شهدت القضية الفلسطينية على مدار 67 عامًا من عمر الاحتلال تطورات عدة، أهمها خطورة ما حدث في السنوات الأخيرة مما عرف بالثورات العربية، والثورات المضادة، والكل يعلم أن المجتمع اليهودي قام في فلسطين العربية من مستعمرين يهود جاؤوا من وراء البحار بمساعدة الدول الاستعمارية، ودعم ألمانيا النازية للصهيونية، ومساندة من أمريكا التي اتبعت نفس سياسة التطهير العرقي التي قامت عليها لتقيم هذا الكيان الصهيوني في جسد الأمة العربية وتهجير أهل فلسطين، أو إبادتهم والتخلص منهم.

اتبع العرب طريقين للتعامل مع القضية الفلسطينية. الأول: هو استغلالها وتوظيفها في الصراعات الداخلية للأنظمة المستبدة، واستخدام القضية في النزاعات العربية – العربية، والعمل على الزج بالفلسطينيين في هذه الصراعات كونهم بحاجة إلى الدعم العربي للتخلص من الاحتلال. والثاني هو إقناع الشعوب العربية بأنها قضية غير قابلة للحل، والاكتفاء بتقديم بعض المساعدات المادية والسياسية للشعب الفلسطيني، في محاولة لترسيخ فكرة عدم القدرة على مواجهة الكيان عسكريًا.

التدهور التاريخي للقضية الفلسطينية

بداية من الفترة 1897 وانعقاد مؤتمر بازل الذي أسس لفكرة إنشاء وطن قومي لليهود، ثم تأسيس الحركة الصهيونية في عام 1922، وصدور صك الانتداب البريطاني على فلسطين، الذي منح اليهود حق إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين.

وخلال سنوات الانتداب الفترة من 1922حتى 1947، عملت بريطانيا على تهويد فلسطين، وتيسير هجرة الصهاينة إليها، ثم الفترة من 1948حتى 1973، والتي حصل فيها الكيان على عدة مكاسب دولية منها ضمان الحماية الدولية لإقامة كيان عنصري، على 55% من الأراضي الفلسطينية، وحصول الفلسطينيين على45%. وفي العام 1950، حصل الكيان على عضوية الأمم المتحدة.

وأصدرت أمريكا وبريطانيا وفرنسا بيانا ثلاثيا نص على حماية الكيان، الذي سيطر على 78% من الأراضي الفلسطينية في 1967، وأقام كيانه الاستعماري الاستيطاني الإرهابي على حساب الحقوق الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف للفلسطينيين، وذلك باستخدام المجازر الجماعية والتطهير العرقي وترحيل سكان فلسطين الأصليين وأصحابها الشرعيين، ومصادرة أراضيهم، وتهويد المقدسات الإسلامية.

1

اكتشفت الشعوب العربية أن إسرائيل استقرت طوال هذه الفترة، بمساعدة النظم العربية التي تحكمت فيه وقمعته، وأن عدد اليهود تضاعف بعد 67 عامًا من 600 ألف إلى 8.5 مليون. ونسبة البطالة فيها لا تتعدى الـ 5% حاليًا، في الوقت الذي بلغت فيه البطالة في قطاع غزة الآن حوالي 60%، وفي الضفة حوالي 20%، كما سيطر الكيان على نحو 90% من إجمالي التجارة الخارجية بشقيها الصادرات والواردات للفلسطينيين، وتميز الكيان بأنه أقام النظام السياسي له على قواعد ديمقراطية، وعلى أساس النظام الحزبي، وفصل السلطات، وتداول السلطة؛ وهو ما افتقدته النظم العربية.

وأن هذا الكيان لم يتفوق على العالم العربي بقدراته الاقتصادية والتكنولوجية فحسب، ولكن بمنظومة بناء الدولة و الفرد اليهودي.

تساوت شروط المساعدات العربية مع المساعدات الغربية من حيث فرض إملاءات على الفلسطينيين الذين يستخدمون هذه المساعدات في توفير سبل الإعاشة للمواطنين، ومحاولة الاستقلال عن سياسات الاحتلال التي أجبرت الاقتصاد الفلسطيني على تلقي المساعدات الأميركية والأوروبية المشروطة أساسًا وفق توجهات المتبرعين.

كما يقوم الكيان بحجز أموال السلطة الفلسطينية من عائدات الضرائب على تجارة الفلسطينيين الخارجية عبر السوق الصهيونية، والتي تقدر بنحو مليار ونصف دولار سنويًا، وتقدر إجمالي إيرادات المقاصة لعام 2014 حوالي 2.05 مليار دولار.

ومن الأمور التي ساعدت الكيان في الاستمرار في تعنته؛ إحجام بعض الدول العربية عن تطبيق المقاطعة مع الكيان، والتي تكبده سنويًا حوالي مليار دولار. ولكن هذه الدول تخضع للضغوط الأمريكية وتتعاون مع الاحتلال سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

حيث بلغت قيمة التبادل التجاري بين الدول العربية المطبعة، رسميًا ومن الباطن، مع إسرائيل حوالي 9% من إجمالي التجارة العربية مع دول العالم سنويًا، ولم يتوقف التطبيع على المعاملات التجارية والسياسية فحسب، بل شمل تغييرًا في مفاهيم الصراع والمنطلقات الدينية، وتغييرًا تامًا في النظرة العربية للكيان، فالاتفاقيات وفرت للكيان اعترافًا قانونيًا بسيادته كدولة تتعامل مع الأنظمة العربية، وليس الشعوب التي ترفض هذا الوجود الاستيطاني.

2

البعد العربي والإسلامي

لابد أن نُعرف القضية الفلسطينية أولًا، ونعيدها إلى عمقها العربي، حيث كانت ولا زالت هي قضية العرب الأولى. ولم يكن القرار الفلسطيني منفردًا في يوم من الأيام، بل منذ النكبة، وتدخل الجيوش العربية للدفاع عن فلسطين، لم يكن الفلسطيني صاحب قرار أبدًا حتى يومنا هذا. ونستطيع القول أن التشرذم العربي – العربي انعكس بشكل مباشر على القضية الفلسطينية.

وأكثر ما يخيف الكيان الصهيوني، ويخشاه الغرب هو صعود التيار الإسلامي في الدول العربية، وحذر منه بعض حاخامات الصهاينة، لأن التيار الإسلامي يعتبر من أقوى التيارات العربية على الساحة السياسية، واستطاع الوصول إلى الحكم في عدة دول عربية ليس لعبقرية منه، ولكن لتهاوي النظم الاشتراكية والرأسمالية، وفشلها في تحقيق العدالة الاجتماعية للمواطن، على عكس التيار الإسلامي الذي يقدم الخدمات الاجتماعية للمواطن فيصل إليه بسهولة.

وحذر الكيان من صعود هذا التيار مرارًا، وعندما وصل بالفعل إلى الحكم في مصر قام الكيان بافتعال أحداث على الحدود المصرية – الصهيونية لاستفزاز الجيش المصري ضد حركة حماس في غزة عن طريق قتل جنود مصريين، وإلصاق التهمه بحركة حماس، وبالفعل نجحت هذه المحاولات، ومما أعطاها مصداقيةً تأييدُ حركة حماس للإخوان المسلمين الذين أطاح بهم الجيش المصري في 30 يونيه لاتخاذهم خطًا مخالفًا لما سارت عليه الدولة المصرية على مدار أربعين عام.

3

وهناك تربص بالعرب لمنع صعود التيار القومي العربي والإسلامي، لكي لا يتساوى في قوته مع القوى العظمى في العالم، وتصبح أولى خطواته القضاء على الكيان الصهيوني، وهذا ما يحاربه الغرب الاستعماري بشتى الطرق، ولا يعطي فرصة للعرب أن يفكروا في هذه الوحدة، بل يختلق لهم أسباب الخلاف والاختلاف و التناحر حتى وصلنا إلى عصر الحروب العربية – العربية، وتصفية العرب تمامًا، وليس القضية الفلسطينية فحسب.

وهناك دول عربية وإسلامية تتحكم في مسار القضية الفلسطينية، ولا يمكن اتخاذ أي خطوة من السلطة الفلسطينية دون التنسيق مع الدول العربية والمنظمات الإسلامية. لذلك لا يمكن النظر إلى القضية الفلسطينية على أنها فقط قضية تخص الفلسطينيين وحدهم كما تم الترويج لهذه المقولة بعد اتفاقيات السلام العربية – الصهيونية.

وبالرغم من هذا البعد العربي والإسلامي يدفع الفلسطينيون وحدهم ثمن الاحتلال، وهم وحدهم من يعيشون المواجهة اليومية مع غطرسة ووحشية العصابات الصهيونية المنتشرة في أرجاء فلسطين، ويدفعون ثمنًا باهظًا نتيجة هذه المواجهات.

وإذا كان ثمة تحرير لفلسطين فسيكون على الأغلب إسلاميًا، حيث انصهرت باقي القوى وراء التمويل، والرواتب، ولأن القضية الفلسطينية لها بعد ديني إسلامي يواجه البعد التوراتي المتطرف، فستكون هذه المواجهة هي إحدى أكبر المفارقات التاريخية لثورات الربيع العربي.

البعد الدولي والإقليمي

ساند المجتمع الدولي قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، فارضًا هذه الخطوة على الدول العربية والإسلامية، وضاربًا بكل الحقوق الإنسانية والعالمية عرض الحائط، كونهم أقاموا كيانًا على حساب تهجير شعب، ومصادرة أرضه لصالح حفنة من العصابات الصهيونية المرتبطة بالاستعمار والدول الاستعمارية الكبرى التي كانت تحتل الأراضي العربية عسكريًا.

وليس هناك من شك في أن مواقف القوى الكبرى، ولا سيما الغربية منها له التأثير الأكبر على مجرى القضية الفلسطينية، ولكن ذلك أيضا لا يتم إلا من خلال التحكم والتأثير في الدول العربية والمنظمات الإسلامية ذات التأثير في الشأن الفلسطيني، للانفراد بالفلسطينيين والضغط عليهم بالمساعدات المالية تارة، وبالتخلي عن مساندة القضية وتجميدها تارة أخرى، بدءًا باتفاقية كامب ديفيد، وإعلان السادات أن “لا حروب بعد اليوم – هذه آخر الحروب – أكتوبر 73″، انتهاءً باتفاقية أوسلو والتطبيع المباشر وغير المباشر مع الكيان. باستثناء المقاومة، والانتفاضات الفلسطينية المتصلة التي شكلت حائط الصد للكيان.

إلى أن وصل الأمر إلى ما وصلنا إليه من تنازلات بلا مقابل، وضياع للقضية.

4

وجدت بعض الأنظمة لها مكانًا على الساحة الدولية بتدخلها في القضية الفلسطينية سواءً بالسلب أو بالإيجاب حيث تسعى الدول الغربية وأمريكا لاجتذاب أي دولة تستطيع التأثير على الفلسطينيين ودفعهم للتنازل عن حقوقهم، والتوقيع على معاهدات مع الكيان مفادها إعطاء الاحتلال شرعية الوجود، وعلى الجانب الفلسطيني توجيه الشكر والامتنان لهذه الدول التي تواضعت وتدخلت لمساعدته في التنازل عن حقوقه الثابتة تحت مسمى مساندة القضية الفلسطينية، والحقيقة هم ساندوا هذا الكيان ليصبح مستعمرة غربية زُرعت في قلب الوطن العربي، تستطيع التحرك بحرية للاعتداء على أي دولة عربية بغطاء غربي كما حدث وضرب هذا الكيان المفاعل النووي العراقي، والآن يوجه ضربات للأراضي اللبنانية، والسورية، والعراقية ويشارك العرب في عاصفة الحزم، إلخ من توغل داخل المجتمع العربي والإسلامي.

ربيع عربي وثورات مضادة؟

لم يستيقظ العالم على الثورات العربية، بل هي كانت موجودة بالفعل، وكان هناك حراك داخلي في كل الدول العربية ضد الديكتاتورية واحتكار السلطة ونتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية في ظل نظم الحكم الشمولي المستبدة التي لم تسمح لهذا الحراك أن يتبلور في شكل ثورة لكي لا تسقطه، ومصادرة حرية التعبير، وانعدام المساواة بين المواطنين، وفساد مؤسسات الدولة.

كما رفعت الثورة في بدايتها شعارات تحرير فلسطين، وإسقاط معاهدات السلام دون الإشارة إلى أي عدو آخر خارجي، لأنها كانت في صراع مع عدو داخلي ليس من السهل التغلب عليه، ونتيجة هذه الشعارات ظهرت أصوات أخرى تخون هؤلاء، وتتهمهم بأنهم جماعات إرهابية، ومتطرفة تسعى لإسقاط الدولة، وأنها تحصل على تمويل من دول خارجية، وتشكل خطرًا ضد الغرب وأمن إسرائيل، وهو ما عرف بالثورة المضادة.

لذلك تراجع شعار تحرير فلسطين لكي يتفادى الثوار تهمة معاداة إسرائيل وزعزعة أمنها للحصول على تأييد ودعم دولي لإسقاط الأنظمة المستبدة. وتم التركيز على الشعارات القطرية والوطنية وتجاهل الشعارات القومية والعربية.

وانتصرت إرادة الشعوب، وجعلت العالم يستيقظ على إسقاط هذه الأنظمة الموالية له منذ أكثر من أربعين عامًا ضَمِن العالم الغربي خلالها أمن وسلامة الكيان الصهيوني عن طريق ضمان ولاء هذه الأنظمة له.

وارتفعت وتيرة مخاوف الفلسطينيين من التطورات التي حدثت في بعض الدول العربية وما عرف بالثورة المضادة للربيع العربي؛ بسبب عدم وضوح الرؤية لمسار هذه الثورات، بالتزامن مع التغيرات السياسية والإقليمية، وتأثيرها السلبي علي القضية الفلسطينية، وهو ما شاهدناه بوضوح في الحرب التي شنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة في 2014، وتشديد الحصار عليه من الجانبين المصري والصهيوني، والسباق الزمني الذي يخوضه الكيان لاستهداف المسجد الأقصى، وتهويده، والهجمة الاستيطانية الشرسة في الضفة الغربية.

5

وسرعان ما كشفت الثورات الأنظمة العربية على حقيقتها، ولم تعد تنفع محاولات التغطية على واقع الاستبداد والإتجار بقضية فلسطين، أو بدعوى مواجهة التحديات الخارجية، والأكذوبة التي رددتها هذه الأنظمة طوال العقود الماضية لتبرّر إخفاقاتها في تحقيق التنمية الاقتصادية، والنهوض بالدولة، وانتهاكات حقوق الإنسان، والمبالغة في عسكرة وتغوّل الأجهزة الأمنية، بدعوى مواجهة إسرائيل.

كما تراجع دور الإعلام العربي في تناول القضية الفلسطينية، وظهر ذلك بوضوح من خلال قنوات عربية مسيسة تعمل لصالح جهات بعينها، ولغة مخاطبة متدنية فاسدة، غرضها التأثير على المواطن البسيط.

اختلف الواقع السياسي الحالي عن المشهد السياسي العربي الذي كان سائدا أثناء التغيرات والانقلابات وحركات التحرر من الاستعمار الغربي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.

الأمر الذي أثر في خط سير القضية الفلسطيني. حيث كان قديمًا فكرة التحرر من الاستعمار، والصهيونية، والرأسمالية الغربية هو هدف اجتمعت عليه الأمة العربية، وسعت للتخلص منه مجتمعة، وبعد الحصول على الحرية والاستقلال، وتحقيق آخر نصر عسكري عربي في حرب أكتوبر عام 1973، والذي شاركت فيه الدول العربية مجتمعة وانتصرت على هذا الكيان.

وتم التنازل عن هذا النصر ودب الفرقة بين الدول العربية عن طريق معاهدة السلام المصرية – الصهيونية وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، وهي الخطوة التي لم يكن يحلم بها أي صهيوني في العالم، والتي ضمنت أمن وبقاء هذا الكيان حتى الآن وما تلاها من معاهدات مشابهه.

هنا اختلف الفكر العربي تمامًا، واختلف النظر إلى أهمية القضية العربية، وكيف سيتم تحرير فلسطين بعد اعتراف أهم دولة عربية بالوجود الصهيوني، ووقعت معه معاهدة من ضمن شروطها عدم شن حروب على الكيان، ومصر هي البوابة الجنوبية لفلسطين.

فما كان من المقاومة إلا فتح البوابة الشمالية من سوريا ولبنان منفردة. وشن الكيان آلاف الغارات الجوية على لبنان، إلى أن جاء عدوان واجتياح لبنان عام 1982، والذي أنهى الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان.

ولم تجد لبنان سوى إيران وهي دولة غير عربية لتمد لها يد العون، والأولى دولة قوية على المستوى الدولي، وتكنُّ عداءً للكيان الصهيوني وأمريكا.

كما تدخلت تركيا لمساعدة فلسطين أكثر من مرة، وأهمها إرسال سفن تركية لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة بسبب فوز التيار الإسلامي الفلسطيني (حماس) في الانتخابات عام 2005، وهو ما أغضب تيار المفاوضات، وجعله يشن حملة عربية ودولية لحصار أهل غزة لإجبارهم على إسقاط الحكومة الإسلامية في غزة، والتي واجهت أكثر من حرب على القطاع ولم يستطع الكيان التخلص من هذه الحركة.

إن ما جرى ويجري من الثورة المضادة مدعوم بمؤامرات خارجيّة بالتعاون مع أطراف داخلية؛ تستهدف القضية الفلسطينية في المقام الأول، واستقرار الدول العربيّة وإنهاء الربيع العربي، فقد همشت هذه الثورات المضادة القضيّة الفلسطينيّة، وانتزعتها من صدارة المشهد السياسي العربي والإقليمي والدولي، وأعطت الفرصة للكيان، لإعادة ترتيب أوضاعه، ورسم إستراتيجية جديدة مفادها القضاء على أي وجود فلسطيني، وتبنى الكيان سياسة إبادة وتصفية الفلسطينيين لإفراغ القضية من مضمنوها، وتراجع دور الأنظمة السياسية العربية إلى مجرد مساند، ووسيط، ومتفرج.

مما أدى إلى حضور وتأثير الجهات الإسلامية، وظهور قوى إقليمية مثل إيران وتركيا لتحل محل الأنظمة العربية التي أدت إلى تدهور الوضع العربي والفلسطيني معًا. وهذا الظهور الإسلامي أشعل الوضع العربي، وأدى إلى الصراع العربي – العربي الذي نشهده على الساحة الآن.

أسباب تراجع القضية الفلسطينية

هناك مجموعة من العوامل والأسباب التي أدت إلى تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، منها:

  • تجاهل الثوار للقضية الفلسطينية لانشغالهم مع الأنظمة الداخلية والاهتمام بصياغة الدستور الداخلي للبلاد، ورصد انتهاكات حقوق الإنسان والقمع الذي يمارس ضد المتظاهرين ودفعها، وسقوط شهداء في المواجهات جعل الثائر العربي لا يرى سوى دماء زميله أو قريبه في الثورة ولا يتمكن من رؤية شهداء القدس الذين يسقطون يوميًا، ولا حتى لديه القدرة ولا الوقت على متابعة شهداء الوطن العربي، حيث إراقة الدماء أصبحت أسرع من أن تتابع وتحصى، كم شهيد في تونس، وليبيا، وسوريا، ومصر، واليمن، والعراق، وحاليًا دخلت دول الخليج على خط مذبحة العرب الجارية في أهم وأقوى الجيوش العربية.
  • انشغال الأنظمة العربية الجديدة، التي جاءت بعد الثورات العربية، بالاستقرار الداخلي واحتواء الثوار وتلبية مطالبهم، والحد من الصراع الداخلي في الدولة للثورة والأنظمة القديمة التي تحارب كل من أتى للقضاء على منظومتها التي تعيش عليها، وتسيِّر الدولة.
  • صعود الإسلام السياسي إلى الحكم في معظم الدول التي حدث بها ربيع عربي، وهذا التيار الديني لا توجد لديه خبره كافية بأمور السياسة، وإدارة الدول العميقة، وأهمها تيار الإخوان المسلمين في مصر، والذي أدي سقوطه إلى الإضرار بالقضية والمواطن الفلسطيني معًا. حيث شن الإعلام المصري حملات ضد حركة المقاومة الإسلامية حماس التي أعلنت مساندتها للإخوان المسلمين، الأمر الذي أساء للمواطن الفلسطيني الذي ما إن يعلن أنه فلسطيني؛ يتم النظر إليه على أنه إرهابي يقتل الجنود المصريين في سيناء. وخسر كثير من الفلسطينيين أعمالهم بسبب هذه الحملات الإعلامية المبالغ فيها.
  • استغلال الكيان الصهيوني لهذه الأحداث، وقيامه بتصعيد سياسة الاستيطان والقمع لدرجة أنه شن حرب إبادة على قطاع غزة الذي يحتوي على 1.8 مليون فلسطيني هم أصحاب الأراضي التي احتلها الكيان منذ العام 1948.
  • ظهور مؤامرة لتصفية الوجود الفلسطيني تمامًا، بدءًا من الهجوم على مخيمات اللاجئين في سوريا وتصفية وتهجير أهلها، ولم تفلح المحاولات الدولية، والفلسطينية في إنقاذ هؤلاء اللاجئين الذين تركوا المخيمات إلى المجهول أو الموت، والإحصائيات متاحة حول هذه المجازر التي تصب في صالح الكيان الصهيوني بالدرجة الأولى.
  • خلق كيان إرهابي جديد على غرار تنظيم القاعدة لإلهاء وإخافة العرب اسمه (داعش)، الذي تم إطلاقه في كل من العراق وسوريا وليبيا، ومصر ليدمر كل ما تصل إليه يداه، وهذا التنظيم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمريكا وإسرائيل.
  • على المستوى الفلسطيني، استمرت السلطة الفلسطينية في مسارها القانوني حتى حصلت على دولة غير عضو في الأمم المتحدة، واعتراف مجموعة من الدول الغربية بدولة فلسطين، وتعتبر السلطة هذا إنجازًا سياسيًا يتيح لها مقاضاة الكيان الصهيوني على جرائم الاحتلال للدولة الفلسطينية. ولم يفلح أبو مازن باحتواء الانقسام بينه وبين حركة حماس. بل زاد الانشقاق داخل حركة فتح وأتباع محمد دحلان المنشق عن الحركة ليكون فصيلًا دحلانيًا خاصًا به، في محاولة لإسقاط أبو مازن ليصبح الخلاف الفتحاوي الداخلي أقوى من الخلاف مع حماس. وهذا ساهم في إضعاف الصف الفلسطيني وتشتته.
  • تنازل السلطة الفلسطينية عن خيار المقاومة، وقمع أي انتفاضة فلسطينية تحاول القيام في الضفة الغربية، مما أعطى شرعية للاحتلال وثقة في أنه مهما فعل من مخالفات وتجاوزات فلن تكون هناك ردة فعل تزعجه. بل هناك سلطة فلسطينية تحميه من الغضب والثأر الفلسطيني.
  • تبني أبو مازن والسلطة الفلسطينية حملات تشويه للمقاومة الفلسطينية المتمثلة في حركات المقاومة في غزة لخلافه مع حركة حماس التي فازت في انتخابات أشرفت عليها هيئات دولية واتهمها أبو مازن بالانقلاب عليه لعدم خضوعها لشروطه بنزع سلاح المقاومة وتحويلها إلى الوضع الذي آلت إليه الضفة الغربية.
  • أهم أسباب تراجع القضية هو تخلي العرب بالكامل عن دعم خيار المقاومة المسلحة من أجل إرضاء الحليف الأمريكي الذي يقيم القواعد العسكرية لحماية أمن الخليج من إيران التي نجحت أمريكا وإسرائيل في تصويرها كعدو رئيسي لدول الخليج، وأضيف إليها تركيا وهما الدولتان الوحيدتان اللتان تدعمان القضية الفلسطينية بصوت مرتفع، وتجهران بتجاوزات الكيان الصهيوني. وهذا الخلل في الفكر العربي، والاعتماد على حليف دولي أمريكي، والبعد عن إقامة تحالفات أخرى مع دول عظمي مثل الصين والهند وروسيا، وتحسين العلاقات مع الحليف الإقليمي تركيا، إيران هو سبب تراجع العرب، وتشديد القبضة عليهم، وبالتالي بعدهم عن القضية الرئيسية وهي القضية الفلسطينية.
  • عدم وجود تمويل كافٍ لدعم أهالي القدس في التصدي للمحاولات الصهيونية المستمرة لتهويد وتهجير كل ما هو فلسطيني، حيث تقوم العصابات الصهيونية يوميًا بهدم بيوت الفلسطينيين، ثم لا يجدون من يعاونهم على إعادة بنائها، فيقوم الكيان بمصادرة الأرض. ويأتي بمهاجرين يهود ليسكنوا هذه الأرض بعد بنائها. فأين العرب من الحفاظ على الوجود الفلسطيني الداخلي للحفاظ على التوازن الديموجرافي في فلسطين؟
  • السياسات الإسرائيلية الرامية إلى إخراج فكرة يهودية الدولة إلى حيز الوجود من خلال إصدار رزمة من القوانين العنصرية الجائرة التي سلبت فلسطينية الدولة لصالح يهودية الكيان.
  • فجرت الثورات المضادة الخلافات السياسية الداخلية، وكشفت التباينات الاجتماعية والعرقية والدينية، مما هيأ الظروف لبقايا الأنظمة السابقة وبعض القوى الدولية لممارسة نشاطها وتأثيرها على مجريات المشهد السياسي.

مستقبل القضية الفلسطينية في ظل الأوضاع الحالية

6

أدت الأسباب السابقة إلى استرخاء الكيان الصهيوني سبعة وستين عامًا بلا منازع، واعتقد الكيان أن الثورات العربية سوف تؤدي إلى كتابة كلمة النهاية في عمره، ولكن ما حدث العكس تمامًا حتى الآن.

فأصبح الكيان يعلن صراحة أنه لا وجود لدولة فلسطينية، وهو الشعار الذي ساهم في بقاء نتنياهو في الحكم لفترة رابعة لأول مرة في تاريخ هذا الكيان العنصري.

وكما صرح معظم وزراء الصهاينة، ومنهم وزيرة العدل في هذه الحكومة “إياليت شاكيد” التي دعت صراحة إلى إبادة الشعب الفلسطيني، ووصفت الفلسطينيين بالأفاعي، وطالبت بقتل نسائهم حتى لا يلدن أفاعيَ صغيرة، وكذلك “نفتالي بينيت” الذي دعا لقتل الفلسطينيين، وقطع رؤوسهم بالفأس، وعدد من الوزراء وقادة هذا الكيان، فلا يوجد دليل أقوى من هذه التصريحات للحكومة الجديدة التي أيدها الواقع من خلال اعترافات الجنود الصهاينة لمنظمة “كسر الصمت”، وتقرير منظمة “بتسيلم” الذي تضمن التوجه والفكر الصهيوني تجاه الشعب الفلسطيني، لنعلم مدى تراجع القضية الفلسطينية في الوقت الحالي.

ونتيجة للوضع العربي الحالي المفكك لا يمكن أن ينتهي الاحتلال دون الاتحاد العربي والإسلامي الذي يواجه حاليًا أشرس حرب عالمية تشن ضد العرب والمسلمين، وتشويه المقاومة المسلحة، وإلصاق التهم المختلفة بها، وتمجيد التفاوض والمفاوضات والتنازلات التي لم تسفر إلا عن مزيد من التدهور في القضية الفلسطينية.

وما يلفت النظر هو أن الأكثر تأثيرا على القضية الفلسطينية، وتصديًا لها هي القوى والمؤسسات الإسلامية العربية المعتدلة.

إن التطورات التاريخية أصبحت أسرع من أن يتم رصدها لا التفكر فيها وتحليلها. يوميًا تستيقظ الأمة العربية على دماء عربية تُسال في كل مكان، وتدمير دول، وتهجير الأمم العربية بالكامل. ولا مجال لالتقاط الأنفاس، والاجتماع على موقف عربي قومي موحد.

وينتظر الفلسطينيون، على اختلاف انتماءاتهم وأطيافهم السياسية، تحالفًا قوميًا عربيًا صادقًا يقلب الموازين والحسابات الصهيونية والأمريكية، ويعلن ساعة المواجهة الشاملة لتحرير فلسطين، وتحرير العرب من تبعية الغرب، وإلى أن يأتي هذا اليوم كم سيتبقى من العرب، وتاريخهم، ودولهم، وماضيهم، وحاضرهم في ظل هذا التهجير، والقتل لكل ما هو عربي مسلم؟

وبعد أكثر من أربع سنوات في ظل فوضى الثورات، والتحالفات، لم نعد نسأل أين فلسطين اليوم؟ وأين القضية في أجندات النُظم العربية؟ بل نسأل أين الأمة العربية ؟! ومتى تتحرر من التبعية والاحتلال الأمريكي، وتتم الوحدة العربية لكي نتمكن عن البحث عما سيتبقى من فلسطين التاريخية.