وكل الليالي ليلة القدر إن دَنَت … كما كل أيام اللقاء يوم جمعة

يقول الصوفي الشهير عمر بن الفارض في قصيدته «التائية»، في إشارة إلى أن ليلة القدر بالنسبة له ليست ليلة محددة الميعاد، ولكنها الليلة التي تشهد قربه من الذات العلية بصرف النظر عن وقتها.

في القرآن الكريم نزلت سورة مخصوصة لهذه الليلة، وفي آياتها نقرأ عن فضلها: «…ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر».

وفي السُنّة هناك أحاديث كثيرة توضح فضلها، منها الحديث النبوي الذي جاء في صحيح البخاري:

من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه.

ونسب إلى النبي أنه قال للصحابة «التمسوها في العشر الأواخر، في الوتر»، أي أن ميعادها في الليالي الوترية من العشر الأواخر.

بسبب هذا الحديث فإن عموم أهل السنة يتعاملون مع ليلة القدر في وقت محدد، وهو ليالي «21،23،25،27،29» من رمضان، فإن الصوفية لا يتقيدون بهذا الأمر بشكل صارم، بل قد يصادف الصوفي ليلة القدر في أي وقت، في رمضان أو غيره من الشهور… فما هي ليلة القدر عند الصوفية، وماذا يحدث لهم خلالها، وكيف تجنبوا الصدام مع الرأي القائل بانتظارها في العشر الأواخر من رمضان؟ هذا ما نجيب عنه في مقالنا.

كل الليالي ليلة القدر وكل الأماكن عرفات

نسَب ابن عجيبة في تفسيره إلى الشيخ أبو العباس قوله: «نحن والحمد الله أوقاتنا كلها ليلة القدر». والبعض يعتقد أن أبا العباس المقصود هو «المرسي» صاحب الضريح الشهير بالإسكندرية.

ويعلق ابن عجيبة مفسرًا كلام أبي العباس بأن عبادات الصوفية كلها عبادات قلبية بين فكرة واعتبار، وشهود واستبصار، ولذلك فإن كل لياليهم قدر، وكل الأماكن عندهم عرفات، والأيام كلها جمعات.

لأنّ سر تعظيم الأماكن والأزمنة هو ما يقع فيها من التقريب والكشف والعيان، بين العبد وربه، فإذا حدث ذلك في أي ليلة فهي ليلة القدر، ولذلك فإن الأوقات والأماكن عند العارفين كلها سواء في هذا المعنى.

ويسوق ابن عجيبة أبياتًا في هذا المعنى تقول:

لولا شهود جمالكم في ذاتي … ما كنت أرضى ساعة بحياتي
ما ليلةُ القدر المعظَّم شأنها … إلاَّ إذا عمرَتْ بكم أوقاتي
إنَّ المحب إذا تمكّن في الهوى … والحب لم يحتج إلى ميقاتِ

والبيت الأخير يكشف جوهر العلاقة بين الله وعبده (المحب والمحبوب) عند الصوفية، وهو الحب، ولا يستقيم الحب مع تحديد أوقات للكرم؛ فالحبيب كريم مع حبيبه في كل الأوقات.

وفي هذا المعنى يقول الصوفي الأندلسي أبو الحسن الششتري:

كُلُّ وقتٍ مِنْ حَبيبيِ … قدره كألف حجة
فازَ مَنْ خلَّى الشَّوَاغِلْ … وَلِموْلاَه تَوَجَّه

الصوفية ضد أي قيد مكاني أو زماني يحجم أو يحدد أو يعطل الفيض الإلهي، أو يعوق السعي إلى الاتحاد بالله، وهذا المبدأ ليس مع ليلة القدر فقط، بل في عموم علاقتهم بالله، فكما جاء في بيت الششتري «كل وقت من حبيبي قدره كألف حجة»، وفي بيت ابن الفارض كل أيام اللقاء يوم جمعة، وكذلك فكل الأماكن كجبل عرفات.

فهم يعتبرون أن الأماكن والأزمنة تحدد أعمال الجسد، ولكن أعمال القلوب والأرواح لا تحدها أماكن أو أزمنة، وهم يبنون علاقتهم مع الله داخل قلوبهم وأرواحهم، حتى ولو التزموا بأداء العبادات الجسدية.

هذا المبدأ وارتباطه بليلة القدر أكد عليه كثير من كبار الصوفية، ومنهم أبو طالب المكي، وعبد الكريم الجيلي، والقشيري، وغيرهم.

وهم هنا قد يستندون إلى الحديث النبوي الذي أورده الصوفي الشهير أبو حامد الغزالي:

لم يسعني سمائي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع

 فالقلب هو بيت الرب، وهو موضع اللقاء به، بصرف النظر عن المكان أو الزمان الذي يوجد فيه المريد.

ماذا يحدث للصوفي في ليلة قدره؟

هي أول ليلة يحدث فيها الاتحاد بين الصوفي وربه، والاتحاد هو عملية روحية لدى الصوفية، تبدأ بشوق ووجد عنيف إلى الله، مصحوب بذكره ومناجاته، يمر خلالها السالك بمراحل احتراق عاطفي تبدو آثارها في بكاء، وسكر، وإغماء.

وأثناء هذا الحال قد يحدث اتحاد الناسوت (الإنسان الذي يُعتبر تجليًّا أو مظهرًا من مظاهر الله) باللاهوت (الصورة الإلهية) فيفنَى الناسوت في اللاهوت، ويصبحُ كأنه هو.

ويستند الصوفية في ذلك إلى الحديث القدسي الذي رواه البخاري، الذي يقول فيه الله:

ما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يمشي بها

فبعد الاحتراق شوقًا، المصحوب بالذكر والمناجاة، يسكر المريد، وقد يسمع بداخله هاتفًا إلهيًا يدعوه إلى الاتحاد به.

فإذا وصل العبد لحال أنه يسمع ويبصر ويبطش ويمشي بالله، فقد حاز الدنيا والآخرة، وتصير هذه الليلة هي ليلة قدره، سواء حدثت في رمضان أو غيره.

وفي هذا ينقل الألوسي في تفسيره عن الصوفي الشهير كمال الدين القاشاني:

هذه الليلة يختص الله عبده السالك بتجلٍ خاص، يعرف به قدره ورتبته بالنسبة إلى محبوبه، وتعتبر بمثابة وقت «ابتداء وصول السالك إلى عين الجمع، ومقام البالغين في المعرفة».

وذلك بعد أن حضر العبد فيها بقلبه، فشاهد ربه، وتنعم بأنوار الصلة، ووجد نسيم القربة، كما يرى الإمام القشيري.

ليلة القدر هي النبي نفسه

سورة «القدر» تفتتح بآية «إنا أنزلناه في ليلة القدر».. وهناك ما يشبه الإجماع على أن الضمير في «أنزلناه» يعود على «القرآن»، أي أن هذه الليلة هي التي بدأ فيها نزول القرآن على النبي.

ولكن الإمام القشيري يأخذنا إلى اتجاه آخر، ويتجاهل هذا التفسير لضمير «أنزلناه»، فيقول إنها ليلة قَدَّرَ فيها الله الرحمة لأوليائه، يجد فيها العابدون قَدْرَ نفوسِهم، ويشهد فيهَا العارفون قَدْرَ معبودهم.. وشتان بين وجودِ قَدْرٍ وشهودِ قَدْرٍ؛ فلهؤلاء وجودُ قَدْرٍ ولكن قدر أنفسهم، ولهؤلاء شهود قدرٍ ولكن قدر معبودهم.

أما الصوفي شافعي المذهب، نجم الدين الكبرى (ت 618 هـ)، فيرى أن الذي ينزل في ليلة القدر هو النور الذي يحصل به انشراح الصدر؛ وهو الجمال المخصوص بسيد أهل الكمال (أي النبي محمد) المودع في قالبه.

لم يحدد القرآن بشكل قاطع فيما يتعلق بما نزل في ليلة القدر، وإنما تحدث بشكل عام، ليوضح أن ما نزل هو النور، ليترك الباب مفتوحًا لكل سالك يعيش ليلة قدره، لتظهر عليه الأنوار كما ظهرت على النبي بنزول الوحي والقرآن عليه.

حيث يرى الكبرى أن الطبيعة البشرية مظلمة، ولكن حين تطلع عليها «شمس الروح» تبدو ظلال الظلمة.

 ويوصي الكبرى مريديه فيقول:

فأنت أيها السالك الطالب اجتهد في طلب ذلك الظل المودع فيه ذلك النور، في اللطيفة القالبية المستخلصة عن الأباطيل، المتسكن فيها نور لطفيتك الخفية ليصل في ظلمة ليل قالبك إلى ظل اللطيفة المستودع فيها نور القدر، ونشاهد ذلك النور في لطيفتك المستحقة ليكون قالباً للطيفتك الخفية، وتصير صاحب القدر منشرح الصدر.

أما الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، فيتكلم في التفسير المنسوب إليه، بشكل واضح عن أن الذي نزل في تلك الليلة كان القرآن، وهو بذلك يتفق مع الرأي السائد، ولكنه فجّر مفاجأة جديدة بخصوص ليلة القدر نفسها.

لم يعتبر ابن عربي «ليلة القدر» زمانًا، وإنما اعتبر أنها النبي محمد نفسه، وأن الله أنزل القرآن في داخله (داخل النبي)، ولكنه وقت النزول لم يكن في صورته البشرية التي يراها الناس، وإنما في صورة أخرى.

يقول ابن عربي:

ليلة القدر هي البنية المحمدية، حال احتجابه عليه السلام في مقام القلب، بعد الشهود الذاتي، لأن الإنزال لا يمكن إلا في هذه البنية، في هذه الحالة، و«القدر» هو خاطره عليه السلام وشرفه، إذ لا يظهر قدره ولا يعرفه هو إلا فيها.

وهذه الصورة المحمدية القلبية هي التي جاء ذكرها في الحديث الذي يؤمن به الصوفية: «والله ما عرفني حقيقة غير ربي»، وهذه الصورة التي لا يعلمها إلا الله عن النبي هي التي يقول عنها ابن عربي:

المقام المحمدي ممنوع الدخول فيه، وغاية معرفتنا به النظر إليه كما ينظر في الجنة إلى عليين.

ويستكمل ابن عربي تفسيره، فيقول إن «ليلة القدر» أو النبي في صورته القلبية، عرف قدره في هذه الليلة وشرفه.

ويلتقي ذلك مع ما نقله الألوسي في تفسيره، عمن سماهم بعض السادة (الصوفية)، حول تسمية الله للنبي بـ«المدثر» في السورة القرآنية المعروفة، حيث يرى هذا الرأي أن للنبي صورة آدمية تدثر أو تستر حقيقته.

يقول الألوسي في تفسير «يا أيها المدثر»:

أيا أيها الساتر للحقيقة المحمدية بدثار الصورة الآدمية، أو يا أيها الغائب عن أنظار الخليقة فلا يعرفك سوى الله تعالى على الحقيقة.

صوفية ينتظرونها في رمضان.. هل هناك تناقض؟

رغم ما أوردناه عن عدم تقيد ليلة القدر عند الصوفية بزمان محدد، فإننا نلحظ التزامًا منهم بما عليه الناس في الوقت ذاته، فيلتمسونها في العشر الأواخر من رمضان مثلهم مثل باقي الناس.

فهذا أبو طالب المكي يوصي بإحياء خمس عشرة ليلة في السنة، خمس منها في الليالي الوترية بالعشر الأواخر من رمضان، رغم أنه يحشد في مواضع متعددة من كتابه «قوت القلوب» أحاديث وآراء تؤكد أن ليلة القدر قد يصادفها المؤمن في أوقات أخرى، منها مثلًا ما نسبه إلى الصحابي عبد الله بن عمر «من صلى أربعًا بعد العشاء، كن كعدلهن من ليلة القدر».

قد يعتبر البعض أن في الأمر تناقضًا، فكيف يؤمنون أن ليلة القدر قد تأتي في أي ميعاد، وفي الوقت نفسه يلتمسونها في رمضان؟

الإجابة قد نفهمها من الإمام أبو حامد الغزالي، الذي ربط بين تلك الليلة والصيام.

حيث يرى الغزالي أن كثرة الطعام تحول بين المرء وروحه، وتعطل مجاهدته الروحية، وينطبق ذلك على ليلة القدر، وهي ليلة مجاهدة واحتراق عاطفي وشوق إلى الله، وهذا الحال لا يحدث مع صاحب معدة ممتلئة.

ولذلك كان وقتها الأكثر ملائمة في شهر رمضان، وبخاصة في العشر الأواخر، بعد مجاهدة مستمرة على مدار أكثر من 20 يومًا، أنضجت الجسد بالصيام فتآكل ووهن، فظهرت الروح وقويت، وصارت مؤهلة لليلة القدر.

يقول الغزالي متحدثًا عن آداب الصائم:

من الآداب ألا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوي، فيصفو عند ذلك قلبه، ويستديم في كل ليلة قدرًا من الضعف حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان ألا يحوم على قلبه فـ«ينظر إلى ملكوت السماء».

هذا النظر إلى ملكوت السماء الناتج عن الضعف الجسماني بفعل الصيام، جعل الغزالي ينتقل مباشرة بعد العبارة السابقة إلى تعريف ليلة القدر فقال:

وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت وهو المراد بقوله تعالى: «إِنا أنزلناه في ليلة القدر».

وكأن ليلة القدر ليست مسألة خاضعة للصدفة، وإنما نتيجة لمجاهدة روحانية وجسدية تحدث طوال شهر رمضان، حيث تمارس الروح والجسد استعدادهما لهذه الليلة بدءًا من الشهر، ومع نهاية الشهر يكونا قد وصلا إلى الحال المناسب لمصادفتها، بعد وهن جسماني نتيجة الحرمان من الطعام، وقوة روحانية نتيجة الإكثار من العبادة.

ويفسر ذلك الغزالي بقوله:

ومن جعل بين قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو عنه محجوب، ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير اللّٰه عز وجل، وذلك هو الأمر كله، و«مبدأ جميع ذلك تقليل الطعام».

وللصوفية عمومًا ممارسات مادية معروفة تقودهم إلى صفاء الروح، ومنها الصيام المبالغ فيه، ويرى ابن عربي أن الهدف من الصيام مقاومة النفس لتسلط القوى البهيمية عليها، أو إزالة عدوانها.

وقيل إن من الصوفية من كان يصوم الدهر ولا يفطر إلا في العيدين وأيام التشريق. وسُمع الصوفي شعيب بن حرب يقول:

أكلت في عشرة أيام أكلة (واحدة فقط) وشربت شربة (واحدة فقط).

ونسب إلى الصوفي الشهير مالك بن دينار قوله:

وددت أن رزقي حصاة أمُصُّها؛ فقد ضجرت من كثرة تردادي إلى الخلاء

ربما كان في هذه الحكايات مبالغات من الرواة، ولكن تواترها وشيوعها يؤكد أن الاتجاه نحو الزهد في الطعام هو مسلك صوفي بامتياز.

وما يعنينا هنا هو مقاربة الغزالي بين ليلة القدر، كحالة اتحادية أو ليلة مشاهدة ومكاشفة بين العبد وربه، والضعف الجسماني الناتج عن الصيام، الذي يزيد كلما تقدمت أيام شهر رمضان، ولذلك كان توقع الصوفية لميعاد ليلة القدر في العشر الأواخر أكثر من غيره.

وخلاصة الأمر أن الصوفية وإن كانوا لا يتقيدون بزمان في انتظار ليلة القدر، فلأن الأسباب المؤدية لحدوث ليلة القدر متوفرة بالنسبة لهم في رمضان كما غيره، من صيام وخلافه.

وكذلك فهم لا يصطدمون بالرأي الذي حددها في العشر الأواخر من رمضان، وينتظرونها أيضًا خلالها لأنهم في رمضان يصومون ويتعبدون كما غيرهم، وبالتالي فهم ينتظرونها أيضًا خلاله كما غيرهم.

المراجع
  1. «البحر المديد» لابن عجيبة
  2. «قوت القلوب» لأبي طالب المكي
  3. «روح المعاني» للآلوسي
  4. «لطائف الإشارات» للقشيري
  5. «اصطلاحات الصوفية» لكمال الدين القاشاني
  6. «شرح الإسفار عن رسالة الأنوار» لعبدالكريم الجيلي
  7. «التأويلات النجمية» لنجم الدين الكبرى
  8. «تفسير القرآن»، لابن عربي
  9. «الفتوحات المكية» لابن عربي
  10. «إحياء علوم الدين»، للغزالي
  11. «معجم البلدان»، لياقوت الحموي
  12. «تاريخ بغداد»، للخطيب البغدادي