لطالما ارتبط شهر رمضان بمجموعة من العادات والتقاليد التي اقترنت بقدوم هذا الشهر الفضيل، ومع مرور الزمن صار المسلمون يتناقلونها ويتوارثونها جيلًا بعد جيل، ومن جملة هذه العادات النكهات الرمضانية التي ربما تغيب طول العام عن المائدة، لكن مائدتي الإفطار والسحور في رمضان دونها تبدو منتقصة.

ولئن كان لكل قطر مسلم أكلاته الرمضانية التي يمتاز بها عن غيره، فإن هناك عدة أصناف ليست حكرًا على شعب بعينه؛ حتى أنه قبيل شهر رمضان في بعض البلدان غير المسلمة ليس غريبًا أن تجد بعض المحال التجارية قد بادرت باستيراد هذه المأكولات ليختطفها المسلمون المشتاقون إلى أجواء روحانية رمضانية تحاكي وطنهم الأم، ولو على استحياء!

في هذا الشهر الفضيل نجد محلات بيع السلع الغذائية قد اصطبغت رقعة كبيرة منها باللون البرتقالي المبهج، وكيف لا وقمر الدين هو المشروب الرمضاني الرسمي بلا منازع، وعلى كل فإن قمر الدين مشروب شامي خالص يرجع تاريخ بداية استعماله إلى عصر الدولة الأموية، وبحسب بعض الباحثين فإن هناك روايتين شهيرتين عن أصل تسميته بهذا الاسم.

تفيد الرواية الأولى أن أحد أشهر صانعيه الذي كان اسمه قمر الدين، وإليه نُسِبَ المشروب الرمضاني الأشهر، والبعض الآخر يرجع هذه التسمية إلى أن الخلفاء الأمويين كانوا يأمرون بتوزيع شراب المشمش فور ثبوت رؤية هلال رمضان

تفيد الرواية الأولى أن أحد أشهر صانعيه الذي كان اسمه قمر الدين، وإليه نُسِبَ المشروب الرمضاني الأشهر، والبعض الآخر يرجع هذه التسمية إلى أن الخلفاء الأمويين كانوا يأمرون بتوزيع شراب المشمش فور ثبوت رؤية هلال رمضان لإدخال البهجة على عموم المسلمين، كما يتم طرحه في الأسواق ليلة الرؤية، فارتبط اسمه باسم رؤية قمر رمضان أو هلال رمضان، ليطلق عليه قمر الدين.

وحيث يوجد أفضل أنواع المشمش الذي يصنع منه القمر الدين في غوطة دمشق كانت النشأة، وقديمًا كانت تنتهج طريقة تقليدية لتصنيعه، حيث تعصر ثمار المشمش ويضاف إليها السكر وتغلى معًا على النار، ثم يصب الخليط على ألواح خشبية مدهونة بزيت الزيتون، ويترك في الهواء ليجفف بفعل أشعة الشمس، ثم يقطع ويغلف. بالطبع تتم هذه الطريقة الآن بأحدث التقنيات، وتنتشر الصناعة في ربوع العالم الإسلامي، وإن ظل المنتج السوري متربعًا بامتياز على قائمة الجودة، وهدفًا أول لا يتنازل عنه المستهلكون بسهولة حتى يومنا هذا.

ولا نستطيع أن نمر بالمشروبات الرمضانية دون ذكر الخروب أو الخرنوب، ومن الجدير بالذكر أن الخروب قديمًا كان يطلق عليه بازلاء البحر المتوسط، حيث إن قرون شجرة الخروب قبل أن تتيبس تكون شديدة الشبه بالبازلاء الخضراء، وتجمع المصادر العالمية على أن تسمية الخروب عربية الأصل.

وقد ذكر كتاب العجاب في بيان الأسباب للحافظ ابن حجر العسقلاني -رضي الله عنه- ما قد يكون تفسيرًا لتسمية الخروب يعود إلى نبي الله سليمان -عليه السلام- وقد أوردها أيضًا ابن كثير في البداية والنهاية، فقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من حديث إبراهيم ابن طهمان عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كان سليمان نبي الله -عليه السلام- إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا. فيقول لأي شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء أنبتت. فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك، قالت: الخروب. قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. فعلم أن ساعته قد حانت».

وقد عدد مناقب الخروب كبار علماء المسلمين، فذكره الرازي فقال: «عصارة الخروب تقطع العطش؛ لأنها باردة ورطبة»، وقد قال عنه ابن سينا: «الخرنوب مجفف قابض، إذا دلكت به الثواليل –أورام جلدية غير سرطانية– مع الخل تدليكًا شديدًا أذهبتها البتة، والمضمضة بطبخه جيدًا لوجع الأسنان، والخروب جيد لحالات المغص والإسهال»، وقال عنه عالم النباتات الأندلسي ابن البيطار: «الخروب شجر أعظم من شجر الجوز، له زهر ذهبي، وقرونه سوداء مستطيلة، المضمضة بطبيخه لوجع الأسنان وهو ملين ومعتدل».

أما التمر هندي فبخلاف اسمه الشهير المنسوب إلى الهند لكن موطنه الأصلي هو إفريقيا الاستوائية، وكان يعرف باسم «Le Tamarine»، وتعني المائل إلى الحُمرة، ومع انتقاله إلى البلاد العربية تحرفت الكلمة الأصلية «لو تمارين» إلى «التمر»، واقترنت بالهند، وذلك لأن شعب الهند كان أول من آمن بهذا النبات في الصحن اليومي، فبات جزءًا من طعامهم، ثم آمنوا بأهميته الطبية التي مازالت مستعملة لديهم في الطب الشعبي، وصارت البلد الأكثر استهلاكًا له، فقامت بإنتاجه بغزارة لتفي باحتياجها منه، حتى أصبحت الهند المنتج الأكبر له، فبات المستوردون له يسمونه بالتمر الهندي نسبة لمصدره.

عدَّد فوائده جالينوس العرب أبو بكر الرازي فقال: «إنه يقطع العطش، وينفع مع القيء والعطش في الحميات، ويقبض المعدة المسترخية من كثرة القيء ويسهل الصفراء»، وقد أكد كل من ابن سينا وابن البيطار نفعه في حالات الحمى وعلاج الأمعاء.

وفي شهر رمضان نتناول ما يعرف بالياميش، وهو مجموعة من الفواكه المجففة مثل التين والعنب والبلح والمشمش، وتاريخيًا فقد تفنن الأندلسيون في حفظ الفواكه، لتوجد في كل مواسم السنة، فجففوا الفواكه تحت أشعة الشمس وفي الهواء، كما ابتكروا وأبدعوا طرقًا جديدة لحفظ الفواكه. وقد تناول ابن العوام الإشبيلي طريقة خاصة في تصنيع بعض الفاكهة كالعنب والتين، فقال: «يقطف العنب للتزبيب إذا تناهى نضجه وحلاوته، ولم يبق فيه مرارة ولا حموضة، لأنه إن لم يكن كذلك جاء زبيبه خفيفاً في الوزن، قليل الحلاوة، وكذلك التين».

وعندما تنقع الفواكه المجففة في الماء فإنها تنقلنا إلى مشروب رمضاني شهير، وهو الخشاف، والخشاف كلمة فارسية الأصل مشتقة من كلمة «خوش آب»، وتعني الشراب الحلو أو العصير، كما أن الخشف في اللغة العربية معناها التيبس، وربما المقصود بكلمة خشاف الدلالة على الفواكه المجففة المستخدمة لصناعة المشروب.

تُرَجِح الروايات التاريخية أن القطايف عُرِفت أوائل العصر العباسي وأواخر العصر الأموي، ويُعتقد أن أول من أكل القطايف في رمضان كان الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك

وإذا كنا في غير رمضان يمكننا أن نستغني عن التحلية، لكن التحلية الرمضانية مختلفة بكل تأكيد، ولا غنى عنها كأحد موروثات الثقافة الإسلامية الرمضانية، لا سيما الكنافة والقطايف، ولعل القطايف هي ملكة حلويات رمضان المتوجة، فهي تحتل مكانة متميزة وراسخة منذ القدم على الموائد الرمضانية التي قلما تخلو منها، وتكتظ منافذ بيع القطايف بالزبائن في رمضان برغم هجرانها وعدم تناولها طوال العام على الأغلب.

وتُرَجِح الروايات التاريخية أن القطايف عُرِفت أوائل العصر العباسي وأواخر العصر الأموي، ويُعتقد أن أول من أكل القطايف في رمضان كان الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك. وعن التسمية فهناك بعض المؤرخين يرجعونها إلى تشابه ملمسها مع ملمس قماش القطيفة، وقيل أيضًا إنه في عصر المماليك اتخذت هذا الاسم، حيث قدمت كفطيرة محشوة ليقطفها الضيوف، فلقبت بفطيرة القطف، ثم تطور الاسم لدى العامة إلى «قطايف».

وتأتي بجوار القطايف مباشرة وتشاركها نفس المكانة الكنافة، وتشير الروايات التاريخية إلى أن أول من تناول الكنافة كطعام للسحور هو معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه- عندما كان واليًا على الشام؛ حيث وُصفت له لتمنع عنه الجوع الذي كان يشعر به، وأصبحت بعد ذلك من العادات المرتبطة بشهر رمضان في العصور الإسلامية المتتابعة وحتى يومنا هذا.

ويقال إن الكنافة شركسية الأصل، حيث نقلها الشراكسة معهم إلى المواطن التي هاجروا إليها، وأصل كلمة كنافة (تشنافة) وهي في اللغة الشركسية تتكون من كلمتين «تشنا» (البلبل) و«فه» (لون أو الخيط) أي تعني لون البلبل أو عش البلبل، وربما تروق لنا الرواية العربية لجمال معناها، فالرواية تفيد بأن كلمة الكنافة مشتقة من الكنف أي الإحاطة والحفظ، للدلالة على رعايتها لما تحتضنه من حشو بداخلها كالمكسرات والقشدة وغيرهما!

ولا شك أن الموروث الثقافي للأكلات الرمضانية قد اكتسب شعبيته كونه طعامًا للفقراء والأغنياء على حد سواء، وقد تفنن الشعراء والأدباء المسلمون في كتاباتهم عن هذا الموروث، ومن أشهرهم أبو الحسين الجزار وسعد بن العربي وابن الرومي، ومن المفارقات أن نجد أنه بجانب روائع الكتب التي ألفها الشيخ السيوطي مثل تفسير الجلالين والإتقان في علوم القرآن والجامع الكبير والجامع الصغير والدر المنثور وتاريخ الخلفاء، وغيرها من الدرر، في علوم القرآن والسنة وتاريخ الإسلام؛ كان من المثير جدًّا أنه كان لديه من الشغف بالبحث والمعرفة ما جعل كتاباته تتسع لتشمل جوانب عديدة من حياة المجتمع المسلم في رمضان، فمن مؤلفاته الطريفة مخطوطة «منهل اللطايف في الكنافة والقطايف»، جمع فيها كل ما قيل في كتابات السابقين من شعر ونثر وروايات وطرائف عن الكنافة والقطائف.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.