«كفار»، «كلاب أهل النار»، «خارجون عن الإسلام».. كلها مسميات حملت رؤية المؤسسات الإسلامية «الرسمية» ومواقف شخوصها من جماعة «الخوارج» وشكلت صورتهم في أذهان غالبية المسلمين، وحتى غير المسلمين.

المؤرخ والمفكر المصري محمود إسماعيل، في كتابه «الحركات السرية في الإسلام»، يدحض هذه المسميات، وتلك الرؤية بالكلية، ويقدم طرحًا مختلفًا، يناهض الرواية الرسمية عن «الخوارج»، والعديد من حركات المعارضة التاريخية في عصور الحكم الإسلامي، مثل «المرجئة»، «المعتزلة»، «القرامطة»، نتعرض لها في مرات مقبلة.

في مقدمة الكتاب، يبين لنا الكاتب أهدافه من إصدار هذا الكتاب، ويمكن إجمالها في غايتين أساسيتين، تتمثل الأولى، في إحياء التراث الثوري الإسلامي، من خلال التعرض لسير بعض قوى المعارضة السرية في الإسلام، والغاية الأخرى، «معرفية» قصد بها إسماعيل هدم المناهج التقليدية التي غيبت التاريخ وإظهار إفلاسها عن طريق اتباع المنهج العلمي والتركيز على الرؤية الاجتماعية للصراع.

يستفيض الكاتب في شرح أهمية كتابه قائلًا: «آن الأوان لتقديم التراث الإسلامي في صورة علمية وعقلانية، آن الأوان لتقديم الإسلام (التثويري) مقابل الإسلام (التخديري) المبرر لظلم العسكر وطواغيت الثيوقراطية المتطرفة».

الكتاب الذي يتعلق موضوعه بتاريخ المسلمين الأوائل، لم ينقطع أثره ودوافعه عن حاضرنا، فـ عملية ميونخ 1972 شكّلت الحافز الأول الذي دفع الكاتب لإصدار هذا المؤلَّف، ليبرهن مشروعية «العنف الثوري» كحق لشعب سُلبت أرضه وحُوصر عالميًا وشُوه نضاله.


الطريق إلى التراث.. مسار آخر

يبدأ الكاتب من فرضية تقول، إن الصورة الراسخة في أذهان المسلمين عن قوى المعارضة كالخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة صورة شوهاء زائفة تمثل وجهة نظر «اليمين»، أو هي صورة التاريخ الرسمي الذي وضعه مؤرخو الملوك.

هنا حاول الكتاب، كما يقول مؤلفه، أن يلتمس في التاريخ الإسلامي نماذج وصورًا للعمل السياسي السري الذي أخذت به قوى المعارضة في الإسلام لمواجهة تسلط حكومات الأمويين والعباسيين الثيوقراطية، التي حادت عن الحق، وعدلت عن الشريعة، مستهدفًا تبرير مشروعية هذا الأسلوب النضالي على أساس نبل الغاية وسمو الهدف وضراوة قوى التسلط في قمع الثورات الجماهيرية المطالبة بعدالة الإسلام.

يرى إسماعيل أن المعلومات المتواترة عن «قوى الظل» في التاريخ الإسلامي في حاجة إلى مراجعة شاملة انطلاقًا من أن قوى المعارضة تمثل الإسلام أكثر من نظام الحكم الأموي الوراثي الملكي، البعيد كل البعد عن مبدأ «الشورى» كأساس للحكم والسياسة، ونظام الحكم العباسي القائم على التفويض الإلهي، الذي استأثر الفرس والترك فيه بصدارة السلم الاجتماعي على حساب عناصر الدولة الأخرى، في خروج واضح على مبادئ العدالة والمساواة عصب النظام الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية في الإسلام.

ويعتقد المؤلف أن القوى والحركات المعارضة كانت أكثر التزامًا بتعاليم الإسلام من الحكومات الأموية والعباسية، فالفكر السياسي للخوارج والمعتزلة والمرجئة اُستوحي من ديمقراطية الإسلام باتفاقهم على أحقية أي مسلم للخلافة بغض النظر عن أصله وعصبيته، كما تبنت هذه الحركات قضية العدالة، فضلًا عن غلبة الروح العقلانية على آرائهم الاعتقادية، وبالتالي لا يتعارض الإسلام مع نشاط هذه الحركات المعارضة، بل يؤكد مشروعية العمل النضالي لإسقاط الحكومات الخارجة عن مبادئ الإسلام.


التناقضات الاقتصادية والاجتماعية في المقام الأول

انتمى معظم الخوارج، اجتماعيًا، إلى قبيلة «تميم» التي استقرت في الكوفة والبصرة، ويذهب محمود إسماعيل إلى أنهم كانوا في الأصل من أنصار علي بن أبي طالب، ومن خيرة جنده، وأكثرهم إيمانًا بعدالة قضيته، ويمثلون من الناحية الدينية «الفئة القليلة المؤمنة» التي لم تقبل في الحق مساومة، وزعماؤهم من الفقهاء الملتزمين بالكتاب والسنة دون مواربة.

ويرى الكاتب أن قضية الخلافة – والصراع الاجتماعي الاقتصادي الدموي الذي ارتبط بها – تمثل السياق العام لظهور الخوارج، فيقول إن ظهورهم كحزب سياسي معارض في عهد عثمان بن عفان، لم يكن من قبيل الصدفة، ولم يكن أيضًا انعكاسًا لخلاف ديني أو مذهبي، بل نتيجة طبيعية للسياسات «العثمانية» التي خالفت مبادئ الإسلام اقتصاديًا واجتماعيًا، ويدلل على ذلك بأن الجماعة المسلمة لم تشهد افتراقًا في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق، والخليفة الثاني عمر بن الخطاب، نتيجة التزامهما بالكتاب والسنة، فالجماعة انصاعت لحكم أبي بكر بعد التزامه بأحكام الإسلام في تقدير الأعطيات، وتقسيم الغنائم، كذلك انصاعت لحكم عمر بسبب سياساته العادلة المستوحاة من تعاليم الإسلام، حتى عندما أضاف الاجتهاد لمصادر التشريع ليواكب التطور الذي صاحب الفتوحات الإسلامية في عهده لم يحِد عن جوهر مفهوم العدالة في الإسلام، ونتيجة لحرص عمر على مفهوم العدالة كما أقره الإسلام لم تظهر النعرات والنزاعات العنصرية والعصبية القبلية.


عثمان: نحو الصراع

يدّعي الكاتب أن النعرات العنصرية القبلية التي اختفت في عهدي أبي بكر وعمر، أطلق عثمان لها العنان بعد توليه أمر المسلمين عندما سمح لكبار الصحابة في قريش باستغلال مكانتهم في مراكمة الثروات، ليشكلوا «أرستقراطية ثيوقراطية قرشية» في انتهاك واضح لعدالة الإسلام، أثار أحقاد القبائل الأخرى. كذلك أعاد عثمان الصراع القديم بين بني أمية وبني هاشم نتيجة النفوذ الذي تمتع به أقاربه من بني أمية في الأمصار التي تولوا إمارتها، ليشكلوا هم الآخرون «أرستقراطية سفيانية»، بخلاف مخالفة عثمان لأبي بكر وعمر في النظرة إلى الخلافة، فبعد أن كانت عبئًا ومسئولية اعتبرها عثمان «قميصًا ألبسه الله إياه».

هذه الاختلافات دفعت في اتجاه الثورة على عثمان والمطالبة بعزله، لخروجه على نصوص ومبادئ الشريعة، لينتهي الأمر بمصرعه في 35هـ – 655م.

وبشكل واضح، يرى محمود إسماعيل أن «الخوارج» حزب سياسي، ظهر تعبيرًا عن تناقضات اقتصادية واجتماعية، اكتسبت طابعًا دينيًا، نتيجة انفجارها عبر مشكلة الإمامة أو الخلافة، لكن الخوارج في الأصل تيار سياسي يتبنى مبدأ العدالة الاجتماعية كما نادى بها الإسلام، ولم يكن مجرد حزب ديني، مؤكدًا أن الخلاف حول مسألة الإمامة في الإسلام يعد خلافًا فقهيًا دينيًا في الظاهر، لكنه يعكس في باطنه وحقيقته صراع قوى اجتماعية ومواقف طبقات متصارعة.


الديمقراطية والثورة عند الخوارج

يعارض الكاتب الرواية الشائعة التي تُحمّل الخوارج مسؤولية إرغام علي بن أبي طالب على قبول التحكيم بعد موقعة صفين، حيث رفض الخوارج مبدأ التحكيم من أساسه، لأنه يعني التشكيك في شرعية إمامة علي، فخرجوا عليه لرفضه استمرار القتال في صفين، واستجابته لضغوط أكثرية جنده في وقف القتال تأثرًا برفع جيش معاوية المصاحف على أسنة الرماح.

يقول محمود إسماعيل، إن الفكر السياسي للخوارج عبّر عن قطاع عريض من الجماهير الساخطة على الخلافة، فبينما قصر أهل السنة حق الإمامة على قريش، وجعلها الشيعة حكرًا على آل البيت وحدهم، نادى الخوارج بأنها حق متاح لكل مسلم دون النظر إلى أصله أو عصبيته، فقد مثّل الخوارج – سياسيًا – الجناح الديمقراطي بين الأحزاب الإسلامية الأخرى.

ويؤكد إسماعيل أن تاريخ الخوارج حتى أواخر العصر الأموي ساير مبادئهم الاعتقادية في الثورة، فبالرغم من أنهم كانوا يناصرون علي بن أبي طالب، فإنهم ثاروا عليه مرارًا وتكرارًا بغاراتهم على البصرة والكوفة، بخلاف ثورتهم في الولايات الشرقية، مما دفعه إلى البطش بهم، ليتآمروا على حياته التي انتهت بسيف عبدالرحمن بن ملجم عام 40هـ.

واستمرت ثورات الخوارج بعد مقتل علي لينضموا إلى عبدالله بن الزبير، لما أظهر الميل لمذهبهم، وحاربوا الأمويين معه، ثم انقلبوا عليه، بعدما ظهر لهم بوجه آخر، ودارت بين الطرفين معارك ودماء.

بعد مصرع بن الزبير، وجد الخوارج أنفسهم أمام بني أمية وجهًا لوجه، فتعرضوا لتنكيل شديد، خصوصًا من عبد الله بن زياد والحجاج بن يوسف الثقفي، فاستأصل الأمويون فرقًا كاملة من الخوارج.


مرحلة السرية: الانطلاق والسقوط

زاد في ضعف الخوارج أيام العصر الأموي، انشقاقهم إلى جماعات متناحرة جاوزت عشرين فرقة، مما أدى إلى تشتيت جهودهم والقضاء على ثوراتهم، ووصلت أحوالهم في أواخر القرن الأول الهجري إلى حالة من الضعف لم تمكنهم من مواصلة نشاطهم السياسي بشكل علني، فكل الظروف كانت تحتم عليهم أن يغيروا الأسلوب التقليدي باتباع أسلوب الدعوة المستترة وتنظيم العمل السري، ونقل النشاط بأسره إلى الأطراف بعيدًا عن قبضة الخلافة.

الظروف الجديدة أحدثت تحولًا خطيرًا في الفكر السياسي للخوارج، حيث عزف الأتباع الجدد عن آراء الفرق المتطرفة، وأقبلوا على المعتقدات المعتدلة مثل الصفرية (نسبة إلى زياد بن الأصفر)، الأباضية (نسبة إلى عبدالله بن أباض)، وأخذوا بمبدأ «التقية» بإظهار غير ما يبطنون اتقاءً للأخطار.

وفي عمان نجح «الأباضية» في إقامة دولة فيها، وتمكنوا من فتح اليمن، ثم زحفوا إلى الحجاز، لكن الجيوش الأموية أجبرتهم على الانسحاب من الحجاز واليمن والعودة إلى عمان وحضرموت وظلت دولتهم فيها زمنًا طويلًا، كما انتشرت الدعوة الأباضية في بلاد المغرب.

تعرض التنظيم الأم بعد ذلك لهزة عنيفة مع تكرار الهجمات الأموية، وتوالي الخلافات والانشقاقات بسبب رفض الملك الوراثي للتنظيم، وقيام الثورات الداخلية، وظهور العديد من الفرق المنشقة داخل المذهب الأباضي، وظلت الانشقاقات المذهبية تضعف الدولة الأباضية حتى أسقطها الشيعة عام 297هـ.


[1] أستاذ التاريخ الإسلامى بكلية الآداب جامعة عين شمس. له مؤلفات عديدة منها: موسوعة سوسيولوجيا الفكر الإسلامي، قضايا في التاريخ الإسلامي، فكرة التاريخ بين الإسلام والماركسية، الخطاب الأصولي المعاصر، فرق الشيعة بين الدين والسياسة، دراسات في الفكر والتاريخ الإسلامي، إخوان الصفا – رواد التنوير في الفكر العربي. أشرف على ما يقرب من مائة رسالة علمية، ماجستير ودكتوراه. حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2014.[2] هي عملية احتجاز رهائن إسرائيليين، حدثت أثناء دورة الألعاب الأوليمبية التي أُقيمت في ميونخ بألمانيا عام 1972، نفذها 8 فلسطينيين، وكان مطلبهم الإفراج عن 236 معتقلًا في السجون الإسرائيلية معظمهم من العرب بالإضافة إلى كوزو أوكاموتو من الجيش الأحمر الياباني، انتهت العملية بمقتل 11 رياضيًا إسرائيليًا و5 من منفذى العملية الفلسطينيين، وشرطي وطيار مروحية ألمانيين.[3] 37هـ – 657م، تقاتل فيها جيش علي بن أبي طالب وجيش معاوية بن أبي سفيان، على خلفية رفض الأخير مبايعة الأول، بحجة عدم القصاص من قتلة عثمان بن عفان.