نشرت الجارديان البريطانية في يناير 2016 تقريرًا خطيرًا عن دراسة أجريت بين الأطباء البريطانيين، وأظهرت إقرار أكثر من 86% من المشاركين أنهم أصبحوا يمارسون الطب الحذر، وذلك بالقيام بالجراحات، والتدخلات الطبية المعتادة ذات معدلات النجاح العالية، ويتجنبون ذات الاحتمالات الأسوأ، مهما كان المريض بحاجة إليها، وذلك لتصاعد موجة المساءلات القانونية للأطباء عن وفاة مرضاهم.

تحدث بعض المشاركين كذلك عن أن وضع الجراحين خصوصًا في قفص الاتهام، ومحاكمتهم بالقتل الخطأ، أصبح هاجسًا لديهم يفسد العلاقة مع مرضاهم. وأكد 90% من المشاركين أن هذا سيؤدي إلى عزوف الأطباء الجدد عن اختيار التخصصات الخطيرة والدقيقة.

تأتي هذه النتائج المزعجة في بلد متقدم، يمتلك ترسانة من القوانين الدقيقة التي تؤطر لحقوق الأطباء والمرضى. ويحصل أطباؤه على مقابل مادي ومعنوي مناسب، فيجدون وقتًا وفائضَ جهد للتفاعل الإيجابي مع المرضى وذويهم. ويجدون منهم في المقابل درجة من الوعي والعلم.

فما بالنا ببلادٍ على الجانب المظلم من الكوكب، قانونها هو العشوائية والتصيُّد، ويتقاضي أطباؤها الدخول الأقل في العالم، فيدورون في دوامة اللهاث وراء الرزق فلا يجد أكثرهم وقتًا للاستحمام حتى، فكيف يجد وقتًا للشرح والإقناع لعقليات ينقصها الكثير من الوعي والعلم! وفي المقابل، لا يأمن أكثرهم على نفسه من الاعتداءات المتكررة من ذوي المرضى وأصحاب السوابق الإجرامية أثناء أداء عملهم، ويزيد الطين بلة أن أصبحت تسلية إعلام الإثارة الثابتة فيها هي تسليط الأضواء دون موضوعية على أخطاء الأطباء والجراحين.

وشاهدنا مؤخرًا قضية المصرية إيمان عبد العاطي التي تعاني من سمنة مرضية مفرطة، والتي تطوع فريق طبي هندي لعلاجها في مومباي. ثارت زوابع متناقضة من الأخبار، وتفرق دم القصة في الإعلام حتى وصل الأمر لأن يقدم الطرفان -الجراح وأهل إيمان- روايتيْن بينهما ما بينَ المشرقيْن والمغربيْن! الطبيب يدعي أن وزنها الذي كان نصف طن أصبح 170 كجم، ويعلن عن صدمته من جحود أهل إيمان لجهوده التي يراها استثنائية. بينما أختها وأمها ترميانه بالنصب، وتستنجدان في كل مكان لإنقاذ حالة إيمان التي يدعيان أنها تدهورت بشدة بعد الجراحة. وآخر التطورات أنه قد يتم نقلها إلى دبي لاستكمال علاجها.


التسلسل المنطقي – المنقطع غالبًا – لإجراء جراحة

1. يجد الجراح المختص الوقت والظرف الملائم للكشف الجيد على الحالة، فيتخذ قرار الجراحة على أسس علمية وواقعية سواء كانت طارئة أو لاحقة.

2. يطبق الطبيب ما تعلمه – المفترض كذلك – جيدًا من الطب ومهارات الاتصال وأخلاقيات المهنة وجوهرها احترام إرادة المريضautonomy، وجلب المصلحة benificence وتجنب المفسدة non-maleficence . فلا يبدأ بأي تدخل إلا بعد أن يقدم خطة وافية تتضمن ما قبل وأثناء وما بعد إجراء العملية، يشرح فيها فيما قلَّ ودلَّ للمريض – إن كان واعيًا قادرًا على اتخاذ قراراته – أو ذويه الأقرب فالأقرب – إن كان وعيه غائبًا أو يعاني من مرض نفسي يمنع اتخاذ القرار – كل ما يتعلق بمسار الحالة دون إجراء الجراحة، وفوائد الجراحة، وآثارها الجانبية المحتملة. وكذلك البدائل العلاجية إن وجدت ومقارنتها بالجراحة.

3. يمتلك متخذ القرار سواءً كان المريض أو ذووه الحد الأدنى من الوعي الطبي ومهارات الاستماع، فيستوعب ما أخبره به الطبيب، فيتخذ قراره بالموافقة – أو الرفض – على أساس سليم.

4. بعد استيفاء ما سبق، يتم التوقيع على الإقرار بالموافقة بعد العلم informed consent. وهناك مراجعة دائمة للصيغ الحالية من الإقرار للتطوير وتعظيم الفائدة. أو الإقرار بالرفض بعد العلم informed refusal. وذلك حفظًا لحقوق الطرفين القانونية.

5. عندما تمثل الجراحة خطورة كبيرة، سواءً لصعوبتها كجراحات القلب المفتوح مثلًا، أو لوجود عوامل خطورة جراحية كالسمنة المفرطة، أو الفشل الكبدي أو ضعف عضلة القلب .. الخ. فلابد من استخدام إقرار الخطورة الشديدة high risk informed consent والذي يتضمن تفاصيل دقيقة للمضاعفات المحتملة بما فيها الحاجة للتنفس الصناعي، أو الوفاة. وكذلك توثيق رغبة المريض في القيام بـ/ عدم القيام بالإنعاش القلبي الرئوي في حالة توقف عضلة القلب.

6. الأمر أكبر من مجرد ورقة وإمضاء. لابد أن يغلف المسار كاملًا أجواء من الاحترام والثقة المتبادلة بين الطرفين.

7. غير مسموح بتجاوز ما سبق إلا في حالات الخطورة الشديدة التي تستدعي التدخل الجراحي الطارئ للغاية لإنقاذ حياة المريض دون رفاهية وجود وقت للشرح والتفصيل والإداريات. وفي غياب مناخ الثقة، وفي أجواء التصيُّد، يكون هذا من المداخل الشهيرة للمشاكل.

غني عن الذكر أن المسار المذكور أكثر وضوحًا ورسوخًا في البلاد المتقدمة كالولايات المتحدة وأوروبا، بينما شبه منعدم أو على الأقل مضطرب في اللا منظومة التي نمتلكها، والتي تكون فيها فترة ما قبل العملية معركة حقيقية ومفاوضات ووسائط لحسم التكاليف المادية، ولمحاولة كل طرف أخذ ضمانات على الطرف الآخر لاستخدامها عند حدوث ما لا يحمد عقباه!


لماذا قد تبدأ الجراحة في غرفة العمليات وتنتهي في ساحات المحاكم؟!

غالبًا ما تنفجر المشكلات عند فشل الجراحة أو حدوث المضاعفات. ومكامن الشر الرئيسية هي ما يلي:

حالة التحفز وفقدان الثقة السائدة بين المرضى والجراحين. الأولون يرون الجراحين يتاجرون بآلامهم، ويعتصرون أموالهم ليعيشوا بها في بذخ. بينما يرى الجراحون في المرضى وذويهم قنابل موقوتة، وكمائن مفخخة قد تنفجر في أي لحظة. ولذا كثيرًا ما يطلبون توقيع المريض على إقرارات مرعبة تحمله المسئولية الكاملة عن أي مضاعفات قد تحدث، وإخلاء طرفهم تمامًا.

1. تسرع بعض الجراحين في أخذ قرار التدخل الجراحي، سواء بحجة التعلم بالممارسة، أو الحسم السريع للحالة، أو لاعتبارات مادية.

2. تقصير كثير من الأطباء في الشرح الجيد للمريض – أو ذويه الرئيسيين من الدرجة الأولى والثانية عند الحاجة إليهم – كما وضحنا.3. الفقر الشديد في الوعي الطبي لدى المرضى وذويهم، وأخذ معلوماتهم من مصادر سماعية (خبرات الأصدقاء، وسائل الإعلام، مواقع إنترنت غير متخصصة..) غير موثوقة.4. الارتفاع الشديد في تكاليف الجراحات وأجور الجراحين بشكل مبرر وغير مبرر. خاصة مع تهتُّك مظلة التأمين الحكومية، وتدهور حالة المستشفيات العامة، مما يُلجئ الكثيرين مضطرين للقطاع الخاص.5. المفاوضات المباشرة بين الأطباء والمرضى على التكاليف، مما يخل بهيبة الممارسة الطبية، ويذهب بالجزء الإنساني منها، ويحولها لمجرد صفقة تجارية، ومسألة ربح وخسارة.6. التوقعات غير المنطقية لدى المرضى وذويهم من الأطباء، وإلزامهم أن يكونوا ماديًا ومعنويًا ملائكة تحلق بأجنحتها ليل نهار، وتجيب أسئلة كل من هب ودب من أقارب المرضى وأصحابهم وجيرانهم ومعارفهم. وإغفال أنهم بشر، تتذبذب كفاءتهم العملية والذهنية والنفسية بين ساعة وأخرى. خاصة مع الضغوط العنيفة واضطرابات النوم.7. تخصص بعض المحامين من قضايا التعويض الطبي، لدرجة أن بعضهم يبث عيونًا في المشافي الكبرى لإبلاغهم بالحالات محل النزاع، فيتواصلون هم بذوي الحالة، ويشجعونهم على توكيلهم لمقاضاة الأطباء.


كارت أصفر

مع الوقت، واستمرار الاستهداف الممنهج للأطباء، يتفاقم إحساس لدى الطلاب أن امتهان الطب هو صفقة خاسرة خاصة في بلادنا، لا تتوازى منافعها مع ما يحرق على مذبحها من أعصاب ومجهود وأموال وهوايات واجتماعيات … الخ، ولذا فالمتوقع أن يزداد عزوف الكثيرين عن اختيار الطب ابتداء، وإن اختاروه، سيتنافسون على التخصصات الهادئة والأكاديمية البعيدة عن الاحتكاك المباشر مع المرضى وذويهم. ولن يبقى للجراحات والطوارئ إلا أعداد غير كافية، وأغلبهم من المضطرين المكتئبين المترددين. وسيدفع الكل أثمانًا باهظة لهذه الكارثة.