في إحدى المرات التي خرج فيها شعب مصر يهتفون ضد الحملة الفرنسية، اجتمع العامة مع الأتراك والمماليك وصاح أحدهم «اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم»، فانطلق العامة يرددونها، ويقتلون مَن يصادفهم من نصارى مصر والشام.

الواقعة التي يذكرها الجبرتي في تاريخه مروّعة، حتى إن العامة دخلوا البيوت ونهبوها، معللاً ذلك بمعاونة النصارى لقوات الحملة، في الوقت الذي كان فيه جرجس جوهري، أحد كبار الأقباط، والذي سيصبح مسؤولاً عن الضرائب في عصر محمد علي، يعاون الثوار بما يملك من مال، ويركن إليه الهاربون من ملاحقة جنود الحملة، على جانب آخر كان المعلم يعقوب، قد أنشأ أول جيش من القبط، لمحاربة المماليك.

العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر معقدة، ولم تشهد حالة الوئام والسلام دائمًا كما يُروّج لها عقب كل مواجهة، مع أن لفظة «قبطي» تعني مصري، ويصح أن نطلق لقب الأقباط على المصريين جميعًا، كما يذكر إدوارد يكن في كتابه «أقلية معزولة»، فهناك 80% من المسلمين كانوا في الأصل مسيحيون.

وحتى نهاية القرن التاسع عشر كانت بعض أحياء مصر مقصورة على المسلمين، مثل حي الخليفة، وحي السيدة زينب، ومينا البصل في الإسكندرية، كما كانت بعض الأحياء والأزقة مقصورة على المسيحيين، أما الأغلبية الساحقة من المسيحيين فكانوا يعيشون في قرى مختلطة.


ثورات ضد الجزية

عندما دخل العرب مصر، كان الأقباط تحت وطأة حكم الرومان، لذلك تعلل أكثر الكتابات سبب ترحيب المصريين بالعرب المسلمين، لكن هل حقًا كان الأقباط ينظرون إلى العرب كمخلِّصين؟

في واقع الأمر لم يكتب المؤرخون كثيرًا عن تفاصيل معاملة العرب للمسيحيين عند دخولهم مصر، إلا كتابات عامة عن حسن الاستقبال، وكتابات أخرى عن وصايا رسول الله محمد بأقباط مصر بشكل خاص.

غير أن يوحنا النقيوسي، وهو مؤرخ عاصر دخول العرب مصر، يبرز صورة قاتمة للعرب، ويذكر مذابح مروعة وأعمال سلب ونهب، والواضح أن النقيوسي كان يضمر كرهًا للقادمين الجدد، بحسب ستانلي لين بول في كتابه «تاريخ مصر في العصور الوسطى». ويرى حسين نصار في كتابه «الثورات الشعبية في مصر»، أن الأمور كانت في سلام بين الطرفين طيلة القرن الأول الهجري، وفي عام 107 من الهجرة، كانت ثورة الأقباط الأولى ضد الوالي.

وبين عامي 108 و156هـ، وثّق المؤرخون نحو 7 ثورات، أُخمدت كلها بالقوة وتدخل الجيوش، ثم هدأت الأمور حتى عام 216هـ، وفيها ثار المصريون في الوجه البحري وأعلنوا العصيان، بسبب فساد عمال أمير مصر عيسى بن منصور. في هذه الثورة اجتمع الثوار ضد أمير مصر، الذي جمع عسكره هو الآخر لكنه هابهم وتقهقر بمن معه، فتقدم الثوار إلى الفسطاط وطردوه بشكل مهين. انتشر الثوار في مناطق أكثر، وعندما بلغت الأنباء الخليفة المأمون، أتى بنفسه لإخماد الثورة بالقوة، كانت هذه الثورة هي الأكبر، ويبدو أن حكام مصر بعدها بدأوا يحسبون للأقباط ألف حساب.

الثورات التي اشتعلت في مصر خلال القرون الثلاثة الأولى كانت لأسباب مالية لا دينية، إذ كانت الجزية، التي يلتزم المسيحيون بدفعها، موردًا أساسيًا من الموارد المالية للدولة آنذاك، في حين أن الأقباط كانوا دائمي التهرب من دفعها.


صعود وهبوط

في عصر الدولة الطولونية، تحولت مصر من ولاية إلى إمبراطورية عظيمة، وتحسنت أحوال الإدارة فتحسنت بذلك أحوال المعيشة، وخف الضغط المالي على الشعب، وكان التسامح هو سيد الموقف. الوضع الاجتماعي والسياسي الذي ناله المسيحيون أثار حنق المسلمين، بحسب ما يذكره جاك تاجر في كتابه «مسلمون وأقباط»، لكن على أي حال، فقد كان كل شيء على ما يرام حتى عصر العزيز بالله.

العزيز بالله تزوج سيدة مسيحية، أنجب منها الحاكم بأمر الله وست الملك، وقد بالغت في تكريم المسيحيين ربما بسبب انتمائها الديني للمسيحية، وعندما تولى الحاكم بأمر الله حكم مصر، قرر الانتقام من المسيحيين، رغم أنه بدأ الحكم معتمدًا على فهد بن إبراهيم، وهو مسيحي الديانة. استهدف الحاكم أول الأمر موظفي الدولة وأعيان المسيحيين، ثم نال الاضطهاد الجميع، فأمر عامة المسيحيين أن يميزوا أنفسهم بملابس مختلفة، ومنع أثرياءهم من امتلاك العبيد، وألغى الاحتفال بالأعياد القبطية، وأمر أن يعلق النصارى حول أعناقهم صلبان من الخشب، طولها زراع، ووزنها 5 أرطال (الزراع يبلغ 52 سم تقريبًا، والرطل 449 جرامًا).

كانت الفظائع التي حدثت في عصر الحاكم كبيرة إلى حد أنها لم تقضِ على نفوذ المسيحيين وحسب، بل مسخت شخصيتهم، وجعلت أكثرهم يعيش في وضع اجتماعي سيئ، فأسلم عدد كبير منهم تجنبًا للإرهاق، وهجر بعضهم دورهم وكتم بعضهم ديانته، خوفًا من اضطهادات الحاكم أو من إيذاء العامة.


الحملات الأوروبية والجيش القبطي

الامتحان الكبير للأقباط كان عقب الحملات الصليبية، فرغم أن التاريخ لم يسجل أية مواجهة بينهم وبين المسلمين عندما نشبت الحرب الصليبية الأولى، إلا أن الأمور لا تسير دائمًا كما يجب، فلم يمر وقت طويل حتى نظر إليهم العامة كشركاء للصليبيين بحكم الديانة، في الوقت الذي كان الصليبيون أنفسهم ينظرون إلى الأقباط ككفار.

عقب موت صلاح الدين استمرت الحملات الصليبية، واستمر الأقباط موضع ريبة، مع كل حملة تثار حولهم الشكوك بحكم الدين، رغم أنه لا يوجد مرجع عربي يذكر أن المسيحيين في مصر ساعدوا الصليبيين. خلقت الحروب الصليبية هوة سحيقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، واستمر التعسف ضدهم فترة طويلة عقب الحرب الصليبية، حتى قدوم الحملة الفرنسية، التي نظر بعض الأقباط إليها نظرة أمل، راجين التخلص من الاضطهاد.

في تلك الأجواء ظهر المعلم يعقوب حنا، بأول جيش قبطي، اختلف المؤرخون في تعداده بين 800 إلى 2000، وأعلن تعاونه الكامل مع الحملة الفرنسية ضد المماليك. يذكر الجبرتي في تاريخه أن المعلم يعقوب أنشأ جيشه من أقباط الصعيد، وأمر عسكره بحلق لحاهم وألبسهم زيًّا يشبه زي الفرنساوية، ورغم تحيُّز الجبرتي ضد تلك الفرقة، إلا أنه يذكر أنها لم تكن الوحيدة التي تعاونت مع الفرنسيين، غير أن المصريين عقب جلاء الحملة أخذوا الأقباط بذنب يعقوب.

المعلم يعقوب
المعلم يعقوب

وبحسب ما يذكر متياس نصر في كتابه «الجيش القبطي الوطني»، فقد تحولت المواجهة المسلحة بين المصريين وبين الحملة الفرنسية إلى حرب بين المسلمين والمسيحيين من جانب آخر، ويبدو أن تراجع نفوذ الأقباط وتقلص وجودهم في حارات طائفية كان سببًا لظهور الجيش القبطي.


العزلة المسيحية

وفي الواقع، مع بداية القرن التاسع عشر كان نفوذ الأقباط تراجع ونقص عددهم، ولم يكن لهم وجود إلا في القاهرة والإسكندرية، وحول مدينة أسيوط وجنوبها، وفي المناطق البعيدة التي كان العنف ضدهم أقل، وحينما كان تعداد مصر يبلغ 3 ملايين نسمة، كان عدد الأقباط يبلغ 150 ألفًا، بحسب جرجس عوض في كتابه «القبط».

يقول يونان لبيب رزق في كتابه «مصر المدنية» إن الطائفية بمعناها الديني تجسدت خلال العصر العثماني في حارة النصارى، وحارة اليهود، إلى جانب حارات طوائف الحرفيين مثل حارة السقائين وحارة النجارين والحدادين، وكان محتومًا أن تتفكك بنفس الوتيرة التي تفككت بها الحارات الأخرى فيما بعد، فلا وجود للطائفية.

حارة النصارى

إلى جانب تلك الحارات، فقد كان الدخول في الإسلام تقام له الأفراح، في حين أن الارتداد عنه يستوجب القتل، وفي عام 1843 نُفذ آخر حكم ضد المرتد عن الإسلام بحق رجل أرميني، قرر ترك المسيحية للإسلام ثم رجع إلى المسيحية مرة أخرى. وطيلة تلك الفترة اتخذ المسيحيون موقفًا أكثر عزلة، كما يذكر س.هـ ليدر في كتابه «أبناء الفراعنة المحدثون».


الهوية القبطية ضد الخلافة

أما الخلاف الحاد بين المسيحيين والمسلمين فقد بدأ يظهر بشكل واضح في أواخر عصر الحكم العثماني لمصر، في وقت كانت الدول الأوروبية تسعى إلى اقتطاع أجزاء منها عقب دعوة السلطان عبدالحميد الثاني لإنشاء الجامعة الإسلامية، وهو نفس الوقت الذي بدأت تذوب فيه حارات النصارى. كان جمال الدين الأفغاني (1838-1897) من الذين دعوا إلى الحفاظ على وحدة العالم الإسلامي، وأن مصر تستمد قوتها من حضارة الإسلام، وهو ما خلق دعوات مضادة من جانب المسيحيين الأقباط.

ويعدد جمال بدوي أسباب الخلاف في كتابه «الفتنة الطائفية في مصر»، يقول: «إن الفكر الإسلامي يرى أن مصر تستمد قوتها الحضارية من الإسلامية، أما الفكر المسيحي فيرى أنه سليل العنصر المصري القديم، وعليه أن يُحيي تلك الحضارة، وهو سبب خفي للمواجهة». رأي بدوي ربما يفسر سبب اختيار المسلمين لأسماء لها طابع عربي، في حين يختار المسيحيون أسماء من التراث القبطي.

وعندما جاء الاحتلال البريطاني إلى مصر عام 1882، وضع الأقباط في مأزق جديد أشبه بمأزق قدوم الحملة الفرنسية والحملات الصليبية، بسبب الديانة أيضًا. يقول جمال بدوي إن الاحتلال نجح في خلق روح التوتر بين الاثنين، وبدأت الصحف تتخذ طابعًا طائفيًا، وطفحت بالمقالات من الجانبين حتى اندلاع ثورة 1919، التي غطت على كل تلك الصراعات.


الفتنة في عصر «الرئيس المؤمن»

حارة النصارى
حارة النصارى

بعد 1919م لم تخلُ العلاقة بين الجانبين من منغصات السياسة، إلى جانب الأفكار المتطرفة من الفريقين، وعقب تولي محمد نجيب رئاسة البلاد، لم تشهد مصر أية حوادث طائفية حتى عصر السادات.

في 1970 تولى الرئيس السادات حكم البلاد، وبعدها بعام نال البابا شنودة لقب البطريرك، واستهل أعماله بنشاط واسع، ما بين محاضرات عن إسرائيل وبين مقالات حملت أفكارًا جديدة قوبلت بانتقادات كثيرة، كان منها «القرآن والمسيحية» بيّن فيه نقاط الالتقاء بين الديانتين، وربما كان هذا النشاط الواسع سبب نقمة الجميع على شنودة بمن فيهم السادات نفسه.

كما كان خروج بعض أفراد الجماعات الإسلامية المتشددين من السجون وبالًا على العلاقة بين الطرفين، ففي عام 1972 ظهرت منشورات توزع في الإسكندرية أن البابا شنودة يقوم بحركة تبشيرية، أعقب ذلك صدام مباشر بمحاولة حرق إحدى الكنائس في الخانكة.

وفي عام 1978 ألقى البابا شنودة كلمة أمام السادات، اقترح خلالها تأليف كتب مشتركة بين القساوسة ومشايخ الأزهر، تتناول حب الله والتسامح ومقاومة الإلحاد والتطرف، وفي الواقع كانت اقتراحات البابا جيدة، لكن ما حدث هو مزيد من الكتب والمقالات التي تناولت الفتنة الطائفية أيضًا، كرد فعل للأحداث التي توالت بعد ذلك.

https://www.youtube.com/watch?v=MUa3Edin6fo

وعقب مواجهات عدة بين المسلمين والمسيحيين، ألقى السادات خطابه أمام مجلس الشعب في 14 مايو/آيار 1980، متهمًا المسيحيين بمحاولة إنشاء عاصمة منفصلة مقرها أسيوط، وجعل الكنيسة سلطة داخل الدولة، وهو الأمر الذي أجج الصراع أكثر. وبحسب جمال بدوي، فإن هذا الخطاب نقطة تحول في مجرى الأحداث، فخلال الفترات السابقة كان الصراع مقصورًا على العناصر المتشددة من الجانبين، ولم يلبث هذا الصراع أن يتلاشى، أما بعد خطاب السادات اتسعت دائرة الشقاق.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. عبدالرحمن الجبرتي، عجائب الأخبار في التراجم والأخبار، الهيئة العامة للكتاب، 2014
  2. جرجس عوض، القبط- الكتاب الأول في تعداد القبط، 1927
  3. أرشيف السادات
  4. جاك تاجر، أقباط ومسلمون منذ الفتح الإسلامي حتى 1922، الهيئة العامة للكتاب 2016
  5. متياس نصر، الجيش القبطي الوطني، الكتيبة الطيبية، 2007
  6. جمال بدوي، الفتنة الطائفية في مصر، مكتبة النهضة، 1985
  7. يونان لبيب رزق، مصر المدنية، الهيئة العامة للكتاب، 2000
  8. محمد حسنين هيكل، خريف الغضب، مركز الأهرام للترجمة، 2006
  9. ستانلي لين بول، تاريخ مصر في العصور الوسطى، الهيئة العامة للكتاب، 2016
  10. CAIRO 969-1969 كتاب تذكاري عن مصر
  11. إداورد يكن، أقلية معزولة