تنويه: هذه المراجعة تجنبت حرق أحداث الفيلم وحرصت على الاكتفاء بالحد الأدنى من الأحداث التي ظهرت في الإعلان التشويقي للفيلم.
ماذا ستفعل إذا تعرض أحبابك للأذى؟

هل ستسير في درب الانتقام؟ ما هي الأشياء التي ستتخلى عنها في سبيل ذلك؟ وكيف بحق الجحيم يمكنك التأكد أنك على حق ولن تظلم شخصا آخر؟ وأخيرا هل يمكن أن يبقى الحب في جسد يسكنه العناد؟

يروي المخرج الإيراني «أصغر فرهادي» في فيلمه الجديد The salesman، المرشح لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، حكاية إنسانية درامية جديدة، حكاية «عماد» الذي أدى دوره «شهاب حُسيني» و«رنا» التي أدت دورها «ترانه عليدوستي»، زوجين إيرانيين يتشاركان الحياة في منزلهما كما يتشاركان خشبة المسرح حيث يعملان كممثلين مسرحيين. يبدأ الفيلم فنرى منزلهما على وشك الانهيار نتيجة إصلاحات يقوم بها مجموعة من العمال في الحي الذي يقطنانه فيضطران للانتقال لمنزل آخر، كما نراهم على الجانب الآخر وهما يتدربان على تأدية دوريهما في مسرحية «موت بائع متجول» للكاتب الأمريكي «أرثر ميلر».

تستمر الأحداث ليعرض لنا أصغر فرهادي حكاية إنسانية عن الوحدة والحب، العناد والانتقام، وعن الأشياء التي لا نحكي عنها. حكاية يمكنها أن تلمس أرواح البشر في مختلف بقاع الدنيا ولكنها -ولأنها صادقة- تحافظ على سياقها الاجتماعي والثقافي فنصدقها. وفيلم مؤثر وذكي قد يجعلك تترك صالة السينما بعيون مليئة بالدموع وذهن مليء بالأفكار.


جائزة النص

أنا أحكي عن البشر، لا عن الجغرافيا.

أصغر فرهادي

كعادة «أصغر فرهادي» نرى حكاية درامية منزلية عن زوجين ينتقلان حديثا لمنزل جديد لنحيا معهما، ونتابع حياتهما العادية بين المنزل والشارع والمسرح الذي يعملان فيه والمدرسة التي يعمل فيها الزوج كمدرس للأدب، تتسارع الأحداث وتتشكل عقدة نطاردها ونحاول حلها طوال الفيلم. الحدث هنا كان وقوع حادث اعتداء على الزوجة حينما سمحت لرجل غريب بالدخول إلى منزلها، حينما ظنت على سبيل الخطأ أنه زوجها. ليعود الزوج ويجد الفوضى تعم منزلهما الجديد وآثار الدماء في كل مكان. تترك تلك الحادثة زوجته المصابة حزينة مضطربة، لا تشعر بالأمان إذا بقيت وحيدة للحظات وتتركه مشغولا بالانتقام.

على عكس أفلام فرهادي السابقة، وخصوصا فيلميه الشهيرين «Separation»، و«About Elly»، لا تبقى العقدة دون حل طويلا، لنكتشف أن السؤال ليس في معرفة من الذي اعتدى على الزوجة، ولكن السؤال هو كيف سيتصرف الزوج بعد أن يعرف؟ نرى السؤال الذي من الممكن أن يلمس كل مشاهد بشكل شخصي. كيف سيتصرف رجل مثقف، متفتح الذهن ويعرض نفسه كفنان يؤمن بالحريات ومتفهم لدوافع البشر حينما يحكمه الغضب وتسيطر على عقله رغبة الانتقام. وكيف ستتصرف امرأة تعرضت للأذى البدني والنفسي حينما يتم تخييرها بين الصمت الذي يقتل فيها ثقتها في كل شيء، والكلام الذي من الممكن أن يتسبب في وصمة أخلاقية وأذى نفسي ربما يكون أكبر في سياق اجتماعي وثقافي يدعي الفضيلة.

نرى إذن كيف يستطيع فارهادي الوصول بأفلامه إلى منصات أهم الجوائز العالمية، وكيف يصل قبل ذلك إلى قلوب وعقول محبي السينما. إنه يحكي عن البشر الحقيقيين، الذين يمكنك أن تشعر بأنك تواجه نفس تجاربهم وأزماتهم. وليس لأنه يقدم حكايات عن الجمهورية الإسلامية في إيران كما يتخيل البعض. حكايات تنقل واقع شخصيات تحيا في واقع حقيقي لا يتجمل، كما أنه لا يستدعي كل ما هو سيئ ليستجدي عطف المشاهد الغربي. وهذه هي المعادلة التي تجعل حكاياته المحبوكة بحرفية شديدة تستحق المشاهدة، كما تجعلها قادرة على طرح أسئلة حقيقية وتناقشها بشكل مفتوح مع جمهورها، سواء كان في إيران، في مصر، في فرنسا، في أمريكا أو في أي مكان آخر يحيا فيه البشر.

يجدر الإشارة إلى أن فارهادي قد فاز عن The Salesman بجائزة مهرجان كان في فئة أفضل سيناريو .


جائزة الصورة

المخرج أصغر فرهادي والممثلة ترانه عليدوستي

فرهادي هو وريث السينما الواقعية الإيرانية الجديدة بعد جيل من صناع سينما كبار في مقدمتهم الراحل «عباس كيارستمي»، ولذا سنجد في The salesman حفاظا على العلامات المميزة للسينما الواقعية الإيرانية حيث الكادرات الجميلة والشاعرية لتفاصيل بسيطة في حياة البشر، كصورة لامرأة تقوم بتنظيف منزلها، أو كادر لطفل يرفض أن يصطحبه أحد لدخول الحمام. ولكن لفرهادي أيضا سمات مميزة، منها أنه يهتم بالممثلين بشكل أكبر من اهتمامه بالأجواء المحيطة. ولذا لو أعطيت نفس المشهد لعباس كيارستمي وأصغر فارهادي فستجد أن عباس سيحرك الكادر إلى أعلى وسيعطي المشاهد بضع لحظات من الصمت والتأمل فيما يدور في ذهن الشخصيات. أما فارهادي فسيقترب من أبطاله ويعرض مشاعرهم في شكل مرئي، بالغضب، بالبكاء، أو بالصدمة والسكوت.

في الفيلم أيضا إشارتان بصريتان مهمتان. الأولى لفيلم The cow الإيراني الذي تم إنتاجه في عام 1969 للمخرج «درويش ميهروجي» ويؤرخ به كبداية للسينما الواقعية في إيران، والذي نرى مشاهد منه في الفيلم حينما يقرر «عماد» عرضه على تلاميذه في أحد الدروس.

الإشارة البصرية الأخري كانت لفيلم Shame الذي تم إنتاجه في عام 1968 للمخرج السويدي «إنجمار بيرجمان»، والذي تدور أحداثه حول سؤال كيف يتصرف الناس في أوقات الحروب وكيف يؤثر الإحساس بالخطر في التركيبة النفسية للبشر. نرى الملصق الدعائي للفيلم أكثر من مرة وبأشكال مختلفة في منزل الزوجين الإيرانيين القديم، والذي يشهد حل عقدة الفيلم وتسارع الأحداث قبل النهاية. ومن الصعب أن يكون وجوده بهذا الشكل وفي هذا التوقيت مجرد صدفة.


جائزة التمثيل

يمكن وصف أسلوب فرهادي الإخراجي السينمائي بأنه من نوعية «سينما الممثل». هذه النوعية التي تهتم بتجسيد أبطالها للشخصيات بشكل حقيقي وتوحدهم مع دوافعها ومشاعرها. هذا الأسلوب الذي يعطي الممثلين مساحة كبيرة للتألق والظهور بشكل قوي ويجعلهم محور الأحداث بشكل يقترب من المساحة الممنوحة للممثلين على خشبة المسرح، حيث تقل وظيفة المؤثرات والأجواء المحيطة إلى أدنى مستوياتها أمام العنصر البشري صاحب الكلمة والإحساس.

في The Salesman تعاون فرهادي مع بطله شهاب حُسيني للمرة الثالثة، ومع بطلته ترانه عليدوستي للمرة الرابعة ومنحهما كالعادة مساحة كبيرة للتألق في فيلم يحتفي بسينما الممثل بشكل فريد، فلم يكتف فرهادي بالمسار السردي والبصري لحكاية الزوجين في طريق الانتقام، ولكنه أوجد أيضا مسارا آخر قام فيه البطلان بمشاهد قليلة من العمل المسرحي «موت بائع متجول»، مشاهد قليلة ولكنها عميقة الأثر على المستوى التمثيلي والنفسي. ظهرت ترانه عليدوستي متألقة كعادتها، أما شهاب حُسيني فقد فاز وبجدارة بجائزة أفضل ممثل من مهرجان كان.


من أجل الجمهور لا من أجل الجوائز

لم تخل مشاهد The salesman من إشارات على تدخل الرقابة الإيرانية في المنتج الفني، عبر فرهادي عن ذلك بذكاء بالغ حينما ذكرت الشخصيات إشارة غير مباشرة على ذلك داخل أحداث الفيلم. أما الإشارة الأهم فكانت من خلال قطعات غير مكتملة استخدمها فرهادي حينما يقترب زوج للإمساك بيد زوجته أو تقترب زوجة لتحتضن يد زوجها، قطعات لا تُظهر المشهد بشكل طبيعي، لا تؤثر على السياق حيث يمكننا ملء الفراغات من ذاكرتنا البصرية، ولكنها تشعرنا أن هناك شيئا غير طبيعي، وأن هناك عينا تراقب ويدا تستعد للحذف.

رُشح الفيلم ليمثل إيران في مسابقة الأوسكار في فئة أفضل فيلم أجنبي، ونجح في الوصول إلى القائمة القصيرة، تم اختيار الفيلم من لجنة غير تابعة للدولة مكونة من تسع شخصيات سينمائية إيرانية، كما نجح الفيلم في كسر أرقام الإيرادات في صالات العرض الإيرانية. ويفتخر فرهادي بهذا على وجه الخصوص. أن أفلامه ورغم كل شيء تحظى بشعبية في إيران أكثر من أي مكان آخر في العالم.


موسم الجوائز السينمائية

المخرج أصغر فرهادي والممثلة ترانه عليدوستي

سلسلة «موسم الجوائز السينمائية» نتتبع فيها أهم الأعمال السينمائية التي تتسابق على الجوائز الفنية المختلفة في موسم يمتد منذ ديسمبر/كانون الأول 2016، بإعلان ترشيحات جائزة «جولدن جلوب»، مرورا بجائزة «البافتا»، وانتهاءً بإعلان الفائزين بجوائز أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة «الأوسكار» في نهاية فبراير/شباط 2017.

(يمكنكم متابعة جميع حلقات السلسلة من هنا)