عندما بدأت الحرب الأهلية اللبنانية منتصف السبعينيات، كان العنوان الرئيسي للاقتتال اللبناني–اللبناني بعيدًا عن العامل الفلسطيني هو الخلاف حول أولوية الأمن على الإصلاح أم أولوية الإصلاحات السياسية كمدخل لإحداث التوازن الاجتماعي والاقتصادي والأمن تاليًا، فبينما طالبت قوى اليسار بالبدء في الإصلاح بشكل فوري، تمسكت قوى اليمين بفرض الأمن أولًا واستعادة هيبة الدولة.


الدولة

الحق أن قسمًا كبيرًا من اللبنانيين أرادوا للبنان أن ينخرط بكل مقدراته في الصراعات العربية مع الغرب ومع إسرائيل، في مواجهة قوى الانعزال المتذمرة من تحميل لبنان ما لا ذنب له فيه من صراع الفلسطينيين مع إسرائيل وما يجره على البلد من ويلات.ومرة أخرى فرضت طبائع الأمور أن يكون معسكر اليسار/القوميين، الذي نظم صفوفه تحت اسم (الحركة الوطنية اللبنانية)، بزعامة «كمال جنبلاط»، زعيم الدروز والحزب التقدمي الاشتراكي، هو المؤيد لتحمل لبنان نصيبه من الصراع تأييدًا للثورة الفلسطينية والعمل الفدائي، في حين انحاز معسكر المسيحيين/اليمين/الوطنيين، الذي اصطف تحت اسم (الجبهة اللبنانية)، بزعامة «كميل شمعون»، الرئيس الأسبق وزعيم حزب الوطنيين الأحرار، انحاز لفكرة الانعزال.

لم يكن أمام الفلسطينيين ترف البقاء في لبنان دون دفع ثمن الغطاء الشرعي الذي وفرته لهم الحركة الوطنية، أو ترف مراقبة الصراع اللبناني دون التورط فيه

وفي حين تمتعت الجبهة اللبنانية وميليشياتها (القوات اللبنانية) بقدر كبير من النقاء الطائفي المسيحي، كانت الحركة الوطنية وميليشياتها (القوات المشتركة اللبنانية الفلسطينية) تضم خليطًا من المسلمين والمسيحيين، وإن كانت تربأ عن الطائفية وتعتنق نسقًا قيميًا وسياسيًا علمانيًا ذا صبغة يسارية غالبة.من جانب آخر، أرادت القوى الوطنية/اليسار اللبناني بالمقابل من الفلسطيني دعمًا عمليًا على الأرض، بالتسليح والتدريب والإسناد القتالي في المعارك المقبلة حتمًا مع قوى اليمين المسلحة، ومع الدولة بما هي تعبير صريح عن السيادة اليمينية المسيحية المارونية الرأسمالية، وما يتبعها من قوى الأمن والجيش.وفي حقيقة الأمر لم يكن هناك أمام الفلسطينيين متسع كبير لرفض هذا العرض، ولم يكن أمامهم ترف البقاء في لبنان دون دفع ثمن الغطاء الشرعي الذي وفرته لهم الحركة الوطنية، أو ترف مراقبة الصراع اللبناني – اللبناني من بعيد والعزوف عن التورط فيه.لكن الانجراف وراء معسكر الحركة الوطنية كان يقتضي التضحية بوضع لبنان كدولة، وتحويلها إلى وظيفة استراتيجية باعتبارها المرتكز الجغرافي للثورة الفلسطينية، ونسيان أمر السيادة، وهو ما كانت الجبهة اللبنانية مستعدة لدفع أي ثمن للحيلولة دونه.بل إن «بيير الجميل»، مؤسس وزعيم حزب الكتائب الماروني جهر دون مواربة بالاستعداد للتحالف مع الشيطان من أجل منع الفلسطينيين من العصف بسيادة الدولة اللبنانية، التي نصب اليمين نفسه حاميًا لها، وبالواقع لم تكن هناك خيارات كثيرة لتفسير ما عناه الشيخ «بيير» بالشيطان، وكان الجميع يعي أنه يقصد إسرائيل بالتحديد [1].


التورط

في هذا الوقت من منتصف السبعينيات، وبعد الاستهداف الإسرائيلي لقيادات منظمة التحرير في عملية الفردان الشهيرة في أبريل/نيسان 1973، وتصريح الرئيس «سليمان فرنجية» بأن الدولة اللبنانية غير مسئولة عن حماية الفلسطينيين الذين يتحرشون بإسرائيل من الأراضي اللبنانية، استدعت قيادة المنظمة والفصائل الفلسطينية قسمًا كبيرًا من ميليشياتها المسلحة من القواعد الفدائية في الجنوب والمخيمات، وأقامت لهم تمركزات دائمة في المدن، بخلاف تمركزات ميليشيات اليسار اللبناني، التي تولت منظمة التحرير إمدادها بالسلاح والعتاد والتدريب.والحق أن منظمة التحرير في هذه المرحلة كانت تتوفر على موارد مالية هائلة، من منح البترودولار المتدفقة من الخليج اتقاءً لسلاطة لسان المنظمة وأذرعها الإعلامية، إلى المساعدات السوفيتية ومساعدات الجمهوريات العربية؛ الكل كان يمنح المنظمة ليشتري اسهما فيها ويحولها إلى ورقة ضغط.وبدورها، كانت المنظمة توظف هذه الموارد المالية بسخاء، وتضخها في الشارع اللبناني والأحزاب والصحف المستعدة للنطق باسمها، ومراكز الأبحاث والإذاعات، بل وتمول سهرات وحفلات في أفخم الفنادق والملاهي الليلية، وتجمع حولها ما تيسر من نجوم السياسة والصحافة والفن ومشاهير المجتمع اللبناني.وبالجملة نشأت حول مركز قيادة منظمة التحرير في حي الفكهاني ببيروت الغربية تكتلات من المنتفعين، والصارخين بملء الأفواه دعمًا للقضية، إما عن قناعة حقيقية مخلصة أو عن جشع مصلحي بحت، وأمام عين اليمين اللبناني الساخط راحت دولة الفكهاني تنمو بشكل سرطاني وتمتد أذرعها خارج المخيمات إلى المدن، متحولة إلى مركز نفوذ يناطح القصر الرئاسي نفسه في ضاحية بعبدا، ولم تبد على أحد الرغبة في التنبه إلى أن كارثة أيلول الأسود توشك أن تكرر نفسها على نحو أكثر مأساوية بكثير.


كرة الثلج على المنحدر

توالت النذر بانفجار الوضع اللبناني تباعًا، دون أن تدفع أحدًا للتروي أو إعادة النظر في المواقف، وفي صباح 13 أبريل/نيسان تعرض الشيخ «بيير الجميل» لمحاولة اغتيال فاشلة، بينما كان يشارك بافتتاح كنيسة سيدة الخلاص، أودت بحياة أحد مرافقيه، وعند الظهيرة قام مسلحون في منطقة عين الرمانة وسط بيروت بفتح النار على حافلة كانت تقل فلسطينيين عائدين من احتفال للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى مخيم تل الزعتر، وخلف الهجوم وراءه 26 قتيلًا فلسطينيًا.تبادل الفلسطينيون والكتائبيون الاتهامات بالمسئولية عن محاولة اغتيال الشيخ «بيير» وهجوم عين الرمانة. المهم أن هذا اليوم المشئوم يؤرخ باعتباره بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وبعده بدأت دائرة مفرغة لعينة من العمليات الثأرية بين الطرفين، بدت أشبه بكرة جليد على منحدر، يزداد حجمها وكتلتها وسرعتها، ولا شيء يبدو قادرًا على وقف اندفاعها.بدأ الفلسطينيون في تسيير دوريات مسلحة في شوارع بيروت، بما في ذلك معقل الكتائب في حي الأشرفية ببيروت الشرقية. انفلتت الأوضاع في الشارع وغذت الثارات بعضها، وإذ ارتكبت الكتائب مجزرة السبت الأسود في 6 ديسمبر/كانون الأول 1975 التي قتل الكتائبيون فيها عشرات المسلمين اللبنانيين والفلسطينيين، ردت القوات المشتركة بفتح حرب الفنادق وطرد الكتائبيين نهائيا من بيروت الغربية.وإذ هاجمت القوات اللبنانية منطقة الكرنتينا – المسلخ في بيروت الشرقية في 19 يناير/كانون الثاني 1976 ذابحة مئات اللبنانيين والفلسطينيين المسلمين، انقضت القوات المشتركة على بلدة الدامور المسيحية على طريق الجنوب ذابحة مئات المسيحيين.اكتسبت الحرب منذ بدايتها طابع الفرز المناطقي، فحرب الفنادق فتحتها القوات المشتركة ردًا على مجزرة السبت الأسود، ولكن الأهم لإنهاء تواجد الكتائب في لسان ممتد داخل بيروت الغربية، كما أن مجزرة الدامور ارتكبتها القوات المشتركة لتطهير جيب مسيحي يمكن أن يعوق الطريق بين بيروت ومعاقل الفدائيين الفلسطينيين في الجنوب.مخيم تل الزعتر أيضًا كان شوكة فلسطينية في بيروت الشرقية، منطقة السيطرة الكتائبية الرئيسية، ومن ثم كانت تصفيته مطلبًا مسيحيًا أساسيًا، وقد تعرض خلال الشهور الستة الأولى من عام 1976 لانقضاضات متكررة من ميليشيات الكتائب ونمور الأحرار والتنظيم ووحدات مسيحية من الجيش اللبناني الذي تفسخ طائفيًا، ثم حوصر بقسوة بدءًا من يونيو/حزيران واقتُحم في 14 أغسطس/آب 1976 بمباركة من دمشق.


الخطوط الحمر

بدأت دائرة مفرغة لعينة من العمليات الثأرية بين الطرفين، بدت أشبه بكرة جليد على منحدر، ولا شيء يبدو قادرًا على وقف اندفاعها.

بدعوة من الحركة الوطنية اللبنانية وزعيمها «كمال جنبلاط»، أرسلت دمشق وحدات من جيش التحرير الفلسطيني ومنظمة طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة) المرابطة على أراضيها، تضم في تشكيلها جنود سوريين، في محاولة لمنع الأمور من الانفلات أكثر من ذلك، ولعب دور الوسيط/المرجع بين طرفي الحرب.

كان «الأسد» يتخوف من أن يدفع الضغط العسكري للقوات المشتركة المسيحيين للجوء إلى إسرائيل والارتماء في أحضانها، فيخسر بذلك ورقة لبنان.

لم يبتلع الرئيس السوري «حافظ الأسد» قط استقلال لبنان، كما لم يبتلع قط مبدأ استقلال القرار الفلسطيني، وكانت رغبته عارمة في الإمساك بكلتا الورقتين – لبنان وفلسطين – في مناوراته مع إسرائيل والغرب، فلا تستقر تسوية نهائية للصراع في الشرق الأوسط إلا عبر إرضائه [2].من ثم لم يجد «الأسد» بدًا من التدخل عسكريًا في لبنان، ناويًا منع أي من طرفي الحرب من الحسم العسكري وإنزال هزيمة قاصمة بالطرف الآخر، كي تظل الأطراف كلها بحاجة إلى مرجعيته، ثم إن نقطة أخرى كانت تقلقه بشده وتبقي عينه مفتوحة على اتساعها صوب لبنان، وهي علاقة مسيحيي لبنان بإسرائيل.منذ البدايات المبكرة للحرب في أواسط 1975، بدأت اتصالات جس نبض بين الحزبين المارونيين الكبيرين؛ الكتائب والوطنيين الأحرار، من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، تسارعت وتصاعد مستواها حتى التقى الشيخان «كميل شمعون» و«بيير الجميل» برئيس الوزراء الإسرائيلي «إسحاق رابين» على متن زورق صواريخ إسرائيلي، عارضين التعاون وطالبين مساعدة عسكرية لم تبخل بها إسرائيل [3].وفي أواسط 1976، بدا معسكر القوات المشتركة على وشك الحسم العسكري ضد المسيحيين في معقلهم الرئيسي بجبل لبنان، وهنا كانت الجبهة اللبنانية هي التي طلبت من «الأسد» التدخل مباشرة ولجم القوات المشتركة، فدخل الجيش السوري لبنان في أول يونيو/حزيران، واشتبك في عدة مواقع مع الفلسطينيين وميليشيات اليسار اللبناني، وشارك في حصار مخيم تل الزعتر.كان «الأسد» يتخوف من أن يدفع الضغط العسكري للقوات المشتركة اليمين اللبناني الحاكم للجوء إلى إسرائيل والارتماء في أحضانها، فيخسر بذلك ورقة لبنان، لكن بسبب الطبيعة شديدة التعقيد للحرب اللبنانية والهدف الصعب لتدخله؛ أي حرمان أي طرف من الحسم العسكري، لم تستقر تحالفات جيشه داخل لبنان.على أن ما أثار الاستغراب آنذاك هو موقف الولايات المتحدة وإسرائيل من الدخول العسكري السوري المباشر في لبنان، فبدلًا من معارضته كما كان يُفترض، وجدتا فيه فرصة لتحجيم النفوذ الفلسطيني في لبنان. وعبر واشنطن، أملت تل أبيب على «الأسد» اتفاقًا شفهيًا عرف باتفاق الخطوط الحمر، قضى بألا يتقدم الجيش السوري جنوب طريق بيروت دمشق بأكثر من عشرة كيلومترات، وألا يُدخل بطاريات صواريخ أرض – جو إلى لبنان [4].عندما أعلن الرئيس المصري «أنور السادات» نيته زيارة القدس في سبتمبر/أيلول 1977، انقلبت الأمور رأسًا على عقب في لبنان، إذ اصطفت منظمة التحرير مع دمشق وأطراف عربية أخرى في جبهة واحدة لرفض تحرك السادات التسووي، وأدى ذلك إلى تقارب على الأرض بين الجيش السوري والقوات المشتركة، مما كان يعني عمليًا انقلابًا سوريًا على حماية الجبهة اللبنانية.وفي مارس/آذار 1978، اجتاح الجيش الإسرائيلي جنوبي لبنان، بغرض إزالة قواعد الفدائيين الفلسطينيين، وتطهير منطقة جنوب نهر الليطاني حتى الحدود الإسرائيلية من الوجود العسكري الفلسطيني، ثم انسحب بعد أيام تاركًا وراءه شريطًا عازلًا في حماية الميليشيا العميلة؛ جيش لبنان الجنوبي بقيادة الرائد سعد حداد [7].غير أن الوجود الفلسطيني السياسي والعسكري في لبنان كان على موعد آخر مع ضربة إسرائيلية أخرى، قاصمة وحاسمة هذه المرة، في يونيو/حزيران 1982، وضعت كلمة النهاية لفصل صدامي ودام في العلاقات الفلسطينية اللبنانية، وأزاحت الستار عن فصل آخر لا يقل دموية.

المراجع
  1. محمد حسنين هيكل، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل – الجزء الثالث (سلام الأوهام..أوسلو ماقبلها وما بعدها)، دار الشروق، القاهرة، 1996.
  2. حازم صاغية، البعث السوري..تاريخ موجز، دار الساقي، بيروت، 2012.
  3. آلان مينارج، أسرار حرب لبنان (الجزء الأول – من انقلاب بشير الجميل إلى مجازر المخيمات الفلسطينية)، المكتبة الدولية، بيروت، 2009.
  4. آلان مينارج، المرجع السابق.