عام 1968، وهو ما جعله يحظى بتأييد من حوله وبات نائبًا للقائد العام للثورة الفلسطينية، وحاز على عضوية اللجنة المركزية لحركة فتح خلال عامي 1970-1971.

لكنّه لم يلبث أن خرج إلى لبنان واستمر في شق طريقه مع القائد «سعد صايل» في إعادة بناء وتدريب الفدائيين الفلسطينيين للقيام بعمليات نوعية تهز الكيان المُحتل وتزعزع أمنه في الأراضي المحتلة.

حيث تولى بعد اغتيال رفيق دربه «كمال عدوان» في بيروت عام 1973 القطاع الغربي وعمل على متابعة الفدائيين هناك تعليمًا وتنظيمًا وتعبئًة وتسليحًا وأضحى المسئول الأول عن تنفيذ العمليات العسكرية ضد الاحتلال، وهو ما جعله قائد الثورة وصاحب لقب «أول الرصاص» في نظر الكثير من الفلسطينيين من جهة، و«المسئول عن العمل الإرهابي» في نظر الإسرائيليين من جهة أخرى مما دعاها إلى اغتياله بطرق كثيرة لم تنجح إلا واحدًة منها في تونس عام 1988.

للإطلاع على الحلقة الأولى:في ذكرى استشهاده: كيف قاد «خليل الوزير» الثورة الفلسطينية؟

وتُشير القراءات المختلفة في تاريخ الرجل النضالي إلى أنه نجح في التخطيط لأكثر العمليات الفدائية التي هزت عرش إسرائيل كان أولها عملية نفق عيلبون، ثم عملية فندق «سافوي» في تل أبيب التي أوقعت 10 قتلى إسرائيليين عام 1975.

تلاها في ذات العام عملية الشاحنة المُفخخة في القدس، بالإضافة إلى عملية قتل كبير خبراء المتفجرات الإسرائيلي «ألبرت ليفي» ومساعده في نابلس عام 1976 وألحقها بالتخطيط الدقيق للعملية التي نفذتها دلال المغربي عام 1978 والتي أوقعت فيها أكثر من 37 قتيلًا إسرائيليًا.

وبعدها مع نهاية السبعينيات عمل إلى تطوير سلاح المُقاومة المُسلحة وأدخل إلى الفدائيين صواريخ الكاتيوشا التي وصلت إلى ميناء تل أبيب في عام 1979، وخلال العام 1981 استُخدمت لقصف المستوطنات الشمالية.

لكن تبقى العملية الأكثر إيلاماً للاحتلال الإسرائيلي في عهد خليل الوزير إيقاع 8 جنود صهاينة في قبضة المقاومة الشعبية وإجبار إسرائيل على مبادلتهم بـ5 آلاف معتقل لبناني وفلسطيني و100 من معتقلي الأرض المحتلة عام 1982، بالإضافة إلى اقتحام وتفجير مقر الحاكم العسكري في مدينة صور وقتل أكثر من 76 ضابطا وجنديا من بينهم ضباط يحملون رتبا رفيعة، وكذلك عملية مُفاعل ديمونا عام 1988 والتي كانت السبب الرئيسي لاغتياله.


الخروج من لبنان: الخطوة الأولى لإقصاء الوزير

نجحت إسرائيل بعد اجتياحها لبنان عام 1982 في إبعاد خليل الوزير وقوات حركة فتح عن الحدود اللبنانية التي كانت أكثر وأهم الساحات الميدانية للقتال معها، وقد فطن أبو جهاد آنذاك إلى أن الهدف من الحرب إبعاد الثورة عن حدود فلسطين.

وبالفعل استقرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، بينما هو حبذ الاستقرار مُجددًا في الأردن باعتبارها ساحة تماس مع فلسطين. وبالفعل من خلال وجوده هناك استطاع أن يُحضر الشعب الفلسطيني للانتفاضة وكان من أهم قياداتها في العام 1987، وبعد أشهر قليلة من الانتفاضة هاجم فدائيون من حركة فتح حافلة إسرائيلية كانت متجهة نحو مركز الأبحاث النووي في «ديمونا» فقتل أربعة إسرائيليين إضافة إلى الفدائيين الثلاثة.

بعدها طلبت السلطات الأردنية منه مغادرة الأردن خاصة وأن إسرائيل حمّلتها مسئولية نشاط أبو جهاد من أراضيها في عمان، وبالفعل نفّذ قرار الإبعاد وبقيّ متنقلًا بين بغداد وتونس، لكنه لم يكن يقضي في الأخيرة سوى أيام لا تتجاوز الثلاثة في أحسن الأحوال، والسبب أنها بلد سياحي مفتوح وغير آمن.


خطة محكمة للاغتيال

بدأت إسرائيل تُعد جيدًا لاغتيال الوزير، وانطلقت من تنفيذ عملية اغتيال بحق مساعديه الثلاثة «حمدي سلطان»، و«مروان الكيالي»، و«محمد حسن» في قبرص، وبعدها أرسلت مجموعة عملاء إلى بغداد لكن تم الكشف عنهم واُعتقلوا على يد الأمن العراقي، وكانت هذه العملية خطوة محسوبة من الموساد الإسرائيلي لحمله على مغادرة بغداد المحكومة أمنيًا إلى تونس، التي ما إن وصل إليها حتى تلقى اتصالًا من محمد البصري يُؤكد حصوله على معلومات أمنية حساسة يتوجب عليه الاطلاع عليها.

كانت تلك المعلومات تُشير إلى تخطيط الموساد الإسرائيلي لتنفيذ عملية اغتيال لأحد القيادات البارزة، غير أن أبا جهاد استبعد أن يكون هو، واستمر بقاؤه في تونس والتحضير لاجتماع كوادر القوى الوطنية داخل الأراضي المحتلة الذي سيترأسه في بغداد، لكن في كل يوم كان يحدث ما يُؤخره لعقد الاجتماع المرتقب.

وجاءت ليلة السادس عشر من أبريل/نيسان 1988، وما إن تجاوزت الساعة الثانية عشرة ليلًا بحوالي ثلاثة أرباع الساعة حتى هاجمت القوات الخاصة الإسرائيلية منزل الوزير، بعد أن تسللت عبر البحر إلى العاصمة التونسية واخترقت كل الإجراءات الأمنية في ضاحية سيدي بو سعيد؛ وقد تم الهجوم على دفعتين، وفق مقابلة نشرتها صحيفة يديعوت أحرنوت مع «ناحوم ليف» قائد القوات الخاصة «كوماندوز»، لافتًا إلى أنها ضمت قرابة 26 فردًا منهم «موشي يعالون» رئيس أركان الجيش الإسرائيلي سابقًا.

تفرقت مجموعة الهجوم إلى قسمين؛ الأول ضم ثمانية أفراد بقيادة ليف وتوجهوا على متن سيارات إلى منزل أبو جهاد، واقتربوا منه قرابة 500 متر، حيث رافق ليف جندي متنكر بزي امرأة، وكان يخفي مسدسًا مزودًا بكاتم الصوت في عبلة شوكولاته، أفرغه في أحد الحراس أثناء نومه داخل السيارة، ومن ثمَّ مهّد الطريق للمجموعة الثانية باقتحام المنزل، فقتلت حارسًا ثانيًا بعد أن حاول مواجهتهم وإطلاق النار عليهم، كما أعملت القتل بحق العامل المكلف بالحديقة والذي وجدوه نائمًا في سرداب المنزل.

في هذه الأثناء فطن أبو جهاد لوجود حركة مريبة داخل المنزل، وما إن تناول مسدسه حتى وجد أمامه أفراد القوات الخاصة على مقربة من مكتبه، فبدأ بإطلاق النار، لكن الرد كان أشد وطأة من قبل ليف، الذي عاجله بوابل من رصاص رشاشه أوقعه على الأرض مدرجًا بدمائه، ثم عاد أربعة ملثمين آخرين من القوات الخاصة بفعل ذات الإجرام مفرغين رصاص رشاشاتهم بجسد أبو جهاد ليتأكدوا من موته.

رحل أبو جهاد وظلت أصابع الاتهام مُصوبة تجاه العديد من الأطراف العربية التي سهلت لقوات الموساد الوصول إلى تونس والدخول إلى ضاحية سيدي بو سعيد، التي لا تبعد سوى أمتار عن القصر الرئاسي في تونس، وعُدت منطقة أمنية يسكنها العديد من الشخصيات الدبلوماسية والسفراء.

ويبدو أن التخلص من أبي جهاد كان بغية التخلص من المشروع الوطني الفلسطيني القائم على الثورة والكفاح المُسلح لتحرير الأرض، بعيدًا عن التسويات الدبلوماسية والمفاوضات العبثية التي كان يرى فيها تأخيرًا وتعطيلًا لعملية التحرر الكبرى، ولعل ما يُؤكد هذا الزعم سلسلة المُهادنات التي وقعت فيها منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1988، وبدأت بإعلانها قبول قرار الأمم المتحدة (242) القاضي بنبذ الإرهاب وفتح حوار من قبل الرئيس الأمريكي رونالد ريغان وقتها مع منظمة التحرير الفلسطينية.

ثم تطورت في أبريل/نيسان 1989 بموافقة المجلس المركزي الفلسطيني على تكليف ياسر عرفات برئاسة الدولة الفلسطينية المستقبلية، ثم بدئه في العام 1990 بإجراء اتصالات سرية مع بعض القيادات الإسرائيلية، وصولًا إلى توقيع اتفاق مع إسرائيل في 13 سبتمبر/أيلول 1993 أنهى الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي أشعل جذوتها أبو جهاد، وأقام فلسطيني جديد عُرف بـ«السلطة الوطنية الفلسطينية»، التي اتخذت السلام سبيلًا في الوصول إلى هدف التحرير، ولكنه لم يُكلفها إلا المزيد من الخسائر، حيث التنازل عن الأرض والحدود وحلم العودة.

المراجع
  1. "إسرائيل تنشر تفاصيل اغتيال أبو جهاد"، موقع الجزيرة نت، 1 نوفمبر 2012.
  2. "الشهيد أبو جهاد (خليل الوزير) أمير الشهداء أول الرصاص أول الحجارة"، موقع عباس زكي المفوض العام للعلاقات العربية والصين الشعبية.
  3. أبو علي شاهين، "الشهيد أبو جهاد وبعض البدايات"، 16 أبريل 2010.
  4. سمير قديح، "تفاصيل مثيرة تُنشر لأول مرة عن اغتيال خليل الوزير أبو جهاد"، موقع صحيفة دنيا الوطن، 16 أبريل 2015.
  5. "اغتيال خليل الوزير أبو جهاد"، وثائقي للجزيرة، 10 أبريل 2014.