لا تكاد تجد في تاريخنا الإسلامي صورة واضحة عن تبدُّل السلطان، وجريان سنة الله التي لا تتبدل في خلقه، من القوة إلى الضعف، ومن العز إلى الذل، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الكرامة إلى الهوان، مثلما تجدها في قصتنا هذه. فهناك، وعلى مقربة من العاصمة المغربية مَرَّاكُش، وجد الملك نفسه، بعدما أطيح به من عرش إشبيلية، أسيرًا غريبًا في قلعة أغمات، يقاسي الاعتقال والأغلال والذل. ولم يكن صاحب نكبته سوى أمير المرابطين يوسف بن تاشفين. قضى الملك أربع سنوات أسيرًا، في محنة خلَّدها بشعره، وتناقلتها الأجيال جيلًا بعد آخر. إنها محنة المعتمد بن عباد إحدى أروع المآسي الملوكية في التاريخ.


من هو المعتمد بن عباد؟

هو أبو القاسم المعتمد على الله محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل اللخمي، صاحب إشبيلية وقرطبة وما حولهما من ممالك الطوائف، وأحد أفراد الدهر شجاعة وحزمًا وضبطًا للأمور. ولد في باجة الأندلس سنة 431هـ/ 1040م، ووُلِّي إشبيلية بعد وفاة أبيه المعتضد سنة 461هـ / 1069م، وامتلك قرطبة، واتسع سلطانه إلى أن بلغ مدينة مُرْسِيَة، وأصبح محط الرِّحال، يقصده العلماء والشعراء والأمراء، وما اجتمع في باب أحد من ملوك عصره من طوائف الأندلس ما كان يجتمع في بابه من أعيان الأدب.

وكان فصيحًا شاعرًا وكاتبًا مترسِّلًا، بديع التوقيع، ولم يزَل في صفاء ودِعَّة إلى سنة 478هـ / 1085م، وفيها استولى ملك الروم ألفونس السادس على طُلَيْطِلَة، وكانت ملوك الطوائف وكبيرهم المعتمد بن عباد، يؤدون لألفونسو ضريبة سنوية، فلمَّا ردَّ ملك طُلَيطِلة ضريبة المعتمد، وأرسل إليه يهدِّده ويدعوه إلى النُّزول له عما في يده من الحصون. فكتب المعتمد إلى أمير المرابطين يوسف بن تاشفين يستنجده، وإلى ملوك الأندلس يستثير عزائمهم.

ولم يكن الاستنجاد بالمرابطين هيِّنًا على المعتمد بن عباد. فقد كان الرجل يعلم حقَّ العلم، أنه بهذه الخطوة يغامر بعرشه ومدينته. لكنه حزم أمره، وواجه معارضة حاشيته بصرامة، أنَّ: “رعى الجمال خير من رعى الخنازير”. يقصِد بذلك أنه يفضِّل أن يغدو أسيرًا لدى يوسف بن تاشفين، يرعى جماله، على أن يغدو أسيرًا لدى ألفونسو يرعى خنازيره.

ونشبت سنة 479هـ / 1086م المعركة المعروفة بوقعة الزلاقة، فانهزم ألفونسو بعد أن أُبيد أكثر عساكره. وشُهِد للمعتمد فيها بالشجاعة والإقدام. ثم إن ابن تاشفين عبَر للأندلس مرة ثانية لنجدة مدن الشرق الأندلسي، ثم إن ملوك الطوائف عادوا إلى سابق عهدهم ووالـوا النَّصارى من جديد، فكان هذا العمل بمثابة الانتحار السياسي، والذي اتخذه العلماء والفقهاء حجةً ودليلًا قويًا لإصدار فتوى تبيح لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين القضاء عليهم نهائيًّا. فكان العبور الثالث للمرابطين سنة 482هـ / 1089م، حيث شرع ابن تاشفين في الإطاحة بهم واحدا تلو الآخر. فقد ثارت فتنة في قرطبة سنة 483هـ / 1090م قُتل فيها المأمون ابن المعتمد، وفتنة ثانية في إشبيلية، ظهر من ورائها جيش يقوده سير بن أبي بكر المرابطي من قواد جيش ابن تاشفين.

وحوصر المعتمد في إشبيلية، قال ابن خلكان: “وظهر من مصابرة المعتمد وشدة بأسه وتراميه على الموت بنفسه ما لم يسمع بمثله”، واستولى الفزع على أهل إشبيلية وتفرَّقت جموع المعتمد، وقبض المرابطون على ولديه الراضي بالله والمعتد بالله وكانا في رُنْدَة ومارْتلة، فقتلوهما غيلة وغدرا، ففتّ في عضد المعتمد، وأدركته الخيل، فدخل القصر، مستسلما للأسر سنة 484هـ / 1091م، وحُمل مقيَّدًا، مع أهله، على سفينة. وأُدخل على ابن تاشفين في مراكش، فأمر بإرساله ومن معه إلى أغمات.


المعتمد الملك الأسير

إن هذه المرحلة الأخيرة من حياة المعتمد، وهي مرحلة مؤسية تنفطر لها القلوب الكريمة، تنتمي إلى الأدب أكثر من انتمائها إلى التاريخ، بما تحفل به من الآثار الشعرية الرائعة، التي نظمها المعتمد عن محنته وآلامه في المنفى. وقد شغلت هذه المرحلة على قِصَرِها، من صحف التاريخ والأدب، فراغًا كبيرًا لم تشغل مثله حياة المعتمد الملوكية كلها.

على أنه لم يكن سقوط إشبيلية، وسقوط المعتمد وآله أسرى في أيدي الظافرين خاتمة المحنة، بل كان بداية محنة أفظع وأبلغ إيلامًا للنفس، هي محنة الاعتقال والأغلال والذل والمنفى المروع. وكان أمير المسلمين قد قرر مصير بني عباد، كما قرر مصير عبد الله وأخيه تميم صاحبي غرناطة ومالقة، وقد قتل المرابطون من أبناء المعتمد أربعة، هم الفتح المأمون، ويزيد الراضي، والمعتد بالله، ومالك، ولكنهم أبقوا على حياة المعتمد، وذلك فيما يبدو بإشارة أمير المسلمين ذاته، ربما أراد بذلك، أن يتجرع المعتمد كأس الذِّلة إلى نهايتها، وأن يمرغ في التراب، ذلك الذي كان يعتبره قطب الفتنة في الأندلس، وحليف النصارى الخانع، المذنب في حق دينه ووطنه. وأن يذيقه من العذاب المعنوي أروع ألوانه.

وهكذا انتُزِع المعتمد بن عباد وآله من قصر إشبيلية المنيف، وأُخِذُوا جميعًا إلى السُّفن التي أُعدَّت لنقلهم إلى المنفى، وسارت السفن من إشبيلية في نهر الوادي الكبير في طريقها إلى العُدوة، في مناظر تذيب القلب حزنًا وأسى، وضجَّت جموع الشعب الغفيرة التي احتشدت على ضفتي النهر لوداع المعتمد بالبكاء والنواح حينما شهدت سيدها وراعيها بالأمس تحيق به وجميع آله، أغلال الاعتقال والذلة، ويغادر موطن سلطانه وعزه إلى مصيره المجهول. وفي ذلك يقول شاعر المعتمد أبو بكر بن اللبانة، وقد كان من شهود ذلك اليوم من قصيدة طويلة:

تبكـــــي السماء بمزن رائح غادِ *** عــلى البهاليل مـــــــــــن أبناء عبّادِ نســـيت إلا غداة النهر كونهم *** فـــــــــي المنشآت كأموات بألـــــــــــحاد حان الوداع فضجت كل صارخة *** وصارخ مــــــــن مفداة ومـــــــــــــن فادى سارت سفائنهم والنوح يتبعها *** كأنها إبــــــــــــل يحدو بهــــــــــــــــتا الحادي كم سال في الماء من دمع وكم حملت *** تلك القطائع من قطعات أكباد

طنجة المحطة الأولى من المنفى

وكانت طنجة المحطة الأولى في منفى المعتمد بن عباد. وصلها وقلبه يتفطَّر حزنا وكمدا، بعدما ضاع مُلكه وتشتَّت أهله، وتجرَّع مرارة الثَّكل في أربعة من أبنائه الذين سقطوا دفاعا عن حوزتهم. مكث أسيرًا مدة يسيرة في طنجة، تهافت عليه خلالها الشعراء، كما كانوا يتهافتون على بلاطه في إشبيلية، وألحُّوا عليه بالسؤال وهو الأسير المعدم. فنظم شعرا يقول فيه إنه أحق بالسؤال لولا أنَّ الحياء والعزة يمنعانه من ذلك. قال المعتمد:

شعراء طنجة كلهــم والمغـرب *** ذهبوا من الأغراب أبعد مذهـب سألوا العسير من الأسير وإنه *** بسؤالهم لأحــق منهم فأعـــجب لـولا الحـياء وعـــــزة لخمـــــية *** طي الحشا لحكاهـم في المطلب

وكان من بين هؤلاء الشعراء أبو الحسن بن عبد الغني الفهري المعروف بالحصري الضرير، وقد ألحف في طلب الصلة، ورفع إليه أبياتًا مدحه فيها ولم يراع في ذلك حرج الموقف. وأبت على المعتمد أريحيته الملوكية أن يرده، فبعث إليه بستة وثلاثين مثقالا، وشعرًا يعتذر فيه عن ضآلة الهبة، فكانت آخر صلاته الملوكية.


إلى قلعة فازار بالأطلس المتوسط ومنها إلى مكناسة

من طنجة انتقل المعتمد إلى قلعة فازار بالأطلس المتوسط، ولعل ابن تاشفين كان له رأي في ذلك ثم عدل عنه. ثم صدرت الأوامر بتوجهه إلى مكناسة، وهناك التقوا بعبد الله بن بلقين وأخيه تميم، وكانا ينتظران أمر السفر إلى مقرهما الأخير، وهنالك قضيا بضعة أشهر، قبل أن يرسلوا إلى مقرهم النهائي. وقد مكث المعتمد في مكناسة عدة شهور كما يقول المراكشي، ويظهر أن السبب في تأخير تقرير مصير ملوك الطوائف كان يرجع إلى عملية التصفية التي يقوم بها القواد المرابطون في الأندلس.


المنفى في أغمات

وأخيرًا صدر الأمر بتسييرهم جميعًا إلى أغمات، وهي مدينة صغيرة حصينة تقع على قيد نحو أربعين كيلومترًا من جنوب شرقي مراكش، على مقربة من جبال الأطلس، التي تظلل آكامها الثلوج. وقد كانت عاصمة المرابطين الأولى. وحل المعتمد وآله في أغمات في أواخر سنة 484هـ أو أوائل سنة 485هـ. وبينما أنزل عبد الله بن بلقين وأسرته دارًا حسنة وعوملوا برفق ورعاية، إذ زج المعتمد وآله إلى قلعة أغمات المنيعة. وهنالك قضى المعتمد بضعة أعوام في أغلال الأسر، يتجرع غصص المهانة والذلة. ولم يكن مقام المعتمد بأغمات معتقلا عاديًا، بل كان سجنًا شنيعًا بكل معاني الكلمة، ضُيِّق فيه على المعتمد وآله أشد التضييق، ولم يكن يطلق لهم ما يكفيهم من النفقة، فكان المعتمد، وزوجه اعتماد الرميكية التي كانت تسطع في الأندلس بجمالها وخلالها البارعة، وأبناؤه الأمراء وبناته الأقمار، يرتدون الثياب الخشنة. وكان بنات المعتمد يشتغلن بالغزل ليعُلْن والدهن وأسرتهن.


من أشعار المعتمد في الأسر والمنفى

وشعر المعتمد في هذه الحقبة من حياته شعر القلب المكلوم المفجوع، والجد العاثر، والجناح الكسير، غير أن ذلك لم يكن ليفقده عزة النفس وعلو الهمة. أزكت المحنة شاعرية المعتمد، وكان القريض عندئذ عزاءه وغذاءه الروحي، فصدرت عنه في معتقله طائفة كبيرة من القصائد المؤسية، وكلها تلهف على سابق مجده، وبكاء على ماضيه، ورثاء لمحنته، فمن ذلك قوله:

غريب بأرض المغربين أسير *** سيبكي عليه منبر وسرير وتندبه البيض الصوارم والقنا *** وينهل دمع بينهن غزير مضى زمن والملك مستأنس به *** وأصبح منه اليوم وهو نفور

وجاء يوم العيد، ودخلت عليه إحدى بناته في أطمار رثة، وقد صرن يغزلن للناس من أجل لقمة العيش، فرق لحالهن، وأنشد:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا *** فساءك العيد في أغمات مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعة *** يغزلن للناس ما يملكن قطميرا يطأن في الطين والأقدام حافية *** كأنها لم تطأ مسكًا وكافورا

ودخل عليه يوما ولده، وكان يسمى أبا هاشم، وهو في حالة الأسر والقيود آلمت قدميه. فلما رآه بكى وأنشد مناجيا قيده:

قَيْدي أما تَعْلَمُني مُسْلمًا *** أبيتَ أن تُشْفق أو تَرْحما دمي شرابٌ لك واللّحم قد *** أكلْتَه لا تهشم الأعظُما يُبصرني فيك أبو هاشمٍ *** فينثني والقلب قد هُشِّما

ووصلته في أسره قصيدة من بنته بثينة تطلب منه الموافقة على زواجها. وكانت بثينة هذه مثل أمها في الجمال والذكاء ونظم الشعر، فلما سقطت إشبيلية، بيعت في سوق الرقيق، فاشتراها تاجر على أنها سبية، لكنها امتنعت عليه إلا أن يتزوجها زواجا شرعيا يرتضيه والدها المعتمد. فكتبت إليه شعرا ترجو منه الموافقة على الزواج، فرد المعتمد موافقا بأبيات يقول فيها:


وفاة اعتماد الرميكية زوجة المعتمد

ولم يودع المعتمد راجفة ابنته بثينة، حتى استقبل رادفة زوجته اعتماد الرميكية، حيث اشتدت وطأة الأسر عليها، ولم تقو طويلا على مغالبة المحنة، فذوت نضارتها بسرعة ثم توفيت، فدفنت في ظاهر أغمات، على مقربة من معتقل زوجها وأولادها، فحزن المعتمد لوفاتها أيُّما حزن، واشتد به الضنى والأسى، وصار يستعجل الأيام، ويحث خطاها، ليأخذ مضجعه في التراب بإزائها، وقد أسعفه الدهر بهذه الأمنية فنام قرير العين بها.


وفاة المعتمد بن عباد

واستطال أسر المعتمد وسجنه حتى سنة 488هـ / 1095م، بيد أنه استطاع في غمر المحنة والبؤس الطاحن، أن يحتفظ بكثير من جلاله السابق، فكان هذا الجلال يشع في ظلمات سجنه، كما يشع ضوء الشمس إذا أحدق به الغمام. وفي أواخر أيامه صدرت أوامر أمير المسلمين بالتضييق عليه وتصفيده بالأغلال، بسبب ثورة محلية قام بها ولده عبد الجبار في بعض حصون إشبيلية، وكان ممن أفلت عند سقوطها. وفي اليوم الحادي عشر من شوال سنة 488هـ / أواخر أكتوبر 1095م، توفي المعتمد في سجنه بقلعة أغمات بعد اعتقال دام زهاء أربعة أعوام، وكان سنه عند وفاته سبعًا وخمسين سنة وبضعة أشهر. ودفن بظاهر أغمات إلى جانب زوجه اعتماد.

قال ابن خلكان: «ومن النادر الغريب، أنه نودي في جنازته بالصلاة على الغريب، بعد عظم سلطانه، وجلالة شأنه، فتبارك من له البقاء والعزة والكبرياء.»

ومما قاله المعتمد في رثاء نفسه قبل وفاته، وأوصى بأن يكتب على قبره:

قبر الغريب سقاك الرائح الغادي *** حقًا ظفـــــــــرت بأشلاء ابــــــــن عبــــــاد بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصلت *** بالخصيب إن أجدبوا بالــري للصادي بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا *** بالموت أحمر بالضرغامة العــــــــادي بالدهر في نقم بالبحر في نعم *** بالبدر فــــــــــــــــــــي ظلم بالصدر في النادي نعــــــم هو الحق حاباني به قدر *** مـــــــــــــــــن السمـــــــاء فوافاني لميعــــــــــــــــــــــاد ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه *** إن الجبال تهادى فــــــــــــــــتتوق أعـــــــــــــــــــواد كفاك فارفق بما استودعت من كرم *** رواك كــــــــــــل قطــــــــوب البرق رعــــــــــــــاد

هكذا اختتم المعتمد بن عباد حياته الباهرة، في غمر المحنة وظلمات العدم، وتفرق من بعده ولده وآله في مختلف الأنحاء. ولكن ذكراه لبثت طويلا حية في المغرب والأندلس، ولبثت محنته وخاتمته مضرب الأمثال في تقلب الجدود وعبر الدهور. وهكذا ودع المعتمد هذه الحياة بشرها وخيرها، ولسان حاله يكرر كلمته الشهيرة: “رعي الجمال خير من رعي الخنازير!”.


الأندلس تبكي المعتمد بن عباد

وأزكت مأساة بني عباد في الوقت نفسه دولة الشعر في الأندلس، ونظم أكابر شعراء العصر في رثاء دولتهم، والتوجع على أيامهم، طائفة من القصائد المؤثرة، التي ما زالت تحتفظ حتى اليوم بكل روعتها وحياتها. وكان أغزرهم في ذلك مادة، أبو بكر بن اللبانة، شاعر المعتمد، فقد بقي على صلاته ووفائه للمعتمد، وزاره في سجنه بأغمات، ونظم في دولته وأيامه، وفي محنته وأسره، عدة من قصائده الرنانة، يضمها كتاب وضعه في تاريخ بني عباد، وأسماه: “كتاب نظم السلوك في مواعظ الملوك”، وألف كتاب “سقيط الدرر ولقيط الزهر” في شعر ابن عباد.

وبعد وفاة المعتمد بقليل وفد على أغمات أبو بحر بن عبد الصمد، وقد كان من شعراء دولته وخاصة المتصلين به، وذهب يوم العيد إلى قبره فخر أمامه، وغمره بقبلاته وبلله بدموعه، وأنشد بين الجماهير التي احتشدت من حوله، مرثيته الغراء في المعتمد، ومطلعها هذه الأبيات:

ملك الملوك أسامع فأنادي *** أم قد عدتك عن السماع عواد لما خلت منك القصور ولم تكن *** فيها كما قد كنت في الأعياد أقبلت في هذا الثرى لك خاضعًا *** واتخذت قبرك موضع الإنشاد قد كنت أحسب أن تبرد أدمعي *** نيران حـــــــــــــــــــزن أضرمت بفؤادي فإذا بدمعي كلما أجريته *** زادت علــــــــــــــــى حــــــــــــــــــترارة الأكبــــــــــــــــــــــاد

فبكى الناس لسماعه أحرَّ بكاء، وهم يطوفون بالقبر طواف الحجيج، وكان منظرًا يفتت الأكباد.


على قبر المعتمد بن عباد

بثينتي كوني به برة *** قد قضى الدهر بإسعافه

وقد صارت أغمات في سنوات نفي المعتمد كعبة قصدها أهل الوفاء من شعرائه وأصدقائه، كما صار قبره فيما بعد مزار المعجبين بشعره وشخصيته. فقد أسبغت هذه البقعة التي يرقد فيها ملك إشبيلية، وأمير الشعر في عصره، رقدته الأبدية، شهرة مؤثرة على مدينة أغمات. ولما ذهبت دولة المرابطين بعد ذلك بنحو خمسين عامًا، غدا قبر المعتمد بن عباد وزوجه الرميكية في أغمات مزارًا يحج إليه الوافدون من أنحاء المغرب والأندلس، واستمر كذلك عصورًا، وإلى الآن.

فهذا الكاتب والشاعر الكبير الوزير لسان الدين ابن الخطيب زاره عند زيارته لمدينة أغمات، ففي كتابه “أعمال الأعلام” يصف لنا زيارته للقبر في تلك العبارات المؤثرة: “وهو بمقبرة أغمات في نشز من الأرض، وقد حفت به سدرة، وإلى جانبه قبر اعتماد حظيته، مولاة رميك، وعليها وحشة التغرب، ومعاناة الخمول بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتها”، وقد أنشد على القبر أبياتًا يقول فيها:

قد زرت قبرك عن طوع بأغمات *** رأيت ذلك من أولى المهمات ولمَ لا أزورك يا أندى الملوك يدًا *** ويا ضياء الليالي المدلهمات أناف قبرك في هضب يميزه *** فتنتحيه حفيـــــــــــــــــات التحيـــــــــــات كرمت حيًا وميتًا واشتهرت علا *** فأنت سلطان أحياء وأمــــــــــوات مارئي مثلك في ماض ومعتقدي *** أن لا يرى الدهر في حال ولا آت

وزاره المقري مؤرخ الأندلس في سنة 1010هـ / 1602م، ورآه كما ذكر ابن الخطيب فوق ربوة في مكان يغمره النسيان، فوقف أمامه خاشعًا متأثرًا.

وفي الختام ..

فإن محنة المعتمد بن عباد مأساة من أروع المآسي الملوكية، وما زالت محنة هذا الأمير، تحتفظ إلى يومنا، بالرغم من كر العصور، بألوانها المشجية، وقد أثارت عطف الرواية الإسلامية وتأثرها البالغ، إلا أننا هنا لا نضع ابن تاشفين في ميزان النقد التاريخي، لنتهمه مع المتهمين، أو نبرئه مع المبرئين، أو لنتلمس له الأعذار مع المتلمسين، فليس هذا مقامه، وقد قال التاريخ كلمته في الموضوع، وما أنت في ذلك كله إلا الحَكَم.

وهذه تأملات تثيرها في النفس محنة المعتمد بن عباد. ولا ريب أن هذه الخاتمة المؤسية التي قدر للمعتمد أن يعاني آلامها المروعة المادية والمعنوية، لحَريَّة بأن تسبغ عليه ثوب شهيد، يستحق عطف التاريخ، وصفح الأجيال.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر – أيار / مايو 2002م.
  2. محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، الجزء الثاني (ملوك الطوائف)، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: جـ 1، 2، 5/ الرابعة، 1417هـ – 1997م.
  3. عبد القادر زمامة: المعتمد بن عباد في المغرب، مجلة دعوة الحق .. العددان 60 و61، ربيع الأول وربيع ثاني 1407هـ / نوفمبر وديسمبر 1986م.