إن مبدأ الهوية الماهوية هو الأصل الأنطولوجي لمفهوم الحاكمية عند سيد قطب، وما يترتب عنه حاليا من عنف جهادي ورفض للآخر. هذا الرفض ليس وليد «معالم في الطريق» أو المرحلة السجنية أو التأثر بالمودودي، بل يعود إلى فترة ما قبل السفر إلى أمريكا. لقد جعل قطب من الهوية الماهوية، هوية ثابتة «للنحن» الإسلاموية، هوية جامعة ممانعة لكل المشاريع السياسية المخالفة للمشروع الهوياتي الإسلامي، وممانعة للاستشراق الغربي باستشراق إسلاموي. إذا ارتبط العنف ورفض الآخر بمفهوم الحاكمية، وهذا الأخير بسيد قطب، فإن راديكالية قطب قد أنجبتها المعارك الأدبية «العُكاظية» التي دارت رحاها بين قبائل الأدباء والمثقفين آنذاك على صفحات الجرائد وما زالت رحاها دائرة إلى اليوم بعد أن انضافت إليها فيال الفنانين والفنانات وأصبح مسرحها شاشات العالم العربي. إن العصب الذي غذى الراديكالية ما زال هو: القبلية الفكرية التي تقوم على مبدأ الهوية الماهوية.

إن الهوية الماهوية الثابتة ليست إلا الهوية بالمفهوم الأرسطي، أي الجوهر الثابت الذي لا يتغير بتغير المتغيرات [أ = أ]، وماهية الموجودات التي لا تتغير بتغير الأعراض. فالهوية الأرسطية تظل مطابقة لذاتها رغم صيرورة التطور الجدلي في مقابل الهوية-الآخر التي تظل بدورها ثابتة ومطابقة لذاتها. فالاختلاف لا ينخر كل منهما من الداخل بل يمايزهما ويفصلهما عن بعضهما البعض.

ظهر مفهوم الهوية الماهوية مأصلا في «مهمة الشاعر في الحياة» منذ 1932م، حيث تمظهر من خلال مفهوم قطب عن الشاعر والشعر. فالشاعر هوية مختلفة مفارقة لباقي هويات الأفراد: أولا، لأن «إحساسه بالحياة أدق وأعمق من إحساس الجماهير … مميزا عن إحساس كل الآخرين»[1]. وثانيا، لأنه «يعبر عما يحسه تعبيرا أسمى من تعابير الجمهور»[2]. وثالثا، لأنه «ينغمس في الحياة، يحس بإحساسها، ويشعر بشعورها، ويتفاعل وإياها، ثم يتحدث عنها بما يحس، أو بما تريد هي أن تحدث عن نفسها»[3]، وعليه فالشاعر هو الواسطة بين الإنسان والوجود. تتمثل هوية الشاعر في إحساسه بحقيقة الكون والإنسان والعالم، فهو «أعرف بالحقيقة من غيره[4].

ميز قطب بين هويتين: الهوية الشاعرة، والهوية غير الشاعرة (الإنسان العادي)، ثم فصل الهوية الشاعرة إلى هويتين: الهوية الصادقة والهوية المزيفة[5]. فالهوية الشعرية الصادقة وحدها القادرة على بلوغ حقيقة الوجود ونقلها للآخرين، فالشاعر «صاغته الحياة ليكون واسطة بينها وبين أبنائها الآخرين»[6]، بينما الهوية المزيفة، هوية الشعراء المزيفين والمرتزقة، شعراء البلاط، لا يعبر شعرها عن أحاسيسها الصادقة وأخيلتها المتناسقة، حيث «ترى لهؤلاء الشعراء في كل يوم قصيدة رثاء لمن يعرفون ومن لا يعرفون، ومديحا لمن خبروا ومن لم يختبروا، وقصائد كل حفلة تقام للوداع أو للتكريم، وزلفى حقيرة للرؤساء وغير الرؤساء تعد وصمة في جبين الإنسانية المنكوبة بتلك الجراثيم … هذه الطائفة الأخيرة التي تتحدث لا عن شعور، وتنشد لا عن عاطفة، وتهد نفسها من الشعراء وهي محرومة من صفات الآدميين»[7]. جرد قطب شعراء الأحاسيس «المزيفة» من الهوية الشعرية، ومن الهوية الآدمية، ونزل بهم إلى الهوية الجرثومية! إذا ما بحثنا في «مهمة الشاعر في الحياة» عن أسماء هؤلاء الشعراء المزيفين، سنجد على رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم؛ إنهم شعراء مدرسة البعث والإحياء الكلاسيكية.

إن الهوية الشعرية القطبية تقوم على الإحساس بوحدة الكون، بحيث تتوحد الذات الشعرية بالوجود، والصور الشعرية ما هي إلا تعبير عن هذه الوحدة. لقد ربط قطب الأرض بالسماء من خلال الهوية الشعرية كما سيربطها لا حقا من خلال الهوية المسلمة والعصبة المؤمنة. وإذا كانت الصور الشعرية هي القناة الرابطة بين الإنسان والكون، فإن الحاكمية/الشريعة هي القناة الرابطة بين الإنسان والألوهية.

لقد تمثلت وحدة الوجود في وحدة النص الشعري -وحدة الصور والأخيلة- كما تجسدت الألوهية في وحدة النص القرآني. إن سيد لا يرى «في الخيال سموًّا، إلا إذا كان كل جزء منه مكملا للآخر، بحيث تكون أخيلة القصيدة جميعها متناسقة، والظل الذي تطبعه الصورة المتخيلة ظلا كاملا، متلائم الأجزاء، لا نتوء فيه ولا يتفق وطبيعة الجمال. الجمال لا يعترف بالأجزاء، بل ولا أتصور وجوده في الأجزاء كل على حدة، فالجمال تناسق الأعضاء أو هو قوة تنتج عن هذا التناسق»[8].

في «معالم في الطريق»، قسَّم سيد قطب المجتمعات القائمة إلى مجتمعين متناقضين ومتنافرين: مجتمع إسلامي متحضر، ومجتمع جاهلي متخلف. فالإسلام «لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات … مجتمع إسلامي، ومجتمع جاهلي»[9]. فالمجتمع المتحضر هو «الذي يطبَّق فيه الإسلام … عقيدة وعبادة، وشريعة ونظاما، وخلقا وسلوكا…»[10]. أما المجتمع الجاهلي المتخلف فهو «المجتمع الذي لا يطبق فيه الإسلام، ولا تحكمه عقيدته وتصوراته، وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه»[11]، إنه ذلك المجتمع الذي يعلي من شأن المادة، «سواء في صورة النظرية كما في التفسير الماركسي للتاريخ! أو في صورة الإنتاج المادي كما في أمريكا وأوروبا»[12]. وعليه، لا يعد مجتمعا إسلاميا ولا متحضرا، ذلك الذي «يضم ناسا ممن يسمون أنفسهم (مسلمين)، بينما شريعة الإسلام ليست هي قانون هذا المجتمع، وإن صلَّى وصام وحجَّ البيت الحرام! وليس المجتمع الإسلامي هو الذي يبتدع لنفسه إسلاما من عند نفسه -غير ما قرره الله سبحانه، وفصَّله رسوله صلى الله عليه وسلم- ويسميه مثلا: الإسلام المتطوّر»[13].

فالشريعة إذن ليست فقط مجموع القوانين التي تنظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل تمثل أيضا منظومة القيم والأخلاق والثقافة والمعرفة والتمثلات العقدية. إنها بحسب التصور القطبي، نموذج كلي أو براديغم يؤطر مفهوم الإنسان والمجتمع والعالم والكون، ويؤسس لفعل الاجتماعي والسياسي والثقافي والأخلاقي والتاريخي والمعرفي، يقوم مصدره «خارج النطاق الأرضي، ومن خارج المحيط البشري»[14]. إنه الله، الذي خلق كل شيء، وضع «تصورا خاصا للوجود والحياة والتاريخ والعادات والغايات … ومنهجا للعمل»[15].

سلَّم سيد قطب بوحدة الإنسانية وانصهارها في بوتقة العقيدة، وعليه فقد خلُص إلى أن الإنسانية رغم اختلافها على مستوى الشكل، فهي تظل في جوهرها هوية لا ينخرها التعدد والاختلاف، لأنها تقوم على عقيدة واحدة لا ينخرها الاختلاف ولا تخضع لتعدد القراءات والممارسات التاريخية. فالعقيدة تنظم الإنسانية داخل المجتمعات، وتعدُّد هذه المجتمعات لا يجب أن يفهم بمعنى الاختلاف والتناقض، وإنما بمعنى تعدد التطابق. فالمجتمعات الإسلامية تظل هي هي نفسها، متطابقة على مستوى الجوهر، وإن اختلفت على مستوى الشكل. والجوهر هنا بمعناه الأرسطي، أي كهوية مغلقة لا تقبل الاختلاف داخلها، [أ = أ]، و [أ] لا تقبل بوجود مختلف عنها [ب]، ولا بنقيض [-أ] بداخلها.

يؤكد سيد قطب أن «المجتمع الإسلامي إذن من ناحية شكله وحجمه ونوع الحياة السائدة فيه ليس صورة تاريخية ثابتة. وحين نقول: تاريخية، لا نعني إلا أن هذه القيم قد عُرفت في تاريخ معين، وإلا فهي ليست من صنع التاريخ، ولا علاقة لها بالزمن في طبيعته، إنها حقيقة جاءت للبشرية من مصدر رباني، من وراء واقع البشر، من وراء الوجود المادي»[16]. إن هوية المجتمع الإسلامي القطبي هوية أرسطية ثابتة ومتعالية، لا تخضع لقانون التطور التاريخي الديالكتيكي، ولا لتغيرات الشروط الموضوعية والذاتية المكونة لهذه الهوية؛ إنها هوية قبلية تستمد وجودها من وحدة الذات الإلهية لتمانع الشريعة الحيوانية المادية الوضعية[17]. وبما أن مصدر الشريعة متعالي وترنسدنتالي ولا يخضع لقانون التبدل والتغير، فإن كل ما يصدر عنه بالضرورة من شرائع هو ثابت وغير متحول.

لقد استخلص قطب من مقدمة أن «الله ثابت لا يتغير»، خلاصة أن «الشريعة ثابتة لا تتغير». وهذه خلاصة غير سليمة المنطق. فإذا كانت الذات الإلهية ثابتة، فإن كل ما يتعلق بها ثابت بالضرورة. وإذا كانت المخلوقات الإلهية متحوِّلة ومتغيرة وفانية، فإن كل ما يخصها متغير وفانٍ: «كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام» (الرحمن: 26، 27). وبما أن الشريعة تخص المخلوقات الإلهية وليس الذات الإلهية، فإنها متغيرة بالضرورة. استخدم سيد قطب المنهج الجدلي السوفسطائي البلاغي، ليستخلص من مقدمة صحيحة: «ثبات الذات الإلهية»، استنتاجا خاطئا: «ثبات الشأن الإنساني». لكن هذا الاستدلال يسقط أمام أبسط قواعد الاستدلال البرهاني العقلاني.

قادت الهوية الماهوية الفكر القطبي منذ بداياته، من الهوية الشعرية إلى الهوية الإسلامية، وهاجس الوحدة والتطابق، إلى رفض الآخر والجهاد ضده. غرض الجهاد فرض الحاكمية الإلهية على كل الهويات التي تقع خارج الهوية الإسلاموية الافتراضية، هوية الإخوان المسلمين، التي اعتبرها التجسيد الفعلي لمبدأ العبودية.

أيضا لم ير قطب في الغرب غير وجهه الاستعماري والإمبريالي، ولم يسعه أن يرى وجهه التنويري الإنساني. لقد نظر إليه كوحدة متطابقة ومنسجمة وليس كهوية ديالكتيكية ينخرها التعدد والاختلاف. ولهذا تمسَّك بالهوية الافتراضية، العصبة المؤمنة، كقاطرة لاستنهاض الذات العربية الضعيفة وتوحيدها داخل مشروع هوياتي ديني ممانع للمشروع القومي التقسيمي الذي وضعته القوى الاستعمارية خلال سايكس بيكو.


[1] سيد قطب، مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الحاضر، ص14.[2] نفسه، ص14.[3] نفسه، ص13.[4] نفسه، ص13.[5] سيد قطب، مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الحاضر، فصل: من هو الشاعر؟، فصل: الشاعر والمصور، فصل: الشاعر والفيلسوف، فصل: شخصية الشاعر، فصل: الشعراء المزيفون وشعراء العاطفة.[6] نفسه، ص14.[7] نفسه، ص76-77.[8] سيد قطب، معالم في الطريق، ص105.[9] نفسه، ص105.[10] نفسه، ص105.[11] نفسه، ص105.[12] نفسه، ص110.[13] نفسه، ص105.[14] نفسه، ص117.[15] نفسه، ص117.[16] نفسه، ص 120. انطر أيضا ص52.[17] نفسه، ص111.