صدرت رواية «الباب المفتوح» للكاتبة «لطيفة الزيات» (1923-1996) عام 1960، ومنذ لحظة صدورها اعتبرها النقّاد علامة فارقة في تاريخ الأدب المصري، وهي رواية تأريخية اجتماعية، نطّلع فيها على أهم الأحداث السياسية التي مرّت بها مصر في منتصف القرن العشرين، من خلال عدة أعين؛ أهمها عين «ليلى» البطلة الرئيسية التي تُعاصر هذه الأحداث وتتفاعل معها.

التوازي بين تحرر المرأة وتحرر الوطن

تتوازى رحلة تطور شخصية «ليلى» ونضجها وتحررها مع رحلة تطور الوطن ونضجه وتحرره، فتبدأ الرواية وكلاهما مُستعبدان مُهانان، ثم نرى كليهما يخرجان من الشرنقة عبر مسيرة متذبذبة من المواجهة والانسحاب، ومن الاحتجاج والاستسلام، عندما يؤمنان بقدراتهما على القتال؛ قتال الأعراف والتقاليد البالية، وقتال المستعمرين؛ الآفات التي تنتهك الحيوات الإنسانية، بتقييدها بسجون الخوف والمهانة.

تبدأ الرواية و«ليلى» طفلة قلقة في الحادية عشر عام 1946 -وبحسبة بسيطة نجد أن سنة ميلادها كان 1935، وهو ما يتوافق مع المظاهرات التي عمت مصر احتجاجًا على الحكم البريطاني- تنتظر مع والديها أخاها الغائب في المظاهرات، ثم ننتقل إلى فترة إلغاء حكومة النحاس 1950 لمعاهدة 1936، واعتبار القوات البريطانية الموجودة بالقناة قوات محتلة، فتبدأ فترة الكفاح المسلح، وتبدأ المظاهرات المؤيدة في الخروج.

نرى «ليلي» متوهجة وهي تقود مظاهرة تمتزج فيها بالجماهير الثائرة، ثم يأتي حريق القاهرة 1952، متزامنًا مع انهيار «ليلى» الشخصي عند اكتشافها زيف منْ حولها، ولكن عند خروج الملك وانتهاء حكمه، ثم تأميم القناة، تستعيد «ليلى» بوصلتها الاجتماعية، فتعيد إضاءة الشمعة المُطفأة بداخلها، والتي تسطع بقوة عند محاربتها العدوان الثلاثي بالقناة.

سيدات الطبقات المختلفة

جاءت الشخصيات النسائية من أرض الواقع، مُعبِّرة بقوة عن الأوضاع والطبقات الاجتماعية المتعددة. أولى هذه الشخصيات «ليلى»؛ وهي صورة للفتاة المتعلمة من الطبقة الوسطى في النصف الأول من القرن العشرين، والتي تتذبذب بين الإيمان بما تعتقده وتؤمن به من قيم عليا، وبين ما تختبره من تجارب اجتماعية مؤلمة.

تتصادق ليلى مع نقيضيها؛ «سناء»، الفتاة القوية التي تحارب من أجل ما تؤمن به، «وعديلة»، الفتاة المنساقة تمامًا للمجتمع بعاداته وأصوله. من الطبقة الوسطى أيضًا نجد والدة ليلى وخالتها، واللتين تقفان موقف الدفاع عن الأصول والتقاليد التي نشأتا عليها، متسلحتين بأدوات الخنوع والنفاق. أمّا ابنة خالة ليلى «جميلة» التي أدركت أن جسدها هو ثروتها تبيعه لمنْ يحقق لها غرضها، فتمثل الثمرة الفاسدة نتاج العادات والتقاليد البالية للطبقة الوسطى.

من الطبقة العليا نرى «سامية هانم» و«دولت هانم»، وهما سيدتان تتمتعان بنفوذ وقوة منحتها لهما مكانتهما الاجتماعية العالية، فعملتا على استخدام نفوذهما وقوتهما لكي تسيطرا على من هم أقل منهما شأنًا، ولذلك هما على استعداد لفعل أي شيء، حتى لو وصل الأمر إلى التخلي عن أبنائهما للموت -كما في حالة «سامية هانم»- إذا حاول الأبناء هز هذه المكانة بالسلب أمام مجتمعهما.

«سيدة» -وهي رمز للطبقة الأدنى في الرواية- تعمل خادمة عند خالة ليلى، وبالتالي حدود طبقتها الفقيرة تُكبِّلها، وتُجرِّدها من فرديتها، وتجعلها مجرد جسد، يتمتع به من يمتلكها.

الأنوثة المُلوّثة

تُقدِّم الرواية صورة جريئة عن نظرة المجتمع للأنوثة، فنرى في البداية أنه عندما تبلغ «ليلى»، تنظر لها «جميلة» نظرة شفقة تترسّب في أعماقها، وفي نفس الليلة تسمع بكاء أبيها في غرفته، ولا تعلم لماذا، فيترسّب في عقلها أنها مخطئة ومدنسة.

ولم تفهم ليلى تلك الليلة لمَ نظرت إليها جميلة هذه النظرة الحزينة، ولمَ بكى أبوها، ولكنها فهمت على مر السنين، فهمت أنها ببلوغها دخلت سجنًا ذا حدود مرسومة، وعلى باب السجن وقف أبوها وأخوها وأمها.
رواية «الباب المفتوح»، طبعة 2003، ص 21.

تحاول «ليلى» الخروج من هذه الصورة المُلوّثة، من خلال حبها النقي لـ «عصام» ابن خالتها، ولكنها تصطدم مع نظرته الشهوانية للمرأة واحتقاره لها وحصرها بمجرد جسد، فترتد على أعقابها مُنهارة، لا حائط لتستند عليه، ولا مأوى لتسكن به، لذلك تلوم نفسها، وتؤثر أن تلتزم بما يفرضه عليها المجتمع، فترتبط بـ «رمزي» أستاذها الجامعي الذي يرى أن المرأة صنفان، صنف يتم اشتهاؤه واللعب به ثم رميه جانبًا، والصنف الآخر هو المرأة المطيعة المستسلمة بلا شخصية.

ترويض الأنثى

نرى من خلال رحلة «ليلى» أن للمجتمع طرقه في ترويض الأنثى، تبدأ بنظرات الازدراء والتباكي والتأنيب على البلوغ، ثم يتولّى رجال العائلة مسئولية وضع القيود الحديدية حول عنقها، ولا يهم إذا كان من بين هؤلاء الرجال منْ يؤمن بالحرية والمساواة، مثل «محمود» الأخ الأكبر لـ «ليلى».

قال عصام في انتصار:
– تمام زي ما أنا قلت، كلام نظري، كلام جميل، كلام مفصول عن الواقع، واللي على البر عوام.
وضحك في سخرية، ثم استأنف كلامه:
– البنت ضروري تحب وتتجوز على حب. كل بنت، أي بنت، بس مش أختي ولا أختك… أخوات الناس التانيين. مش كده.
وسكت محمود.
رواية «الباب المفتوح»، طبعة 2003، ص 83.

يأتي دور الأنثى المُروَّضة -والتي تتمثل في أم ليلى- لكي تُروِّض الأنثى حديثة العهد، عبر الزجر المستمر واللوم، لكي لا تخطئ، وتتخطى الحدود الاجتماعية المرسومة.

وفي البيت تبدأ أمها تُعنِّفها على شيء، فلا بد أن يكون هناك شيء ما، شيء كان ينبغي أن يُعمَل ولم يُعمَل، أو كان ينبغي ألّا يُعمَل وعُمِل.
رواية «الباب المفتوح»، طبعة 2003، ص 25.

وإذا لم تنصاع بعد كل هذا، هناك الإهانة اللفظية والجسدية، مثل الضرب الذي تلقته «ليلى» من أبيها عندما خرجت بمظاهرة.

كز أبو ليلى على شفتيه حين فتح لها الباب، فتح لها الباب في هدوء، وفي هدوء أغلقه، ثم أظهر الشبشب الذي أخفاه خلف ظهره، وحاول أن يطرحها أرضًا، وتدخّلت أمها تحول بينه وبينها، ودفعها بعيدًا، وبعيدًا وقفت ترتجف شفتاها، وبيديه خلع حذاء ليلى، وعلى قدميها دوت طرقعة الشبشب، وعلى ساقيها وظهرها، وضحكة امرأة على السلم وصراخ طفل وليد ونهنهة أمها، وصوت أبيها يصرخ فيها «اخرسي»، وطرقعة الشبشب مرة بعد مرة، وبين المرة والمرة توقف، توقف، ونفس محبوس، ثم تدوي الطرقعة من جديد، وحفيف حقيبة الكتب وهي تسحبها على البلاط، وصرير أسنانها في الجلد، وخطوات أبيها تتباعد، وطرقه باب غرفته، وخطوات أمها تقترب، ويداها وقد امتدت إليهما برودة البلاط، وهي تزحف على قدميها ويديها إلى غرفتها.
رواية «الباب المفتوح»، طبعة 2003، ص 45.

هناك أيضًا الابتزاز العقلي والعاطفي الذي مارسه كلا من «عصام» و«رمزي» على «ليلى»، لكي يحصلا منها على مرادهما؛ «عصام» باشتهائه جسدها، و«رمزي» برغبته بكائن أضعف يتزوجه لكي يمارس عليه سلطانه.

وفي بادئ الأمر لم تفهم ما الذي يريده الدكتور رمزي منها. وبعد فترة فهمت، فهمت أن مفهومه للحياة يختلف عن مفهومها اختلافًا بيّنًا، لسبب بسيط، وهو أن طبيعته تختلف عن طبيعتها اختلافًا بيّنًا. وأدركت أنه يريد أن يذلها هي بالذات، وأن يُخضعها، وأن يُسمعها تردد آرائه.
رواية «الباب المفتوح»، طبعة 2003، ص 221.

تذبذب حتمي

نتيجة لكل هذا تقع «ليلى» فريسة للتذبذب، بين ما تؤمن به من قيم عليا، وما يفرضه عليها المجتمع من عادات مبتذلة تافهة، بين نظرتها البريئة لنفسها، ونظرة المجتمع الملوثة لكينونتها كأنثى، بين رفضها تبعية الرجل، والإعجاب الدفين به. صراع شرس بين كفتين ثقيلتين، ثقلت فيه الكفة الثانية لفترة، عندما عمل من حولها على تمزيق قلبها، وتحطيم مبادئها، فوقفت «ليلى» ترتعش في ظلامهم، لا تقوى على الإحساس أو التفكير. تنعكس ظلال هذه النكسة النفسية على أفعالها، فتقع فريسة لكراهية الذات، وترتبط بـ «رمزي» ذي الأفكار الضاربة في رجعيتها وتخلفها واستبدادها، كعقاب ذاتي.

وأمسكت سناء بركبتي ليلى وكادت تصرخ وهي تقول:
– ليه؟ ليه يا ليلى؟ ليه بتكرهي نفسك بالشكل ده؟
– لأن دي الحقيقة.
رواية «الباب المفتوح»، طبعة 2003، ص 301.

تبدأ «ليلى» في الخروج من هذه الدائرة الفاسدة في نهاية الرواية، وهي تقاوم العدوان الثلاثي في منطقة القنال، عندما تدرك أنها كفرد أصغر من الكل، وأن لها دورها الاجتماعي والقومي الذي يعلو فكرة النوع.

بناء الرواية

استخدمت الكاتبة أدوات متنوعة في بناء عملها الإبداعي، منها: الحوار باللغة العامية، والذي نقلت من خلاله بتلقائية وسلاسة مشاعر وأفكار الشخصيات، وطرق تعبيرهم عن أنفسهم، وتوجهاتهم الفكرية، ونظراتهم المختلفة للعالم، كما اعتمدت على أعين مختلفة في سرد الأحداث، فعندما تقف «ليلى» مشلولة عن الإحساس والإدراك، نرى العالم من حولها من خلال «حسين» و«سناء» و«محمود».

على مدار الرواية ابتكرت الكاتبة العديد من الرموز المبتكرة ذات الدلالات القوية، فنرى -على سبيل المثال- أن احتراق «ليلى» بنيران الخيانة، يتزامن مع حريق القاهرة، وأن كفاح أم لكي تأتي بوليدها إلى الحياة، يتزامن مع كفاح النساء العُزّل ضد جنود الاستعمار، أمّا تحطيم تمثال ديلسبيس، فيرمز إلى التحرر من عبودية الاستعمار.

وأخيرًا اتخذت «الزيات» التصوير الحي بالكلمات، ورسمت لنا مشاهد قوية توثيقية، منها تصويرها للصدمة التي اجتاحت المدنيين العُزل، بعد أن ألقت قوات العدوان القنابل عليهم:

ولم يعد الكون يُردِّد سوى صوت الطفلة تنادي أمها، والأم تنادي ابنها. وانهارت الطفلة مُكوَّمة على الأرض، وغابت الأم في البحيرة، وهي تصرخ صرخة مزغردة، فرحة، منتصرة، مجلوة، وانهار الرجل العجوز فوق كوم الرمال، وهو ينشج والدموع تتجمع في ذقنه البيضاء، وعاد سطح البحيرة ساكنًا، وعلى السطح دمية مغلقة العينين تهتز في رتابة وتبتسم. وعندما استدارت «ليلى» لتلقي نظرة أخيرة على المكان، كان «عادل» قد سوّى التراب على قبر حبيبته.
رواية «الباب المفتوح»، طبعة 2003، ص 333.

تظل «ليلى» -الفتاة المُتعِّلمة من الطبقة الوسطى التي تحارب الصورة النمطية عن المرأة- حالة فردية، لا تعبر عن حالة النساء وقتها، فعلى الرغم من خروج امرأة الخمسينيات من شرنقة الحرملك، وحصولها على الكثير من حقوقها، ودخولها مجال العمل بقوة، فإن هذا كله لم يمحُ الصورة الملوّثة المستقرة في أعماق المجتمع عن الكينونة الأنثوية، لذلك ظلت العادات والتقاليد البالية تحبسها، وتجعلها تدور بغير وعي بنفس الحلقة التي عاشت بها لقرون، الحلقة التي وعت «ليلى» بزيفها، عن طريق فرديتها وعقليتها، وجهدت على الهروب منها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.