ما فائدة كتاب إذا لم يحملنا أبعد من جميع الكتب؟
فريدريك نيتشه، كتاب «العلم المرح»

هذا السؤال أطرحه على نفسي كلما أمسكت كتابًا وشرعت في قراءته، ما الجديد الآن؟ ما العواصف التي سيثيرها في عقلي وقلبي؟

لا أزعم أبدًا أنني من المعجبات بشوبنهاور ولا بصورته العابسة على غلاف الرواية، فليس ذاك ما دفعني لقراءتها. لكني كنت أعلم جيدًا أنني سأجد ضالتي القرائية، بعد أن أصابتني لعنة الملل، وستنقذني مؤلفات الطبيب النفسي، إرفين يالوم، من حالتي هذه، خاصة بعد تجربتي القرائية الأولى له مع رواية «عندما بكى نيتشه».

«علاج شوبنهاور»؛ علت وجهي ابتسامة صفراء وأنا أقرأ عنوان الرواية، وأتخيل شوبنهاور إمبراطور التشاؤم معالجًا! وتردد السؤال: هل سيكون موضوع الرواية عن علاج ابتدعه شوبنهاور؟ أم عن علاج لسوداوية شوبنهاور ومعالجة روائية لفلسفته؟

حملت العتبة العنوانية للرواية تلك الإشكالية المشوقة التي يتنوع على إثرها أفق توقعات القرّاء من النص. يبدو أن يالوم يبدع في اختيار عناوين صادمة لرواياته تفترق عما نعرفه عن الفلاسفة الذين يقترن اسمهم بعنوان الرواية، كما في رواية «عندما بكى نيتشه»، ورواية «مشكلة سبينوزا» التي لم تترجم بعد إلى اللغة العربية، وهاهنا في رواية «علاج شوبنهاور».

لا يبدو الأمر غريبًا إذا علمنا أن المؤلف إرفين. د. يالوم هو طبيب نفسي يتبنى مدرسة العلاج النفسي الوجودي، التي ترى أن حل مشاكل الفرد يبدأ من استبصار الفرد بذاته وأفكاره وأن يتحمل مسؤولية التعامل معها.

الخوف من الموت أشد ألمًا من الموت نفسه.

تبدأ الرواية بمشهد للدكتور جوليوس، المعالج النفسي الذي يواجه خبر موته المؤكد بعد إصابته بسرطان الجلد (الميلانوما)، لم يتبق أمامه إلا سنة على أكثر تقدير، فكيف له أن يعايش حتمية موته وقد علت صافرة الإنذار إيذانًا بانتهاء مسيرته؟ تنهمر الأسئلة كوابل لا ينتهي متسائلًا: هل كانت لحياته معنى؟ وإذا كانت الحياة حالة مؤقتة، ذات حل دائم وهو الموت، فلماذا نخاف منه؟ أليس الخوف من الموت هو أشد ألمًا من الموت نفسه؟ كما قال شيللر! فما الذي سيخفف عن الدكتور جوليوس شعوره بثقل نهاية حياته؟

يبدأ الدكتور جوليوس بالبحث عن معنى لحياته، يستعرض مسيرته المهنية في العلاج النفسي وما فيها من إنجازات ونجاحات، متمثلًا مقولة نيتشه:

إن الشعور بالإنجاز، عند إكمال حياة المرء، يقلل من قلق الموت.

لكن، ألم يعش الدكتور جوليوس حياته التي يتمناها؟ أليس في ذلك عزاء له وفق فلسفة سينيكا:

لا يستمتع أي شخص بطعم الحياة الحقيقي إلا إذا كان راغبًا ومستعدًا لمغادرتها.

ها نحن نرى الدكتور جوليوس يقف وحيدًا في مواجهة موته، يغمض عينيه، يستنشق ما استطاع من أريج الحياة، هل ينسحب من الحياة، ويغرق في دوامة رثاء الذات قبل موتها؟ ما معنى أن يقوم بأي عمل الآن أو أي جهد، إذا كانت النهاية حتمية؟

في غمرة تلك الأعاصير الوجودية التي عصفت به وبالقارئ، نجد الدكتور جوليوس يبحث في سجلات مرضاه القدامى، لعل شعوره بأنه قد قدم شيئًا لهذه الحياة يخفف عنه وطأة الموت.

لعلنا جميعًا نسعى للخلود بأشكال مختلفة. لا يمكننا أن نحتمل فكرة أن نكون أثرًا عابرًا في هذه الحياة. ننسى كأننا لم نكن، كما قالها درويش، وسرعان ما سوف يتلاشى ذكرنا. هنا يطل كونديرا برأسه، يذكرني بروايته الرائعة «الخلود»، أشكره ممتنة لكرمه الفلسفي في معالجة تلك الفكرة التي شغلت الإنسانية، وأعتذر إليه، يتوجب عليّ العودة مجددًا إلى الدكتور جوليوس، رباه! الصفرة تعلو وجهه الآن! لم تكن تلك المكالمة المرجوة أبدًا يا دكتور، ألم تجد أحدًا من مرضاك لتحدثه سوى فيليب سلايت! لم تأتِ الرياح بما لا تشتهيه السفن فحسب، بل عصفت بها وكسرت صواريها ومزقت أشرعتها.

لقد تمثّل له فشله الطبي بأجلى صورة! فشله الذريع في معالجة فيليب من هوسه الجنسي القهري، ثلاث سنوات وسبعون ألف دولار أنفقها فيليب على جلسات العلاج الفردي، والنتيجة كما صدم بها الدكتور جوليوس، لم أستفد شيئًا! ما زال فيليب على جفائه وصراحته المباشرة التي تصل إلى حد الوقاحة، رغم مضي أكثر من عشرين عامًا على آخر جلسة علاج له مع الدكتور جوليوس! هل هناك فشل أكبر من هذا في مسيرته المهنية؟

تمضي الرواية ويلتقي الدكتور جوليوس بفيليب في مكتبه، لم يصدق الدكتور جوليوس نفسه وهو يقرأ لافتة على مكتب فيليب «معالج فلسفي» استشارات فلسفية، لابد أنها مزحة! مزحة لا يمكن فهمها؛ كيف لفيليب، المهووس بالنساء، الذي يفتقر لأبسط قواعد السلوك الاجتماعي، والذي ليس له طوال حياته صديق واحد أن يكون معالجًا؟ لم يتغير سلوكه الاجتماعي ولا فظاظته. لم تكن إجابة فيليب أقل غرابة حين رد على سؤال الدكتور جوليوس كيف تعافيت؟ فرد عليه بأن شوبنهاور هو وحده من استطاع علاجه!


مراقبة الحياة أم المشاركة فيها؟

إن العيش في أمان هو خطر، خطر عظيم.

يطلب الدكتور من فيليب أن يعلمه أسرار علاج شوبنهاور، يشترط فيليب على الدكتور جوليوس أن يشرف عليه لينال رخصة مزاولة مهنة المعالج الفلسفي، لكن الدكتور يطلب منه أن ينضم إلى جلسات العلاج الجماعي.

هنا تبدو المفارقة؛ كيف لفيليب الذي يتبنى فلسفة شوبنهاور الداعية إلى تجنب الآخرين، وبقاء الفرد مستقلًا عنهم، وترى في سوء الظن أمّ السلامة، وتنص على ألا تخبر صديقًا بالأشياء التي يجب ألا يعرفها عدوك عنك، وترى أن عدم إفساح المجال للحب والكراهية نصف الحكمة الشاملة، وأن عدم قول شيء وعدم تصديق شيء هو النصف الآخر، وأن تجاهل الآخرين يكسبك الاحترام، وأن الوسيلة الوحيدة لإبداء التفوق في التعامل مع الآخرين هي أن تُظهر لهم بأنك في غنى عنهم، ويحث شوبنهاور على اعتبار الأمور الشخصية أسرارًا يجب أن تظل محجوبة تمامًا حتى عن أقرب أصدقائنا، كيف يمكن لفيليب إذن المشاركة في جلسة العلاج الجماعي وكشف أسراره وخلجات صدره وهو يتبنى مثل هذه الأفكار؟

أليس من الأفضل مراقبة الحياة من بعيد على المشاركة فيها؟ ألم يجد العلاج ويشفى فيليب من هوسه الجنسي بعد أن اعتزل الحياة، واكتفى بدور المراقب؟

ولكن، في المقابل، كيف لنا أن نعرف حقيقية أنفسنا وقوتها أو ضعفها إذا احتفظنا بدور المراقب السلبي؟ أليست كل صفاتنا ادعاءً حينها؟ ألم يقل يومًا: إن الكل شريف حتى تظهر الغانية؟ ألم يقل نيتشه: «إن العيش في أمان هو خطر، خطر عظيم».

لكن، لماذا على فيليب أن يلقي بنفسه إلى الهاوية، ويعاود مخالطة الناس، وهو على قدر من الذكاء يفوق أقرانه؟ لماذا عليه أن يستمع إلى شكاوى باقي أعضاء المجموعة؟ ألا يذكرنا موقف فيليب الاعتزالي بموقف كثير من المثقفين الذين يعتزلون الحياة الاجتماعية؟ مرة بدعوى أن «الوعي مرض»، ومرة أخرى نلمس، استعلاءً تثاقفيًا، على من حولهم، وتتعالى شكواهم فهم لا يجدون من يفهمهم، وأن رفقة كتاب خير من مجالسة من حولهم بالمطلق! ويعيشون في دوامة الشعور بالاضطهاد والعدمية والسوداوية، مستشهدين بأقوال بعض الفلاسفة الذين لم يحرموا أنفسهم يومًا التمتع بوجبة شهية، وارتداء الملابس الفاخرة، والجلوس في المقاهي الراقية في باريس ولندن واحتساء أجود أنواع النبيذ، رغم مثالب الولادة والمياه التي بلون الغرق في كتاباتهم! أليست السلبية خيارًا مريحًا، لأنها تعفي المثقف من مسؤولية التغيير والمشاركة الفاعلة في الحياة؟

نعود إلى الرواية، حيث يكفل لنا يالوم حضور جلسات العلاج الجماعي، والتعرف على تقنياتها والاستماع إلى تفاصيل قصص المشاركين. نسحب كرسيًا ونجلس، نستمع، ندقق النظر في وجه أعضاء المجموعة: بام، وبوتي، وتوني، وجيل، وربيكيا، وستيوارت، وفيليب. كل من الأعضاء السابقين يعري سريرة نفسه أمام المجموعة، هموم حياتية تنبع من معايشة الحياة، فيما يبهرهم فيليب باستشهاداته بأقوال شوبنهاور، تنمسخ، تتلاشى شخصيته خلف تلك الاقتباسات الفلسفية التي يحتاج إلى شرحها ليفهمها الباقون. كيف عالجه شوبنهاور يا ترى؟

الهروب من الرغبة بالكامل، لأنه لا يمكن إشباعها، وإذا أشبعت نصل إلى حالة الملل، عندها نفكر برغبة أخرى وهكذا. لذا فالأفضل الهروب منها بالمطلق. هذا ما دعاه إليه شوبنهاور.

لكن، أليس في التنكر للرغبة بالمطلق موت قبل الموت؟ هل استطاع علاج شوبنهاور أن يثبت فعاليته؟ هل يمكن للإنسان أن يتجاهل رغباته الطبيعية ويعيش متسقًا مع الوجود ومتطلباته الطبيعية؟ هل يحتاج فيليب إلى علاج ينقذه من علاج شوبنهاور؟

قد تساعد قراءة هذه الرواية التي تجمع بين اُسلوب المقالة الفلسفية من خلال سرد فصول من حياة شوبنهاور، وتتبع مواطن فلسفته، وبين التحليل النفسي في جلسات العلاج النفسي في الإجابة على كثير من هذه الأسئلة الوجودية.

مشاعر متضاربة انتابتني أثناء قراءتها، تراوحت بين الدهشة والألم والتحسر على مجتمعاتنا، التي لم تبلغ بعد درجة من الثقافة النفسية والفلسفية تؤهلنا لنعترف بخبايا أنفسنا ونتبصر بعيوبنا. ونختار الراحة في الصمت على نواقصنا أو العيش في عذابات ذواتنا التي تتصارع بين واقعها العملي ونظرتها المثالية لما تتمنى أن تكون. وننسى ما قاله إريك فروم:

أنا إنسان، ولا يوجد شيء إنساني غريب علي.

عندها سنعلم جيدًا أن ما قاله شوبنهاور في أقرب أقواله إلى قلبي وأكثرها إقناعًا مما ورد في الرواية، قد يساعد في فهم الحياة ولتخفف من شعورنا بمأساويتها:

يجب أن نتعامل بتسامح إزاء كل حماقة أو ضعف، أو رذيلة إنسانية، وأن نضع نصب أعيننا أن ما يوجد أمامنا هي حماقاتنا وضعفنا ورذائلنا، لأنها أوجه ضعف البشرية التي ننتمي إليها أيضًا، وبذلك توجد لدينا نفس العيوب والنقائص الكامنة في داخلنا. ينبغي ألا نكون ساخطين من الآخرين على هذه الرذائل والحماقات فقط لأنها لا تظهر فينا في هذه اللحظة بالذات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.