ظهرت «الدولة» للوجود بمعناها التقليدي القديم قبل خمسة آلاف سنة فقط قبل الميلاد على أقصى تقدير، طبقًا لبعض المؤرخين. وقامت في أول ظهورها على ثلاثة أرجل: الأولى، الاحتفال وتنظيم المهرجانات المبهرة، والثانية، تطبيق عقوبة الإعدام على المجرمين والمخربين، والثالثة، توزيع القمح وغيره من المحاصيل على الرعية في مواسم الحصاد.

كان أول ظهور الدولة بهذا المعنى في وديان الأنهار التي تشكلت حولها الحضارات القديمة الكبرى وهي: نهر النيل، ونهر الجانج، والنهر الأصفر، ودجلة والفرات. وتفيدنا المراجع التاريخية الموثوقة أنه: حتى القرن الرابع عشر الميلادي كانت المجتمعات ذات الدولة أقل بكثير من تلك التي بلا دولة. هذا مع ملاحظة أن مفهوم الدولة نفسه قد تغير من حقبة زمنية إلى أخرى. وبسبب هذا التغير اختلف العلماء في التأريخ لنشأة أول دولة في التاريخ.

وعلى أي حال، فإن كل ما قلناه، لا ينفي أن الكائن المعنوي الذي نسميه «الدولة»، أو قد يحمل أي اسم آخر، لا غنى عنه لانتظام الحياة الإنسانية. ويقرر البعض أن كلمة «دولة» (=State) لم تظهر في الخطاب السياسي الرسمي وغير الرسمي حتى القرن السادس عشر الميلادي، صحيح أن الدولة هي أسوأ اختراع سياسي اجْتَرحَهُ الإنسانُ في تاريخه، ولكن الحقيقة هي أن هذا الإنسان لم يكن أمامه إلا أن يخترع هذا الكائن أو شيئًا آخر يشبهه، كي تنتظم الحياة الجماعية، وتترابط المصالح المشتركة، وتستقر الأحوال السياسية والأمنية بالحدود الدنيا اللازمة لانتظام الاجتماع الإنساني، ومن ثم لنشوء العمران والحضارة. وفي كل الأحوال كانت نشأة المدن أسبق من نشأة الدول، وكانت نشأة المجتمعات أسبق من نشأة المدن، وكانت الأسرة هي النواة الأولى للمجتمعات.

من المنظور القانوني، كان أول ظهور لفكرة «الدولة القانونية» في الفلسفة اليونانية على يد «أفلاطون». ولكن دولته القانونية ظلت حلمًا لآماد طويلة؛ قبل أن تجد طريقها للتطبيق جزئيًا؛ بسبب غلبة مثالية أفلاطون على أفكاره، في مقابل غلبة الواقعية على مجريات الحياة الاجتماعية التي تجمع في أغلب الأحيان بين الخير والشر، والنفع والضر، والقبح والحسن.

ومن مجمل المعطيات التاريخية لنشأة الدولة، يمكن أن نقدم تصورًا تقريبيًا لمسار نموها منذ مولدها مرورًا بتطورها في المجتمعات البشرية. هذا التصور نفترض فيه أن عمر البشرية سنة واحدة (اثنا عشر شهرًا)، وعليه وبحسب بعض المؤرخين فإن معطيات الدولة ووقائعها في تاريخ البشرية تؤكد أنها لم تظهر إلى الوجود إلا في الأسبوع الأخير من السنة، أي في يوم 25 من ديسمبر. وأن التجمعات البشرية ظلت معظم شهور وأيام السنة بلا دولة بالمعنى السائد الشائع للدولة الحديثة. وتؤكد تلك المعطيات أن الدولة لم تشمل كل مساحة الكرة الأرضية إلا في نصف الساعة الأخير من السنة، أي بالضبط في الساعة 23.30 من يوم 31 من ديسمبر. هذا عن أصلها بالمعنى التاريخي، وهو يقل في أهميته كثيرًا عن أصلها في الفكر الإنساني. فأصل فكرة الدولة في الوعي الإنساني أكثر تعقيدًا وأشد مراوغة من أصلها التاريخي الزمني، وأكثر غموضًا من أصلها القانوني.

من حيث الأصل التاريخي، نجد أن أكثر ما توضحه فكرة الدولة وتاريخ نموها، وفق بعض النظريات هو: أن تاريخها نفسه هو تاريخ نمو الحصة المقتطعة من حصيلة إنتاج الكادحين في مختلف الأعمال الإنتاجية، يعني أن تاريخها هو تاريخ الضرائب العادلة أو غير العادلة. ففي مصر الفرعوينة مثلًا، كانت الدولة (السلطة الحاكمة) تقتطع 10% على الأقل من إجمالي الناتج القومي وتَرْكُمُهُ في الخزانة العامة؛ لكي تمول مشروعاتها، وتنفق على مظاهر البذخ ولذائذ الحكام وأعوانهم. وكان جهاز الدولة لا يتعدى 1% من إجمالي السكان (كانوا في تلك الأزمنة السحيقة لا يتجاوزون خمسين ألف موظف من إجمالي خمسة ملايين نسمة على وجه التقريب).

ويوضح تاريخ الدولة عبر الأزمنة المختلفة أيضًا أن الحضورَ الطاغي لقوتها المادية المجردة؛ فالدولة البروسية مثلًا اتخذت صهوة الجواد رمزًا لها في عهد «فرديريك الأكبر» الذي أسسها على العنف، وضم أراضي الغير بالقوة المسلحة. وفي العصر الحديث اتخذت دولٌ عدة شعارات تؤكد دور القوة في تأسيسها، واتخذت دولة منها السيف رمزًا لها تخليدًا لتاريخ تأسيسها على أسنة الرماح، وإعمال السيف في رقاب المعارضين، والاستيلاء على مناطقهم بالقوة القهرية والاستيلاء على ممتلكاتهم وسبي نسائهم.

ما يتعين التأكيد عليه هنا هو أن الدولة بمفهومها التاريخي ليست قدرًا كليًا أو حتميًا في حياة البشرية؛ وإنما هي كائن حادث أو مصطنع. وقد نما هذا الكائن وتطور عبر تجارب طويلة ومريرة ومتنوعة. وكما يولد هذا الكائن ويشب ويقوى، فإنه يضعف ويهرم ويموت وينقطع من الوجود. وقد كان هذا الكائن شرًا لا بد منه، اخترعه الإنسان كما أسلفنا ليضمن حدًا أدنى من الأمن والاستقرار اللازمين لبقاء نوع الإنسان، وحصول التسالم العام بحسب «الفارابي»، ونشوء التمدن والعمران بحسب «ابن خلدون».

لقد سبق للعلامةِ ابن خلدون أن لاحظ دورة قيام وسقوط الدولة من منظور اجتماعي سياسي عمراني. وكان مدركًا ببصيرته التاريخية النافذة أن الدولة في فضاء الاجتماع السياسي الإسلامي تعني: سلطة أسرة حاكمة، تستمر لفترة زمنية، وتحكمها سنن صارمة في قيامها ونموها وتدهورها وانهيارها، أو موتها. وعنده أن قصة الدولة تبدأ بأن تنهض أسرة قوية بتدبير شئون الجماعة وحفظ الأمن وإدارة الخير العام. ولأنها تقوم ببسط الأمن والاستقرار، فإن الرعايا ينصاعون أو أغلبهم لأمرها ونهيها. ولكن بعد أن يستقر الأمر لهذه الأسرة/ الدولة، يأخذ الأبناء في الركون إلى الدعة والراحة، ومن ثم يدخلون في طور الترف والبذخ والمظالم، إلى أن تهرم دولتهم وتتداعى، ويؤول أمرها إلى الزوال والانقطاع من الوجود الاجتماعي والسياسي، ومن هنا تنشأ دولة جديدة بصعود أسرة قوية تحل محل الأسرة المتهالكة وهكذا..

ربط ابن خلدون صعود وسقوط الدولة بعنصرين جوهريين وواقعيين في آن واحد هما: الدعوة الدينية: أي القوة المعنوية أو الروحية التي يدين بها السواد الأعظم من الناس الواقعين تحت سلطان صاحب السلطة، والعصبية القبلية: أي القوة المادية والعسكرية التي يستند إليها صاحب السلطة في بناء أركان دولته وتسيير شؤونها. ثم تدنى مفهوم الدولة بهذا المعنى الخلدوني التقليدي وانحدر إلى مستوى أقل عمومية، وأصبحت الدولة في سياق الاجتماع السياسي الإسلامي عبارة عن رجل قوي البطش، ومهاب الجانب. ينجح في تأسيس مملكةٍ بحد سيفه، وتبقى ببقائه وتزول بزواله، أو لا تستمر من بعده كما كانت في عهده، في أغلب الأحوال، ولهذا التدني، أو الانحدار، أسباب كثيرة بعضها داخلي وبعضها خارجي.

كان ابن خلدون يرى أن العمران هو أعلى مقاصد السلطة/ الملك. وأدرك أن هذا العمران لا يقوم إلا بالعدل. وأكد كثيرًا على أن العدل هو أساس ازدهار الدولة وبقاء المُلك؛ بما أنه شرط العمران وبأيْسَرِ نظرٍ؛ اكتشفَ ابن خلدون أن «الظلم مؤذن بخراب العمران»، ومن باب أولى بزوال الدول وموتها. والاقتباس التالي يوجز وجهة نظره بما لاحظه في سياق وقائع التاريخ الإسلامي في منتصف القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، يقول:

هذا إلى ما نزل بالعمران شرقًا وغربًا (يقصد شرق بلاد المسلمين وغربها) في منتصف هذه المائة الثامنة (للهجرة) من الطاعون الجارف، الذي تحيَّفَ الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيرًا من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها؛ فقلص من ظلالها، وفلَّ من حدِّها، وأوهن من سلطانها. وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها. وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر؛ فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخربت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل. وتبدل الساكن؛ وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه. وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها، وإذا تبدلت الأحوال جملة؛ فكأنما تبدل الخلقُ من أصله، وتحول العالمُ بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالمٌ محدثٌ.

ما نفهمه من كلام ابن خلدون هو أن الدولة في زمنه تعرضت للانقطاع، وأن مشرق العالم الإسلامي ومغربه شهد ولادة دولة أو دول جديدة، وكأنه «خلق جديد ونشأة مستأنفة» بتعبيره. وفي ثنايا ثنائية الانقطاع والنشوء، حسب المفهوم الخلدوني لتاريخية الدولة؛ نلاحظ أن الدولة التي تحدث عنها كانت أكثر إنسانية ورأفة بالبشر حتى في حال ظلمها وقهرها مقارنة بالدولة الحديثة. فالدولة التي تحدث عنها ابن خلدون هي في نهاية الأمر جزء من كل، ووسيلة وليست مقصدًا في ذاتها أو لذاتها. وهي خاضعة لسُنَّة الحياة والموت، ولقانون العقل والشرع في الآن ذاته، وليست مفارقة للجماعة أو فوقها ولا هي متعالية عليها. وهذا التصور يناقضه تصور الدولة الحداثية، الحادثةُ في مسار النهضة الأوروبية، وبخاصة بمفهومها الوستفالي الذي جعلها تبدو كيانًا كليًا وأبديًا لا يسري عليه قانون الحياة والموت، ومفارقًا ومهيمنًا ومستوعبًا لكل تفاصيل الحياة الاجتماعية، وجعلها واقعةً على مستوى أعلى من الحياة الواقعية، ووضعها في دائرة بعيدة.

ويذكرنا بعدها وتعاليها في مفهومها الحداثي ببعد الآلهة في الميثولوجيا القديمة لدى الشعوب البدائية، كما يذكرنا بما ذهب إليه عدد من كبار المفكرين والفلاسفة الغربيين من أمثال: «هيجل»، و«ماركس»، و«غاستون بوتول»، و«جورج بالاندييه»، وغيرهم، من أوصاف مجرد تضع الدولة في مكانة سامية، وتجعلها في الوقت نفسه مطمعًا للقوى المتصارعة من أجل النفوذ والسلطة والمال.

الدولة بالمعنى الخلدوني تولد وتموت، تشب وتقوى ثم تهرم وتضعف، تزدهر وتضمحل. توجد ثم تنقطع. أما بالمعنى الوستفالي الحداثي فهي كيان حلولي أبدي سرمدي. كيانٌ يسعى لتعويض السلطة الثيوقراطية الاستبدادبة بثوب مدني ديمقراطي. هي دولة وُجدت لتبقى ولتنمو نموًا خطيًا وأبديًا لا رجعة عنه، ولا مهرب للمواطن منها. هي أخطبوط، أو هيدرا لها ألف ذراع وذراع، ورأس واحدة، هي: الليفياثان (وحش أسطوري له مخالب لا يفلت منها أحد) بحسب تعبير «توماس هوبز». هي كائن تزيد قوته كلما تعددت وظائفه وتوسعت أدواره. يؤكد «غاستون بوتول» في اجتهاداته بشأن أصول الاجتماع السياسي للدولة الحداثية في التجربة الأوروبية، إن قوة الدولة تترسخ كلما توحدت أهدافها الاقتصادية، والدينية، والثقافية، والتعليمية، والقضائية، والحمائية/ الحربية.

الدولة كائن حادث في تاريخ الإنسان، وليس صحيحًا أنها كائن أزلي، أو أن البشرية عرفتها منذ بدء التاريخ، أو أنها ستظل قدرًا مقدرًا عليها إلى نهايته. وليس صحيحًا كذلك أنها مقصد إنساني في ذاتها لدى جميع شعوب الأرض وأممها على مر الأزمنة. فالثابت تاريخيًا هو أن البشرية عاشت في تجمعات بلا دولة، وبلا سلطة مركزية في معظم مراحل تاريخها. ولا يوجد دليل قطعي حتى الساعة على أن البشرية كانت أقل سعادة قبل نشوء الدولة بمعناها الحديث، عما بعد نشوئها. ولكن لا يبدو في الأفق المنظور أن البشرية ستجد مهربًا لها من هذا الكائن، ولكن المنطق الصحيح يقول: إن كل ما كانت له بداية، لابد له من نهاية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.