«بدأت السينما بجريفيث وانتهت بعباس كيارستمي.»

بهذه الكلمات وصف المخرج الفرنسي «جان لوك جودار» أثر «عباس كيارستمي» في السينما ولكي نشرح هذه الجملة في كلمات بسيطة يمكننا أن نعرف «ديفيد وورك جريفيث» بأنه مؤسس السينما الأمريكية بلا منازع في بداية القرن العشرين وتحديدا منذ عام 1908، هو أول من قام بتحريك الكاميرا وأول من استخدم المونتاج المتوازي وأول من استخدم «الكلوز أب» وأول من قال كلمة «أكشن» في موقع تصوير.

أما قائل هذه الجملة هو «جان لوك جودار» مؤسس الموجة الجديدة في السينما في الخمسينيات والستينيات وواحد من أفضل المخرجين في تاريخ السينما. ماذا تبقى إذا؟ بقى التعريف بعباس كيارستمي الذي طبقًا لجملة «جودار» قد انتهت عنده السينما!

من هذا الرجل القادم من الشرق، ومن إيران تحديدا، وما الذي فعله لكي يستحق كل هذا التبجيل؟ وكيف أثر في السينما لدرجة أجبرت كبار مخرجي العالم على الاعتراف بتفوقه والجلوس أمام أفلامه للتعلم والاستمتاع؟ وكيف مرت وفاته علينا في الوطن العربي هكذا دون أي احتفاءٍ يُذكر وكيف مرت علينا قبل ذلك حياته دون أن يشاهد أغلبنا أيا من أفلامه؟


كيارستمي وإعادة اكتشاف السينما

منذ لحظات أعدت مشاهدة فيلم «كلوز أب» كمشاركة في وداع عباس كيارستمي الذي فارق الحياة منذ أيام، تذكرت حينها المرة الأولى التي شاهدت فيها هذا الفيلم، كنا مجموعه من الأصدقاء المحبين للسينما نشاهد فيلما من «إيران». تلك الدولة التي تظهر دائما في خيالنا بنفس الصورة النمطية التي يتم ترويجها في العالم العربي، تلك الصورة التي تهتم بتصوير إيران على أنها دولة شريرة تحاول التدخل في شيءوننا طوال الوقت.

سقطت هذه الصورة بعد دقائق من بداية الفيلم الذي لم يهتم بتصوير أي شيء صأحب صلة بالتصور العالمي عن إيران في حين أنه فضل أن يقترب من الإنسان، الإنسان الذي وبرغم كل شيء ما زال يشبهنا ويشبه إخوته في الإنسانية في كل مكان في العالم. انتهي الفيلم حينها ونحن لا نعرف هل ما شاهدناه فيلم وثائقي أو تسجيلي وبالتالي فكل ما رأيناه هو أحداث حقيقية قام «كيارستمي» بتسجيلها أم أنه كان فيلما روائيا وبالتالى فكل ما حدث كان مرتبا ومكتوبا و مدبراً بواسطة «كيارستمي»، لم نعرف ولكننا كنا سعداء بتلك الزيارة «الحقيقية» السريعة التي وفرها عباس لنا إلى قلب إيران.

منذ أيام كتب الناقد السينمائي «محمد المصري» أن ما حدث للجمهور بعد مشاهدة «كلوز أب» كان أشبه بما حدث لجمهور السينما الأول في نهاية القرن التاسع عشر حينما شاهد قطارًا يتحرك على شاشة بيضاء فظن أنه حقيقى لدرجة أنه ركض مسرعًا من صالة العرض خوفًا من أن يخرج القطار من الشاشة و يرتطم به. ونحن بالفعل كنا في مثل هذه الحالة من التصديق والانبهار بعد مشاهدة «كلوز أب»، وبعد لحظات من النهاية عرفنا أننا تعرفنا أخيرًا على عصر جديد من السينما وفهمنا حينها لم قال جودار أن السينما قد بدأت بجريفيث وانتهت بعباس كيارستمي.


السينما كنوافذ تشبه الأحلام

للسينما تعريف شديد الجمال عند كيروستامي وهذا التعريف يبدأ برؤيته للخيال والفعل الذي يربطنا بأرض الخيال والأحلام. وهو يقول في هذا:

سألت نفسى كثيرًا ما هي وظيفة الأحلام؟ من أين تأتي؟ لماذا نمتلك القدرة على أن نحلم؟ ولماذا يجب أن نحلم؟ إن لم تمتلك الأحلام وظيفة في حياتنا؛ إذًا فما هو السبب في وجودها؟ وأخيرًا وجدت السبب. متى نلجأ للأحلام؟ في الأوقات التي لا نرضى فيها بظروفنا. والشيء العجيب أنه لا ديكتاتورية في العالم تستطيع التحكم في أحلامنا. لا يوجد نظام تحقيق يستطيع التحكم في خيال المرء. يمكنهم أن يلقوا بك في السجن ولكنك ما زلت تمتلك القدرة على أن تحيا طوال فترة سجنك خارج كل هذا وبدون مساعدة من أي أحد، من خلال الخيال يمكنك أن تعبر هذه الأسوار المنيعة وبدون أن تترك أي أثر ويمكنك دائما أن تعود دون أن يشعر أحد. في رأيي الأحلام هي نوافذ في حياتنا. وأهمية السينما في أنها تشبه هذه النوافذ.

رؤية عباس للسينما كنوافذ تشبه الأحلام في حياتنا المزدحمة تكتمل لترد على من يجد أفلامه بطيئة الإيقاع، أو مملة بصورة ما، فيقول ردًا على سؤال يطلب منه أن يتحدث عن الأشياء التي يحبها في السينما:

لا أستطيع أن أحدثك عن الأشياء التي أحبها لأنك ستراها في أفلامي، يمكننى أن أحكي لك عن الأشياء التي لا أحبها بدلًا عن ذلك، أنا لا أحب أن أبتز المشاهد عاطفيًا ولا أريد أن أقدم له موعظة، لا يعجبني التقليل منه أو تحميله أي شعور بالذنب، هذه هي الأشياء التي لا أحبها في الأفلام. في الحقيقة أنا أفضل الأفلام التي تضع جمهورها لينام في صالة العرض، أنا اعتقد أن هذه الأفلام لطيفة بشكل كافٍ لتسمح لك بغفوة قصيرة ولا تتركك مضطربًا عندما تغادر صالة السينما. بعض الأفلام جعلتني أغفو في صالة السينما ولكن نفس هذه الأفلام جعلتني أقضي الليل وأنا أفكر فيها حتى الصباح وأبقتني أفكر فيها لأسابيع بعد ذلك. هذا هو نوع الأفلام الذي أحبه.

نعم، من الممكن أن تغفو للحظات في بعض أفلام عباس كيارستمي، من الممكن أن تشعر بلحظات مستمرة من الهدوء دون أي أحداث سريعة أو غير متوقعة، ستشعر شيئا فشيئًا أن هذا الرجل يوفر لك بضع دقائق لالتقاط الأنفاس وسط حياة مليئة بالأحداث والمشاكل. ولكنك ستتفاجأ مثلي أنك وبعد مرور سنين ستظل تتذكر تجربة مشاهدتك لأحد أفلامه. ولا أبالغ حين أقول أن رؤيتك للحياة سوف تتغير ولن تصبح نفس الإنسان بعد أن تختبر سينما كيارستمي.


نظرة قريبة على «كلوز أب»

صورة من فيلم Close Up 1999

إذا تحدثنا بشكل خاص عن فيلم «كلوز أب» كمدخل لسينما «عباس كيارستمي» فيمكننا باختصار أن نلخص أحدث الفيلم في أنها متابعة صحفي لقصة حقيقية لرجل قام بانتحال شخصية المخرج الإيرانى الشهير «محسن مخملباف» وقام من خلال ذلك بالتعرف على أسرة إيرانية تعيش في طهران وأقنعهم بأنه سيختار ابنهم لأداء دور البطولة في فيلم من إخراجه ثم تستمر الأحداث لنرى بأعيننا إلقاء القبض على «حسين سابزيان» الذي قام بانتحال شخصية المخرج «محسن مخملباف»، نشاهد محاكمة الرجل الحقيقية كما نشاهد «عباس كيارستمي» نفسه وهو يقوم بأخذ الإذن في تصوير المحاكمة وباقي أحداث الفيلم، حتى أننا في أحد المشاهد نسمع صوت اثنين من الفنيين الذين يتجادلون لأن أحد الميكروفونات المستخدمة في الفيلم لا يعمل بشكل جيد.

يستمر الفيلم ليحطم السؤال القديم الذي يطلب من السينما أن تحاكي الواقع أو توفر بديلا له ليقدم عباس إجابة جديدة وهي أن يكون الفيلم نفسه جزءًا من الواقع. وليتجاوز كسر حاجز الإيهام والذي يعتمد على إيهام الجمهور بأن ما يجرى يحدث في بُعد زمني ومكاني آخر دون أن يشعرهم بأن هناك فريق عمل وراء هذا المنتج الفني المُقدم لهم. في « كلوز أب » تحطم هذا فأنت ترى كل شيء.

بالإضافة لهذا الإبداع في صناعة سينما فهناك إبداع آخر على مستوى المحتوى يجعل من «كلوز أب» وبمسافة بعيدة عن غيره من الأفلام الفيلم الأكثر صدقًا في التعبير عن عشق السينما، العشق الذي قاد صاحبه وبشكل حقيقي لأن يكون موضوع هذا الفيلم. للفيلم طابع آخر دائم التواجد في سينما عباس كيارستمي وهو أنه شديد الصلة بأرض بلاده وأهلها لدرجة تجعل من مقولة «إذا أردت أن تعرف إيران فشاهد أفلام كيارستمي» مقولة صحيحة إلى حد بعيد. في سينما كيارستمي ستشاهد إيران وكأنك تمشي في شوارعها، يمكنك أن تستمع لأحاديث حقيقية لدرجة يستحيل معها أن تكون مرتبة مسبقًا أو مكتوبة، كما يمكنك أن تتأمل فيما وراء كل هذا لترى أفكارًا جديدة تظهر في كل مرة تشاهد فيها أفلامه.

في «كلوز أب» تعاطف عباس مع حكاية «حُسين» هذا الرجل البسيط الذي دفعه شغفه بالسينما إلى ارتكاب جريمة الاحتيال، فجعل من حكايته قصةً لفيلمه لتتغير حياة هذا الرجل بعد الفيلم ليشارك في فيلم وثائقي آخر بعدها بعدة سنوات يحكي فيه كيف تأثرت حياته بعد مشاركته في «كلوز أب»، ولكن سخرية القدر تظهر مرة أخرى فيصاب «حُسين» بأزمة نفسية وهو في طريقه لمقابلة خاصة بالتحضير لفيلم جديد مع «كيارستمي» ويدخل على إثرها في غيبوبة تنتهي بوفاته وهو في الثانية والخمسين!

وهكذا دائما تستمر الحكاية التي تختارها عدسة كيارستمي بعد أن ينصرف المشاهدون. ليظل دائما الرجل الذي تخطت أفلامه صالات السينما لتصبح جزءًا من الواقع.


كيف رأى العالم كيارستمي

صورة من فيلم كلوز أب
صورة من فيلم كلوز أب

إذا تحدثنا عن كم التبجيل الذي قوبلت به أفلام كيارستمي فيمكننا أن نكتفي بتصنيف فيلم «كلوز أب» كواحد من أفضل خمسين فيلما في تاريخ السينما وذلك طبقا لقائمة «Sight & Sound» الصادرة من معهد الفيلم البريطاني في عام 2012. هذه القائمة التي تحظى بتقدير عالمي هو الأعلى بين صناع السينما وتتم عن طريق تصويت أكاديمين ونقاد عالميين وتصدر كل عشر سنوات لتعلن أفضل عشرة أفلام في العقد السابق لها وذلك منذ عام 1952 قد اختارت فيلم كيارستمي بين أفضل خمسين فيلمٍ في قائمتها الكبرى التي تم عنونتها ب«أعظم الأفلام في التاريخ».

فاز كيارستمي أيضا بجائزة السعفة الذهبية «الجائزة الكبرى في مهرجان كان» في عام 97 عن فيلمه «طعم الكرز» ثم تم اختياره عقب ذلك عضوًا في لجنة تحكيم المهرجان لعدة سنوات. تم تتويج مشوار كيارستمي أخيرا باختيار «أكاديمية علوم وفنون الصور المتحركة» المعروفه عالميًا بحفل جوائزها الذي يقام سنويا لتوزيع «الأوسكار» لأهم الأعمال الفنية السينمائية خلال العام ليصبح عضوًا فيها. ولكنه ولسخرية القدر فارقنا جميعا وغادر الحياة في 4 يوليو الماضي بعد أيام من إعلان الأكاديمية عن ذلك.

يقول المخرج الكبير «مارتين سكورسيزى» الفائز السابق بجائزة الأوسكار كأفضل مخرج والذي تم ترشيحه لها في فئة الإخراج ثمان مرات والذي يعتبره كثيرون واحدًا من أفضل مخرجي السينما الذين ما زالوا على قيد الحياة: «إن عباس كيارستمي يمثل المستوى الأعلى في البراعة الفنية في صناعة السينما».

حينما تم ذكر تصريح سكورسيزي وتصريح جودار الذي ذكرناه في بداية المقال أمامه رد بأن «هذا النوع من الاحتفاء سيكون من اللائق أكثر ألا يذكر وأنا ما زلت حيًا.»

يمكننا الآن ذكر كل هذا بعد أن رحلت يا سيدي. لم يسعفنا الوقت للحديث عن كافة أفلامك هنا ولذا اكتفينا بذكر تجربة «كلوز أب» التي غيرت بها شكل السينما في العالم ورؤية العالم للشرق ورؤيتنا جميعا لإيران. سنظل نذكر مشاهد «طعم الكرز» الذي ضمن لك الفوز بالسعفة الذهبية. كما سنتحدث دائما عن رؤيتك للحياة والموت في «وستحملنا الرياح» و«بين أشجار الزيتون». ستظل أفلامك ملجأ لنا لالتقاط بعض الانفاس وللتأمل في العالم وفي أنفسنا.