أنا مهووس بالتاريخ، كان حلمي أن أكتب في التاريخ، أمتلك مئات المجلدات والكتب، وعشرات الآلاف من مخطوطات الكتابة التاريخية التي كتبتها بنفسي.
أمتلك أرشيف خاص بالرياضة التونسية والعربية ربما تستغرب من حجمه. أرشيف الرياضة التونسية مثلًا يحتوي على رياضات مختلفة مثل تنس الطاولة والمصارعة والمبارزة فأنا مجنون كل الرياضات.
إجابة المعلق التونسي عصام الشوالي عن سؤال ماذا لو لم يمتهن التعليق الرياضي.

لم تكن تلك الإجابة مفاجئة لمتابعي عصام الشوالي والمهتمين بأمره. الرجل بارع دومًا فيما يتعلق بالأحداث التاريخية سواء أثناء التعليق على المباريات أو من خلال الحوارات التي يظهر خلالها. كما أن ما يسرده من وقائع أو تواريخ عادة لا يمكن أن تكون نتاج تحضير بسيط قبيل المباريات. الرجل مهووس أو مجنون تاريخ بالفعل.

أما عن جنونه بالرياضات جميعًا وفي مقدمتها كرة القدم فتعبير «جنون الشوالي» هو الأقرب للذهن بحكم استخدامه كعنوان رئيسي في مئات الفيديوهات التي تحمل صوت الشوالي المتحمس كعلامة مسجلة.

يستخدم الشوالي تعبير الجنون عوضًا عن الشغف ويستخدم محبيه تعبير جنون الشوالي عوضًا عن الحماس ومن يتابع الرجل عن كثب في حواراته الصحفية قد يضيف للتعبيرين جنونًا أخر وهو جنون العظمة.

ما بين الشوالي المعلق الفذ صاحب الذهن الحاضر والشوالي المبالغ الذي يتعمد اختراع اللازمات التعليقية والسجع دون داع كانت شخصية الرجل الذي يحتمل أن تراه على الجانبين. كانت شخصية الرجل التي نشأت ومرت بمراحل تطور سنحاول أن نرصدها لعلنا نعرف سر جنون الشوالي.

جنون المعرفة: كالعادة الإجابة تونس

أستطيع التعليق بالإيطالية تمامًا مثلما أعلق بلغة الضاد. كما أستطيع التحدث بخمس لغات.
عصام الشوالي في نفس الحوار

من المؤكد أنك قابلت أحدهم يومًا، هؤلاء المغرومين بالأرقام والتواريخ والبحث والتنقيب عن أدق تفاصيل الأحداث، أصحاب الذاكرة الحديدية والقادرين دومًا على سرد التاريخ دون خطأ وحيدًا.

بالطبع الشوالي واحدًا من هؤلاء، حركه الشغف الرياضي نحو الاستزادة من المعلومات والتواريخ والأرقام الرياضية لكن لا يكفي الشغف وحده لتثقل تلك الموهبة، فقبل عصر الإنترنت كانت سبل الثقافة والمعرفة تحددها البيئة التي ينشا خلالها الفرد، ولحسن الحظ نشأ الشوالي في تونس.

يبرز الشوالي كنتاج مثالي لما تحتويه تونس من سبل التعلم والانخراط في الثقافات المختلفة. مثل كل مواطني تونس تعلم الشوالي الفرنسية منذ الصغر وصولًا للدراسة المتخصصة في الأدب الفرنسي. كما أنه أجاد الإيطالية عبر مشاهدة القناة الوطنية الإيطالية والتي كانت تبث تلفزيونيًا في تونس بمقتضى اتفاق بين البلدين.

وجد الشوالي بيئة مناسبة لتحصيل التعليم والثقافة وتعزيز شغفه بكرة القدم منذ الصغر. حيث تلقي بث الدوري الإيطالي عبر الإذاعة التونسية أسبوعيًا كما كانت مجلات مثل «فرانس فوتبول والليكيب واللاجازيت» تصل إلي تونس بشكل منتظم.

أنشأت تونس إذاعة الشباب والرياضة عام 1995 فكان الشوالي أول الناجحين ليبدأ العمل بالبرامج الرياضية محملًا بقدر هائل من الثقافة والمعرفة ثم نجح أخيرًا في اختبار التعليق ليبدأ مسيرة معلق يقدم للمشاهد العربي وجبة دسمة لم يعتد عليها من المعلومات الدقيقة والذهن الحاضر والسرد المتدفق للتواريخ والأرقام.

تستطيع ببساطة أن تدرك حجم الإضافة التي قدمها الشوالي للتعليق العربي إذا كنت قد حضرت بداية الرجل و ظهوره على ساحة التعليق. لكن ما صنع شهرة الشوالي الحقيقة لم تكن الأرقام أبدًا وهو ما لاحظه الرجل على الأغلب.

كان مقطع زيدان الشهير و تسجيله لركلة الترجيح ضد بوفون في نهائي كأس العالم 2006 بصوت الشوالي اشهر من أي تعليق رياضي في التاريخ العربي. كانت هوية الرجل في التعليق والأقرب للهوية اللاتينية هي العامل الأهم لشهرة الشوالي.

جنون الشوالي: ابن الصحراء وابن الخضراء

يتأرجح التعليق الرياضي دومًا ما بين مدرستين المدرسة الأوربية التي تتيح للمشاهد القليل من الكلام والكثير من التحليل إذا لزم والمدرسة اللاتينية التي تهتم بالتأثر بمجريات اللعب مثل المشاهد تمامًا بما يتضمن ذلك من صراخ وحزن وفرح والقاء نكات وهكذا، ينتمي التعليق العربي للمدرسة الأخيرة.

لا تصنع الأرقام وحدها معلق رياضي أبدًا وهو ما أدركه الشوالي في البدايات. حاول عصام الموازنة بين التعليق المفيد والتعليق المسلي كثيرًا إلا أن شهرة الرجل تحققت دون شك بفضل التعليق المسلي فكان التغير.

 استغل الرجل قدرته على الحديث المتدفق والمحافظة على السجع في وصف ما يحدث في المباراة لكي يطلق حماس المشجع داخله أثناء التعليق دون رجعة.

هو يغني ويبكي أثناء مباريات تونس ويصيح بالعامية المصرية أثناء مباريات الأهلي وينبهر حد الجنون إذا ما رأي ميسي ويتغزل برونالدو إذا ما أحرز كعادته دون توقف.

ظهر الشوالي بلازماته التي عرفت عنه بعد ذلك، « مش ممكن وزيزو ابن الصحراء والشرميطي ابن الخضراء» . قرر الرجل ألا يتخلى عن تلك الهوية اللاتينية التي يفضلها البعض ولا يفضلها آخرون. أصبح جنون الشوالي مسيطرًا على تعليقه على حساب الرجل صاحب المعلومات الدقيقة والمنمقة في البدايات.

لم يكن ذلك هو الانتقاد الأبرز الذي واجهه الشوالي فتلك مدرسة لها محبيها وكارهيها لكن الأزمة الحقيقة أن هذا الرجل يملك مخزونًا ثقافيًا وأراء وقيمة من الصعب أن تنحصر في دور المعلق صاحب اللازمات الذي يصيح طربًا ويبكي حزنًا فقط.

جنون العظمة: هكذا قال الشوالي

ما طرأ على الشوالي مؤخرًا لم يكن أبدًا تغير في طريقة التعليق لكن تكمن الأزمة الحقيقة أن الشوالي أقتنع تمامًا أنه الآن أصبح لديه رصيد يمكنه من إبداء رأيه دون تحفظ.

هو تارة يحسم الجدل ويؤكد بأن ميسي أفضل من مارادونا أو تنتهي مباراة بهزيمة برشلونة فيؤكد أن فالفيردي دمر الفريق دون رجعة. ينتفض ضد مشجعي الأندية والمنتخبات الأوروبية من الشباب العربي ليؤكد لهم أنه لا يوجد نادي أو منتخب أوروبي يستحق هذا التشجيع المخلص.

ربما لا يدرك الشوالي أن هناك الملايين الآن على علم بتكتيك المدربين والأدوار المركبة وما يحدث حقًا على أرض الملعب وأصبحت الأمور الفنية أهم من اللازمات المعتادة، فالتقدم الذي شهدته الساحة الرياضية العربية في مشاهدة كرة القدم كبير. وربما يكون السبب في ذلك كله هو نظرة الشوالي لكرة القدم والتي صرح بها في لقائه على قنوات beIN SPORTS.

صرح الشوالي أن كرة القدم تظل كرة القدم، مهما عظمت أهميتها فإن تفاصيلها تظل أقل أهمية بالنسبة للفرد من تفاصيل حياته الأسرية والعملية. فعلى سبيل المثال إذا أخبره ابنه أنه لم يحصل درجات جيدة في مادة ما في دراسته فإن مزاجه سيكون أسوأ ما يمكن ولن يركز في التفاصيل الفنية الصغيرة التي قد تخلق الجدل التكتيكي بين الجماهير.

ربما مصطلح جنون العظمة يبدو ثقيلًا بعض الشيء لكنه فقط يبدو مناسبًا ليضاهي جنون الشوالي الذي ينتج عنه فيديو كل يوم. ربما الأقرب للواقع أن الشوالي نفسه أصبح أكبر من الدور الذي حصر نفسه لسنوات كمعلق متحمس مجنون. والحقيقة أن شوالي البدايات كان أكثر تماسكًا ووضوحًا لكن شوالى الآن هو النسخة الأقرب لإدارة البرامج الرياضية لا للتعليق الرياضي.