مائة عام بالتمام على بداية الكارثة الكبرى التي عصفت بالبشرية منذ مطلع مارس عام ١٩١٨م. سيسارع أيُّ عارفٍ بالتواريخ إلى افتراض أنني أتكلم عن الحرب العالمية الأولى، والتي كانت تشهد فصولها الأخيرة عام ١٩١٨. لكن هذا افتراض خاطئ.

على مدى أعوامها الأربعة فتكت الحرب العالمية الأولى بأرواح 16 مليونًا من البشر فحسب، أما الكارثة التي نتحدث عنها فقد أصابت نصف مليار إنسان حول العالم -ما يعادل ثلث سكان العالم في ذلك الوقت- في أقل من ٣ سنوات! هلك منهم في أقل تقدير من ٢٠ إلى ٥٠ مليون إنسان، بينما ترجح تقديراتٌ أخرى أن العدد تجاوز ١٠٠ مليون.

إنه الوباء الأضخم في التاريخ الحديث، وباء الإنفلوانزا الإسبانية. الذي لم تعرف الأرض جائحة أضخم منه سوى طوفان نوح، و الطاعون الأسود الذي حدث في القرن الرابع عشر الميلادي وأطاح بأرواح ثلث سكان أوروبا آنذاك.


الإنفلوانزا؟

مرض الإنفلوانزا الذي تسببه عائلة الفيروسات التي تحمل الاسم نفسه، يبدو لأكثرنا الآن أليفًا للغاية، ومعتادًا، إذ لا يكاد يمر عامٌ على أحدنا، خاصة في موسم الشتاء، إلا ويُصاب بدور أو اثنين من الإنفلوانزا الموسمية. ولا تحتاج القصة من أكثرنا إلا إلى الراحة لبضعة أيام، وتناول بعض المسكنات خافضة الحرارة، والمشروبات الدافئة، والعصائر الطبيعية الغنية بالفيتامينات كالليمون… إلخ حتى يشفى تمامًا دون مشكلات كبرى.

انظر: مجموعة البرد .. هيا ندمر المناعة ونغذي البكتيريا

لا يخلو الكلام السابق من حقائق، خصوصًا أن معظم فصائل الإنفلوانزا يتوفر لها الآن التطعيم السنوي للإنفلوانزا بسعرٍ في متناول الكثيرين، ويتم تحديثه سنويًا بالأجسام المضادة للفصائل الجديدة التي تظهر نتيجة تحورات في فيروسات الإنفلوانزا التقليدية. هذا التطعيم وإن كانت فعاليته في المنع التام للإنفلوانزا محل شك، إلا أنه على الأقل يجعل فرص الإصابة أقل من النصف، وكذلك يخفف شدة الإصابة، ويقلل احتمالات حدوث المضاعفات.

كذلك من أسباب استهانة البعض بالإنفلوانزا أنها لم تبرز إلى الواجهة كوباء خطير في السنوات الأخيرة إلا فترات محدودة مع انتشار إنفلوانزا الطيور، وإنفلوانزا الخنازير. لكن كليهما لم يقتلان من البشر حول العالم إلا الآلاف فقط.

إذن، فسوى حقيقة أنه لم يكن في مطلع القرن العشرين قد توافر بعد تطعيم الإنفلوانزا، لماذا نجحت الإنفلونزا الموسمية في الفتك بأرواح الملايين من البشر آنذاك؟


قدرات فيروسية استثنائية

تمتلك فيروسات الإنفلوانزا إجمالًا قدرةً استثنائية على الانتشار من المصاب إلى السليم. فالرذاذ المتطاير من عطس المريض، أو حتى أنفاسه، قادر على الولوج مباشرة إلى جهازك التنفسي، حاملًا في طيّاته الملايين من نسخ الفيروس، وإن كانت المسافة الفاصلة بينكما مترًا كاملًا، وأحيانًا من مسافةٍ أكثر، إن كنتما في مكانٍ غير جيد التهوية، كغرفة مزدحمة، أو وسيلة مواصلات متكدسة… إلخ. كذلك يمكن أن تغزوك فيروسات الإنفلوانزا من لمس يديْكَ لأية بقعة حمَّلَتْها يد المصاب بالفيروس، كهاتفه الذكي مثلًا، أو مقبض الباب، أو الحائط، أو سور الدرج… إلخ، ثم تنقلها يدك عن غير قصد إلى جهازك التنفسي.

كذلك يصبح المريض مصدرًا لنقل العدوى قبلَ يومٍ أو اثنين من ظهور الأعراض، ثم طوال مدة الدور، والتي قد تتراوح بين 5 و10 أيام. لا شك في أن العوامل السابقة أسهمت في ذلك الانتشار المدوي للإنفلوانزا الإسبانية، لكن ألا يوجد ما تميزت به عن باقي فصائل الإنفلوانزا؟

حتى الآن ما زال العلماء حائرين فيما حدث، فالفحوصات المكثقة لعينات من رئات بعض ضحايا الوباء لم تظهر شيئًا مختلفًا في فيروس الإنفلوانزا الإسبانية يفسر كل هذا الفتك. يحاول بعض الباحثين تقديم تفسير -تدعمه بعض الدراسات– مفاده أن أغلب من أصيبوا بالفيروس في الوباء كانوا قد أصيبوا قديمًا بأنواعٍ أخرى من الإنفلوانزا غير النوع الذي سبب الوباء، فلما أصيبوا به كان رد فعل جهاز المناعة مبالغًا فيه لسابق تحفزه وتحسُّسِه من الإصابات القديمة، مما سبَّب ضررًا كبيرًا في أنسجة الجهاز التنفسي والوفاة نتيجة التفاعلات المناعية الزائدة عن الحد. وهناك تفسير قريب من السابق، هو أن فيروس الإنفلوانزا الإسبانية نشأ من طفرة خاصة في فيروس معتاد، هذه الطفرة أكسبته قدرة عالية على إثارة حساسية خلايا المناعة بالجسم، ودفعها لإفراز كميات كبيرة من أسلحتها الكيمائية المعروفة باسم cytokines، والتي سببت دمارًا كبيرًا في ساحات المعركة، وهي أنسجة أجسام الضحايا.

تفسير آخر يبدو أكثر واقعية، مفاده أن فيروس الإنفلونزا الإسبانية لا يختلف عن فيروسات الإنفلوانزا الموسمية المعتادة، لكنه حقق هذا الانتشار الاستثنائي، والفتك، باستغلاله الأوضاع غير الصحية التي ضربت أجزاء كثيرة حول العالم بسبب الحرب العالمية الأولى، عدم التمكن من التخلص اللائق صحيًا من جثث ملايين الضحايا، والتهجير القسري في ظروف صعبة للكثير من السكان، والازدحام غير الإنساني في السفن والخنادق والمشافي الميدانية… إلخ. هذه الأوضاع غير الصحية تعطي الفيروس فرصًا للانتشار الكثيف، وكذلك تسبب الإصابة بالكثير من أنواع العدوى التنفسية البكتيرية (في زمن ما قبل المضادات الحيوية) فيتواطأ كل من الالتهاب الفيروسي والبكتيري على تدمير أنسجة الجهاز التنفسي.

كذلك في عام 2008، أعلن بعض الباحثين أن 3 جينات مختلفة في فيروس الإنفلوانزا الإسبانية قد تكون هي المسئولة عن قدراته الفاتكة ضد الشعب الهوائية، وأنسجة الرئة.

إذن، لا يعرف أحد بشكل حاسم ما المختلف في الإنفلوانزا الإسبانية، والأهم أنه ليس بإمكان أحد ضمان تجنب تكرار مثل هذا الوباء الكوني في أي وقت.

جديرٌ بنا لذلك أن نتعرف على ما أصاب أجدادنا قبل مائة عام، وقد يصيبنا أو يصيب أحفادنا، أو على الأقل يحل قريبًا من ديارنا.


حقائق عن جائحة الإنفلوانزا الإسبانية

شاهد هذا الفيديو المبسط عن هذه الجائحة العظمى التي طوَّقت العالم في 18 شهرًا من عامي 1918-1919، حتى وصلت إلى جزر جنوب المحيط الهادي، وأستراليا، مرورًا بأوروبا والبرازيل وأفريقيا.

  • يتبع الفيروس المسبب للإنفلوانزا الإسبانية عائلة الإنفلوانزا A، ويحمل الكود الجيني H1N1 مثل فيروس إنفلوانزا الخنازير الذي ضرب أجزاءً حول العالم منذ سنوات مخلِّفًا آلاف الضحايا.

  • رغم وصفها بالإسبانية، فإن أولى الحالات التي حملت الوباء ظهرت في أحد معسكرات الجيش الأمريكي بالولايات المتحدة الأمريكية. حمل الجنود المصابون الفيروس إلى أوروبا مع الإنزالات العسكرية الأمريكية المتتالية لحسم المعركة لصالح الحلفاء ضد ألمانيا.

  • خُلدت باسم الإسبانية رغم أن مصدرها كان الولايات المتحدة الأمريكية، لكونها انتشرت في إسبانيا بشكل مهول، حتى فتكت بأرواح ما يقارب ٨ ملايين إسباني، حتى يُذكر أن ملك إسبانيا ألفونسو الثالث عشر كان من ضمن المصابين. ويكفينا لتبين ضخامة هذا العدد أن نذكر أن الحرب الأهلية الإسبانية المدمرة، في سنواتها الثلاث ١٩٣٦-١٩٣٩، قضت على ربع مليون إنسان فحسب!

  • كانت الغالبية العظمى من ضحايا الجائحة من الشباب الأصحاء، فكان متوسط عمر الضحايا 28 عامًا، رغم أن المعتاد في وفيات الإنفلوانزا أن تتركز في الأطفال الصغار أو كبار السن فوق الـ 60 عامًا، خصوصًا المصابين بأمراض مزمنة في الصدر، أو ضعف وراثي في المناعة… إلخ، ولعل هذا يصب في صالح نظرية رد الفعل المناعي الزائد عن الحد، فالشباب الأصحاء يمتلكون أجهزة مناعة قوية.

  • جاءت الموجة الأولى للجائحة في ربيع 1918 محدودة الخسائر، ثم أعقبتها موجه فتاكة في أواخر صيف وخريف 1918، وهي التي أودت بأعدادٍ هائلة من الضحايا.

  • مات بالوباء في الولايات المتحدة الأمريكية في شهر أكتوبر 1918 وحده حوالي 195 ألفًا من أصل حوالي 700 ألف هم جملة ضحايا الوباء الأمريكيين.

  • هبط متوسط العمر في الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 12 عامًا في فترة الوباء.

  • فقدت الهند حوالي 5% من مجموع سكانها بسبب هذا الوباء.

  • خسر الجيش الأمريكي عددًا أكبر من أرواح جنوده في الوباء مقارنة بالحرب العالمية الأولى نفسها. تذكر الإحصائيات كذلك أن 40% من جنود البحرية أصيبوا بالوباء، وأن 36% من مجموع جنود الجيش الأمريكي أصيبوا به، وقد أسهم هؤلاء مع تحركاتهم الواسعة حول العالم في نشر الوباء أكثر وأكثر.
  • انتقلت العدوى للرئيس الأمريكي ويسلون عام 1919 أثناء مفاوضات معاهدة فرساي التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى.
  • حاولت بلدة نيويورك الأمريكية تقليل انتشار الوباء ببعض الإجراءات، كمنع البصق في الشوارع، وكالتنبيه على المحلات أن تفتح أبوابها في مواعيد غير معتادة حتى لا يزدحم الزبائن فيها فجأة، وكذلك بقصر مدة الجنازات على 15 دقيقة لا أكثر لتقليل فرص الازدحام، مع توزيع أقنعة الوجه على التجمعات… إلخ.
  • كانت الحالة الإكلينيكية للمصابين تتطور بشكل شديد السرعة، فخلال ساعات أو يومين على الأكثر يحدث التهاب رئوي شديد فالوفاة.
  • أواخر عام 1919، بدأ الوباء في الانحسار نتيجة إما وفاة المصابين، أو نجاتهم وقد حملوا مناعة ضد الفيروس.