في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1966، قامت المقاومة الفلسطينية بتفجير عبوة ناسفة في دورية حدودية صهيونية، فقتلت ثلاثة من أفراد الدورية وجرحت ستة، لتردّ «إسرائيل» مباشرة بضرب قرية السموع بالضفة الغربية، مستهدفة مفرزة من الجيش الأردني استشهد فيها ستة عشر من الجنود الأردنيين، ودمّر الرد الصهيوني كذلك العشرات من بيوت القرية التي استشهد ثلاثة من أبنائها.

بدا النظام الأردني محرجًا بعد الرد الصهيوني، وعاجزًا عن الفعل الذي يتناسب والجريمة التي أودت بحياة جنوده، وبالسكان المدنيين، ودمّرت بيوتهم، وقد تفاقم إحراجه بعد الحركة الجماهيرية التي أسفرت عن نفسها بالمظاهرات المطالبة بتسليح الجماهير، ومن هنا انكشف الموقف عن افتراق هائل بين الجماهير والنظام الأردني، الذي بدأ حملة اعتقالات تستهدف الجماهير المنتمية إلى العمل الفدائي أو المتعاطفة معه، مما أظهر التعارض المطلق بين ضرورات المقاومة الفلسطينية ومصالح الأنظمة العربية، إذ لم تكن البلدان العربية الأخرى بمنأى عن الاستراتيجية الصهيونية التي تضع أنظمة الحكم العربية في مواجهة المقاومة الفلسطينية، حتى لبنان الذي لم يخض حرب العام 1967، ومن ثم كانت أزمة المقاومة الفلسطينية منذ نشأتها في النظام الإقليمي العربي.

وجدت المقاومة الفلسطينية نفسها في مواجهة الوطنيات العربية المستحدثة، وفي مواجهة القومية العربية كذلك!

بدأت هذه الأزمة بالتزامن المأساوي ما بين استقلال الدول العربية ونكبة الشعب الفلسطيني، وهي الحدث الناجم عن هزيمة الجيوش العربية، وهي الهزيمة المعبّرة عن تواطؤ ما، يدفع فيه الفلسطينيون ثمن استقلال الدول العربية المحيطة بفلسطين. فإذا كانت الهويات العربية الوطنية القطرية قد انبنت على أساس من إرادة استعمارية، فإنّ هوية الشعب الفلسطيني، التي أكلمت تبلورها مع نكبة العام 1948، قد أكملت ذلك التبلور على أساس مغاير، وإن كان استعماريًّا أيضًا، إذ قضت الإرادة الاستعمارية بجعل فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، وبهذا تضمنت الهوية الوطنية الفلسطينية بعدين:

الأول؛ المشترك الفلسطيني الذي يستغرق السكان الأصليين في فلسطين الانتدابية، وهو المشترك الذي تعزز لاحقًا بالنكبة الثانية في العام 1967، وبالثورة الفلسطينية المعاصرة، فقد أخذ الفلسطينيون الواقعون تحت الاستعمار الصهيوني يتلمسون المشتركات بينهم،وينسجون منها هويتهم، ويتخذونها سلاحًا في مواجهة السردية الصهيونية.

والثاني؛ تعريف الذات الفلسطينية بالمقابل العربي المتمثل في ذوات عربية عرّفت نفسها على أساس مغاير، وقد تعاظم هذا البعد باللجوء الفلسطيني إلى البلاد العربية المجاورة، وبالصراعات التي خاضتها المقاومة الفلسطينية مع دول الأردن ولبنان وسوريا.

في اليوم التالي للنكبة، وجد الفلسطينيون أنفسهم أغرابًا في البلدان التي كانت بلادهم حتى الأمس، ووجدوا أنظمة تحكم تلك البلاد، كانت قد هزمت في العام 1948، وأدّت هزيمتها إلى ضياع الجزء الأكبر من فلسطين، ثم هزمت مرة أخرى في حرب العام 1967، ما أدّى إلى ضياع بقية فلسطين، لكنها -أي تلك الأنظمة- كانت دائمًا إما متربصة بالمقاومة الفلسطينية، تكن لها العداء الصريح، أو مترددة إزاءها، أو في أحسن أحوالها تريد توظيفها بما يتناقض بالضرورة مع هدف تحرير فلسطين.

بعد هزيمة العام 1948، صارت الضفة الغربية جزءًا من المملكة الأردنية الهاشمية، بينما خضع قطاع غزة للإدارة المصرية دون إلحاقه بمصر، مما أوجد تمايزًا في ظروف السكان الفلسطينيين بين الإقليمين الفلسطينيين، أفضى إلى تصاعد النزعات الوطنية في غزة، ودفع نحو محاولات لاجتراح مقاومة وطنية فلسطينية تعرَّضت إلى قمع الإدارة المصرية، إذ اعتُقل خليل الوزير في الخمسينيات لدى الإدارة المصرية على خلفية نشاطه المقاوم، وهو ما يزال عضوًا في جماعة الإخوان المسلمين قبل تأسيس حركة فتح، بينما كان الحال في الضفة الغربية على النحو الذي شرحته الحادثة المذكورة في بداية المقالة. وعمومًا، وحتى بعد ظهور الناصرية وصعود القومية العربية، إلى ما قبل هزيمة النظام العربي في العام 1967، نظرت الاتجاهات القومية الموالية للقومية الناصرية، بما فيها حركة القوميين العرب، إلى حركة فتح، كنزعة إقليمية فلسطينية تتعارض مع المشروع القومي العربي، في مفارقة لافتة، إذ وجدت المقاومة الفلسطينية نفسها في مواجهة الوطنيات العربية المستحدثة، وفي مواجهة القومية العربية كذلك!

تناقض المقاومة في الحقيقة لم يكن فقط مع الأنظمة التي وُسمت بالرجعية في تلك الفترة، بل وأيضًا مع «التقدمية» منها.

وإذ كان الحال قد تغير نسبيًّا من بعد هزيمة العام 1967، واكتساب المقاومة الفلسطينية شرعيتها، من هزيمة الدول العربية التي كرّست ضياع فلسطين، فإنه لم يتغير جوهريًّا، فقد ظلت العلاقات الفلسطينية الأردنية متوترة منذ أول مواجهة سياسية بين المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني في 10 شباط (فبراير) 1968، وكانت تلك المواجهة على خلفية ردود الفعل الصهيونية على عمليات المقاومة الفلسطينية، وحينها صرح وزير الخارجية الأردني بأن بلاده قائلاً: «لن تسمح بأن تستعمل كممر لتنفيذ مخططات هؤلاء الذين هم مثلنا لهم حدود مع إسرائيل لكنهم لا يملكون الشجاعة الكافية لتحمل مسئولية أعمالهم ومزايداتهم.. وأن السلطات الأردنية ستضرب بيد من حديد كافة العناصر التي تعطي بأعمالها إسرائيل مبررًا لممارسة الضغط على الأردن.. وإن الأشخاص الذين يعرضون الأردن لهجمات العدو سيمنعون بعد اليوم من اجتياز الأراضي الأردنية».

من الواضح أن وزير الخارجية الأردني، يقصد الدول العربية التي دعمت المقاومة الفلسطينية على الأراضي الأردنية، ولكنها لم تسمح لها بالعمل على أراضيها، وهو ما يعني أن تناقض المقاومة في الحقيقة لم يكن فقط مع الأنظمة التي وُسمت بالرجعية في تلك الفترة، بل وأيضًا مع «التقدمية» منها، فقد كانت رؤية النظام الناصري للمقاومة تقوم على أساس قاعدة إزالة آثار العدوان ضمن برنامج الحل السلمي كبرنامج معجل التنفيذ، بما يجعل برنامج المقاومة الفلسطينية للتحرير الكامل مؤجل التنفيذ، وبهذا فإن المقاومة تتحول إلى ورقة ضاغطة بيد الأنظمة العربية، وقابلة للتوظيف في سياق البرنامج السلمي المعجل، وقد تجلّى هذا التناقض لاحقًا في مشروع روجرز الذي طرح في يونيو/ حزيران 1970 وقبله عبد الناصر ورفضته المقاومة الفلسطينية.

وإذن، لم يكن رفض النظام الإقليمي العربي للمقاومة الفلسطينية مؤسسًا على ممارسات المقاومة الفلسطينية، التي شكّلت سلطة منافسة للدولة إن في الأردن أو في لبنان، ولا على خلفية مسلكيات بعض تياراتها التي حرمت المقاومة من تعظيم حواضنها الشعبية، بل وأدّت -إلى جانب عوامل متعددة- إلى خسارتها حواضنها الموجودة، وهي حواضن كانت كبيرة أساسًا. فإذا كانت أخطاء المقاومة الفلسطينية في ذلك الحين، قد ساعدت النظام الإقليمي العربي على إقصائها وتدمير نقاط ارتكازها وقواعد انطلاقها، فإن تربص هذا النظام بالمقاومة بدأ مع نشوئها، وهي ما تزال حفنة من الحالمين، قبل أن تتعاظم بعد «معركة الكرامة»، وإذا كانت المواجهة مع النظام الأردني قد بدأت بعد هزيمة العام 1967 بأقل من عام، فإن جلال كعوش، أول شهيد للمقاومة في لبنان، استشهد في سجون الأمن اللبناني في 9 يناير/ كانون ثاني 1966، أي قبل هزيمة العام 1967، وأمّا النظام السوري فدوره معروف في إضعاف المقاومة الفلسطينية في لبنان منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي.

فإذا كانت أخطاء المقاومة الفلسطينية قد ساعدت النظام الإقليمي العربي على إقصائها، فإن تربص هذا النظام بالمقاومة بدأ مع نشوئها، وهي ما تزال حفنة من الحالمين.

إنّ نكبة الفلسطينيين، المركّبة، من الاستعمار الصهيوني والأساس الكولونيالي الذي قام عليه استقلال الدول العربية، ما تزال مستمرة حتى اللحظة، إذ يقاتل الفلسطينيون منذ خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان في العام 1982 على أراضيهم، ومع ذلك، فإن أزمة المقاومة الفلسطينية اليوم، موضوعية لا ذاتية بالدرجة الأولى، فبينما شكّل مسار التسوية العقبة الثورية الذاتية الأخطر أمام المقاومة الفلسطينية، وهو الأمر القائم في الضفة الغربية حيث تعاني المقاومة فيها من العامل العربي المجاور، والعامل الفلسطيني المتمثل بالسلطة الفلسطينية، فإن أزمتها في قطاع غزة ناجمة حصرًا عن حصار النظام المصري لها، وهو حصار متوحش، لا يمنع السلاح عن المقاومة فحسب، ولكنه يعمل على تجويع سكان قطاع غزة وإذلالهم بهدف دفعهم لإسقاط المقاومة فيها.

لا تهدف هذه المقالة إلى تبرئة الفلسطينيين من أخطائهم، وكثير منها كبير، ولكن العامل العربي في نكبتهم ما زال قائمًا منذ هزيمة العام 1948 مرورًا بهزيمة العام 1967، وما تخلل هذه السنوات كلها من جهد عربي لتحطيم مقاومة الفلسطينيين، وهو ما يعني أن النكبة ستظل قائمة، ما ظل هذا العامل قائمًا.