لا ألعب مباريات كرة قدم، بل أذهب إلى الحرب
روي كين، قائد مانشستر يونايتد السابق.

بتلك الكلمات، عبّر قائد الشياطين السابق عما يعرفه أي متابع لـ«روي» صاحب التاريخ المتسلسل وربما الأشهر بالملاعب الإنجليزية مع العنف البدني والاشتباك مع الخصم، بل امتد هذا العداء ليشمل حتي بعض زملائه ممن يتهاونون بحق الفريق.

لكن السؤال البارز بعنوان المقال لا يتعلق أبدًا بهذا النوع من الحرب الذي قصده «كين» خصوصًا عند مواجهة«باتريك فييرا»، بل يمتد للمعنى الحرفي للحرب العسكرية: طائرات، دبابات، بنادق، عساكر مشاة، وبالطبع خسائر تتخطى مجرد ثلاث نقاط لضحايا بين جيوش دول!

قبل محاولة التسلح بالمنطق والتفكر بقيم الحضارة الإنسانية للتعجب من عنوان المقال، ربما عليك أن تتذكر أن عالم كرة القدم شديد التعقيد والتشابك والدرامية، عالم لا يخضع لحسابات الصواب والخطأ المطلق، ولكن لمساحة رمادية تتحكم فيها النزعات والدوافع البشرية، لكن الأهم من كل ذلك هو الأثر الفعلي الذي يتركه هذا العالم الرمادي على واقعنا المعاش.

الإنسان الذي يبيت ليلته سعيدًا لانتصار فريقه، والآخر الذي دخل بنقاش حاد موضوعه القرارات التحكيمية، وثالثهم الذي قد يتغاضي عن المنطق والموضوعية لأنهما لا ينتصران لفريقه بموقف ما؛ كل تلك الأمثلة عن صور انعكاس عالم كرة القدم على واقعنا، لكن هل يمكن أن يمتد هذا الأثر لحرب عسكرية؟

الواقعة التي نحن بصدد سرد تفاصيلها تدعم هذا الرأي، يسميها المؤرخون «حرب كرة القدم» أو «حرب الـ 100 ساعة»، تلك التي شهدتها أمريكا الوسطي عام 1969، وكان أطرافها هما: «السلفادور والهندوراس».

BeFunky Collage
BeFunky Collage

10 أعوام قبل صافرة الحكم

لا تحتاج سوي نظرة سريعة على خريطة أمريكا الوسطى، لتكتشف أن البلدين متجاورتان، غير أن المساحة الجغرافية للـ«هندوراس» تقترب من خمسة أضعاف تلك الخاصة بـ«السلفادور»، لكن بميزان التعداد السكاني بعام 96 فإن الأخيرة تتفوق بواقع 3 ملايين مواطن مقابل مليون و333 ألفا لصالح جارتها، لم تتفوق «السلفادور» فقط بالكثافة البشرية، ولكن أيضًا بالقوة الاقتصادية كما التطور التقني.

عاش البلدان كأي جارتين، فكانتا عضوتين «باتحاد دول أمريكا الوسطى» بجانب «السوق المشترك» لدول القارة، وتعاونتا بقضايا سياسية ومصالح تجارية، لكن تضاعف المواليد مقارنة بالموارد المتاحة كان مقدمة لواقع مغاير تمامًا. كان بديهيًا أن يفكر السلفادوريون بجارتهم «الهندوراس» عند قرار الهجرة، فهي البلد الذي لا يبتعد سوى بضعة كيلومترات ويعيش حالة من التفاهم السياسي مع بلدهم بجانب مساحة شاسعة تصلح للزراعة وفرص عمل بالمصانع ستفتح أبوابها لأيدي العمل الخبيرة.

بحلول عام 69 كان المجتمع السلفادوري داخل «الهندوراس» يقدر بنحو 300 ألف لـ400 ألف مواطن، تزدهر أعمالهم يوميًا، حتى إن موقع جامعة «ديوك» الأمريكية نشر بحثًا يقول، إن السلفادوريين مثلوا آنذاك ما لا يقل عن 20% من الزراعيين بـ«الهندوراس».

في البداية لم تبدِ البلد المضيف امتعاضًا من الهجرة السلفادورية، لكن ومع الوقت بدأ شعور شعبي ينظر بعين الريبة لتطلعات الضيوف، هذا الشعور الذي بدأ يرى السلفادوريين يتغولون علي حساب أبناء «الهندوراس» ويتملكون أراضيهم تمامًا كالمحتل الذي يعيش على ثروات الغير، هذا الشعور غذته السلطة بالهندوراس وبدأت تتفاوض مع جارتها على اتفاقيات تنظم الهجرة والعمل وتحد من التسلل المتدفق عبر الحدود سهلة الاختراق كما تملك الأراضي!

خلال النصف الثاني من عقد الستينات، عاش السلفادوريون بقلق وحذر داخل الهندوراس بعد أن رفض رئيس الأخيرة أسفالدو لوبيز أرينالو تجديد اتفاقية الهجرة. وتيرة مشاعر الكراهية والبغض ازدادت بمرور الوقت بالتوازي مع قرارات حكومية أخرى بانتزاع بعض الأراضي من ملكيتهم، على الجانب الآخر لجأ إعلام «السلفادور» بمباركة حكومية لنشر صور وقصص عن مهاجرين بأرضي الجارة يتعرضون للأذى ويفقدون أموالهم، لكن رعبا أكثر من هذا سوف يجيئ.


90 دقيقة قبل الانتحار

بالوقت الذي كان العالم يستعد لمشاهدة الجوهرة السمراء «بيليه» بكأس عالم 1970، جاءت قرعة تصفيات التأهل لمونديال المكسيك شديدة القسوة على القارة الوسطى، إذ أوقعت الجارتين في ظل أجواء متوترة بمبارتين فاصلتين لتقفز بالتوتر إلى مستوى جديد خطير!

بحسب القرعة، أولى تلك المبارتين كانت بـالهندوراس يوم 8 يوليو 1969، فكان للعاصمة «تيجوسيغالبا» أن تحزم حقيبة الاستعداد للمواجهة التاريخية، لكن الاستعداد لم يتعلق فقط بأدوات التشجيع العادية كالأعلام والطبول والأغاني، لكن أيضًا بإلقاء الحجارة على الفندق المستضيف للاعبي الخصم ومناوشات بعرض البلاد مع المهاجرين الذين حاولوا الالتفاف حول منتخبهم الوطني.

مرت الـ90 دقيقة بنتيجة سلبية، لكن استطاع أصحاب الأرض تسجيل هدف المباراة الوحيد بالوقت بدل الضائع، ليتحول الملعب لشعلة نار. الهيستيريا وحدها قادرة على تفسير ما حدث، فبينما كان لا صوت يعلو فوق الاحتفالات كان جمهور الضيوف يقبع بدوامة الإحباط وهو يرى منافسيه الذين تحولوا لأعدائه يحتفلون بهدفهم، لكن امرأة سلفادورية كان لها أن تمزق هذه الحالة لتقدم على الانتحار داخل الملعب.

لم يجد الإعلام السلفادوري فرصة أفضل لمحاولة خلق حالة من الدفاع عن الشرف الوطني
يوري فايتسكن، باحث بجامعة ديوك الأمريكية.

سارع الإعلام السلفادوري بنشر صور الضحية، بل إنه نقل على التلفاز جنازتها التي اكتسبت تعاطف قطاع واسعًا من أبناء البلد واستعدوا لرد الدين.


أحيانًا الخسارة تمنحك الحياة

لم يمر أسبوع إلا وكان لاعبو منتخب «الهندوراس» يهبطون أرض الجارة للمشاركة بمباراة العودة يوم 15 يوليو، فوجئ أفراد البعثة الهندرواسية بهول الاستقبال الذي بدأ بإلقاء الحجارة والبيض الفاسد والمطاردة المستمرة التي حتمت على البلد المضيف تخصيص حراسة مشددة على البعثة بهدف حمايتهم من الفتك الجماهيري.

بعد أن خصصت السلفادور فندقًا للبعثة الهندوراسية يسهل للجماهيرالوصول له، يؤكد أغلب لاعبو الطرف الآخر أنها كانت ليلة قاتمة السواد حتى يشاع أن السفارة الهندوراسية تمكنت من تهريب أغلب لاعبيها لمقر السفارة بدلًا من تركهم فريسة سهلة بالفندق الفخ.

لكن ذلك لم يكن سوى البداية، فعند دخول لاعبي الهندوراس لأرض الملعب كان سيل من السباب والأغاني العدائية ينتظرهم، بل إن العلم الهندوراسي لم يرفع أصلًا عند عزف النشيد الوطني الذي تم التشويش عليه.

استحوذ الجانب السلفادوري على مجريات المباراة، وسريعًا تمكنوا من حسم الفوز بثلاثة أهداف، لتكون الخسارة هي الضامن بعدم التعرض للفريق المهزوم، لا لشيء سوى أنه هزم بالفعل، وليبدأ الاستعداد لمباراة فاصلة بعد إسبوع جديد قُدِر لها أن تكون بالمكسيك كأرض محيادة.

لقد كنا محظوظين بالخسارة، لولاها لما كنا أحياء
إنريكي كاردونا، لاعب منتخب الهندوراس آنذاك.

داخل «الهندوراس» بدأت العصابات المحلية الاصطياد بالماء العكر، فاتجهت لسرقة المهاجرين بل إن الأمر وصل لانتزاع ملكياتهم أو حرق أراضيهم خارج إطار الحكومة، هذه العصابات وجدت الحاضنة الشعبية التي تسمح بهذا الإجرام.

كانت نتيجة ذلك هو فرار أعداد كبيرة من المهاجرين نحو «السلفادور» مرة أخرى، أعداد الفارين التقريبية وصلت لـ17 ألف نسمة!


المكسيك كمحطة أخيرة

يقول الأرجنتيني «جريجوريو بونديو» مدرب «السلفادور» آنذاك إن رئيس البلاد استدعاه خصيصًا للقصر الجمهوري وطالبه ببذل أقصى جهد للدفاع عن ألوان البلاد التي تخوض ما هو أكبر من مجرد مباراة، يبدو أن الأرجنتيني كان على مقدار المسئولية، فقاد فريقه للفوز بعد مباراة ماراثونية مع الخصم!

ما إن حصلت «السلفادور» على التأهل، إلا وأعلنت قطع العلاقات الدبلوماسية مع «الهندوراس»، وكانت تلك هي الخطوة الفعلية لبدء الحرب. في 14 يوليو 69 انطلقت ثلاث مقاتلات جوية سلفادورية لتدك المطار العسكري الهندوراسي، لحقها مقاتلات أخرى قصفت الطريق الواصل بين البلدين، قبل أن يتطور الأمر لغزو عسكري أدى للاستيلاء على مدينة « نويفا أوكوتبيك» بالغرب الهندوراسي.

استغلت «السلفادور» قدرتها العسكرية بعشرين ألف جندي متفوقة على نظيرتها بالضعف تقريبًا، لكن «الهندوراس» كان لها أن تتحرك سريعًا فقصفت هي الأخرى بعد ساعات مصانع لتكرير البترول بـ«السلفادور» محققة أضرارا بالغة.

استمرت وتيرة الحرب بالتصاعد وسط معاناة شعبية، الأرقام تقول إن أكثر من 100 ألف شخص من البلدين عاشوا ظروفا صعبة، فكان لمنظمة الدول الأمريكية أن تتحرك لإنقاذ الموقف، في البداية عرضت «السلفادور» على المجتمع الدولي صور اللاجئين الذين يعانون من اضطهاد داخل الـ«هندوراس»، والأخيرة ردت بصور استقبال منتخب الكرة بجانب العدوان على مطارها الحربي.

في 20 يوليو قررت منظمة الدول الأمريكية التدخل رسميًا، فطلبت من «السلفادور» الانسحاب من الأراضي الهندوراسية، وطلبت من «الهندوراس» ضرورة حماية اللاجئين، وهددت بتوقيع عقوبات على البلدين.

أخيرًا آن للحرب المفاجئة التي امتدت لمائة ساعة أن تنتهي بعد أن كان ضحيتها ما بين 3 و6 آلاف قتيل وأكثر من 15 ألف جريح وأضعافهم مشردون.

لم تنسحب «السلفادور» إلا بالثاني من أغسطس بعد أن ضمنت حقوق مواطنيها، وبعد مرور 11 عاما كان لها أن تجتمع مع الـهندوراس تحت مظلة محكمة العدل الدولية لتوقيع معاهدة سلام بـ30 أكتوبر 1980، أما على مستوى اللعبة فقد خاض البلدان عددا من المباريات الرسمية بعد ذلك، بل وتأهلا معًا لمونديال 82 بإسبانيا.

كرة القدم لم تكن السبب الرئيسي للحرب، لكن المباريات استخدمت كواجهة لأهداف سياسية واقتصادية بحتة، ولصراع إعلامي شحن الشعوب بالكراهية، وربما يكون الدليل على ذلك هو الأداء الباهت الذي ظهرت به «السلفادور» بمونديال المكسيك بعد أن تلقت 3 هزائم مذلّة.

المراجع
  1. جامعة ديوك الأمريكية
  2. مقال موقع الجارديان.