يومًا ما، شطَح أحد الكُتاب بخياله وخاض في أحلامٍ كانت تراودنا جميعًا بلا هوادة، عن ذاك الفتى المُختار الذي سيخرج من بين صفوف المصريين إلى برودة القارة العجوز. يقتحم أجواءها غريبة الطباع عنا ويُسطر لنفسه حكاية ولو بسيطة بين سطور تاريخها الواسعة، ومن ثم يعود ليرفع شأن حلمنا إلى حدودٍ تلامس السماء، حين يصل بمنتخب مصر إلى كأس العالم بعد طول انتظار. تحققت نبوءة «ياسين كامل»، مؤلف فيلم «العالمي»، بعد عقدٍ تقريبًا، ومَثل المُحترف المصري «محمد صلاح» دور بطل القصة بشكلٍ واقعي، ودوَّن اسم المحروسة بين صفوف المسافرين إلى روسيا بعد هدفٍ في الدقائق الأخيرة من المباراة.

دائمًا نتعجب حينما تتحقق النبوءات الدرامية في دنيا الواقع. كيف يمكن أن يصل خيال الكاتب إلى هذه الدقة في تصوير المستقبل البعيد؟ خاصة إن كان ذلك المستقبل بعيدًا حقًا وليس فقط بعدًا على مستوى الزمن ولا غيره. لاعب مصري مُحترف في أوروبا، يعود ليسجل الهدف الحاسم في الصعود نحو نهائيات المونديال قبل نهاية اللقاء بدقائق بسيطة جدًا. رؤية ياسين للقصة كانت تبدو خيالية بشكلٍ زائد، سيناريو أقرب لأفلام الأطفال التي لن تُدرك ذلك الفارق الرهيب بين ما يجري على أرض الواقع وبين ما يجول في خواطرهم البسيطة. لكن الغريب أن هذه المرة فاجأنا الواقع بسيناريو أكثر خيالية، فدعونا نُسجل تلك اللحظة التي ينتصر فيها الواقع بأحداثه على خيالات الأحلام.


معًا نجتاح الفضاء وما بعده

قبل أيامٍ قليلة، تمكن صلاح من تسجيل رباعية مُفرحة في مرمى ضيفهم واتفورد. أنارت تلك الأهداف ليلة السبت الماضي وأنارت معها حيواتٍ عدة داخل مصر وخارجها. وفي مساء اليوم التالي للمباراة، أعلن «جو ماكدونالد»، أحد مشجعي فريق ليفربول، أن ابنه الصغير قد قرر تغيير اسمه إلى «مو صلاح» تيمنًا بالأسطورة المصرية الحية في ملعب «أنفيلد»، وهو ما أبلغ به معلمته بالمدرسة. كما أنه لم يعد يرد على أي نداء يوجه له بالمنزل طالما لم يحمل الاسم الجديد الذي اختاره لنفسه ، وأنه لم يتوقف منذ انتهاء اللقاء عن ترديد الأغنية الشهيرة التي تمدح في الجناح المصري.

كل التعبيرات التي تلت مباراة ليفربول ضد واتفورد في الدوري الإنجليزي كانت تضج بحبٍ عارم لا تشوبه شائبة. أحدهم قال إنه أدرك كم الحظ الذي نتمتع به أجمعين؛ لأننا، من بين 4.5 بليون عام -هو عمر هذه الأرض-، نعيش في ذلك الزمن تحديدًا الذي يكتب فيه صلاح كل القصص حية، ونراها بأُم أعيننا. يوميًا ومع كل لقاء نتيقن بأن الأمر يخرج من بين طيات عقولنا إلى حدٍ لا يُمكن إدراكه، فيصير الواقع خيالًا ويتحول الخيال إلى ملموس بين أيدينا، حتى أولئك الأطفال باتوا يعيشون الواقع نفسه -بذات عقولهم البسيطة- دون معاناة الصدمة من الفروق بين العالمين.

في بداية الموسم الحالي، نشر الكاتب الإنجليزي «بارني روناي»مقالًا يتخيل فيه ما يُنتظر خلال الموسم في الدوري الإنجليزي الممتاز. انتقد بارني بين سطوره المبلغ الذي دُفع من قبل إدارة الريدز من أجل انتداب جناح نادي روما، حيث ارتأى أن 35 مليون باوند مبلغ مبالغ فيه، وأن «مو» لا يستحق قيمته بالمرة. الآن وقبل انتهاء المسابقة بـ7 جولات فقط، ينشر الكاتب نفسه مقالًا ليعتذر فيه عما قاله سلفًا ويعترف بخطئه في تقييم مستوى الوافد الجديد إلى «ميلوود».

إن حاولنا معالجة المشهد من خلال رؤية أبعد، سنجد أن ناشئ المقاولين يحقق أرقامًا كبيرة وصادمة على المستوى العالمي وليس فقط على المستوى المُبهر للمتابع المصري الذي كان يظن من فتراتٍ قريبة أن أحلامه لن تتخطى حاجزًا مُعينًأ. بعد مشاهدة أحداث «العالمي»، كنا نظن -كمصريين- أن قصة «مالك الخليلي»، بطل رواية الفيلم، أقرب إلى الفضاء منها إلى الأرض، في حين أننا الآن نحيا لحظات يتخطى فيها صلاح ما هو خيالي وصولًا إلى اللا منطق. يخترق حدود السماء ويُحلق في الفضاء الذي كُنا نحسبه أبعد من أن تطاله أعيننا.

هناك دائمًا شخص ما متفائل يتوسط كل مجموعة على هذه البسيطة. يتوقع الأفضل ويضع الأمور في نصاب مثالي إلى حد لا يُمكن تصديقه، لكن كل الحقائق الآن تُشير إلى أن حتى ذلك الشخص لم يكن ليتوقع أن يصل الفاشل بين صفوف تشيلسي إلى ذلك التوحش بقميص ليفربول. من كان يظن أن صلاح قادر على زحزحة «هاري كين» من عرش صدارة هدافي الدوري الإنجليزي، ثم ينازع ميسي ورونالدو على عروشهم التهديفية عالميًا؟ الأمر فاق إبهار المُشجع العادي ووصل إلى إدهاش «يورجن كلوب» نفسه، الذي أكد أنه تفاجأ بذلك المستوى الذي وصل إليه لاعبه عندما تم التعاقد معه، مؤكدًا أنه تحول فجأة إلى «ماكينة أهداف».


إشعاع صلاح

توصل العلماء إلى نظرية «الانفجار الأعظم – The Big Bang» ومنه فُسر أغلب ما يدور داخل ذلك الكون الفسيح. الأمر ببساطة أنه من هنا بدأ كل شيء. إنه ذلك الحدث الذي تسبب في ولادة كل وحدة تراها عيناك الآن، ومن خلاله تنطلق أغلب العمليات الكونية التي نحيا وتستمر دوراتنا الحياتية بفضلها. من هنا عرفنا معنى «فانتازي بريمييرليج»، وباتت أسماء الفرق الإنجليزية ولاعبيها ليست غريبة على مسامعنا. صار خبر إصابة «هاري كين» يحمل أصداء صحفية داخل الشوارع المصرية أكبر من خبر الانتخابات الرئاسية. نرى الآن اهتمامًا بالغًا بموسم انتقالات ريال مدريد. الأنظار كلها تتجه نحو جائزة الحذاء الذهبي والنقاشات تدور حول اليوم الذي سيعتلي فيه صلاح منصة التتويج بجانب كريستيانو وليونيل في حفل الفيفا السنوي. كل هذا حدث لأن ببساطة صلاح هو الانفجار الكروي الأعظم في تاريخ هذه الدولة.

تصورنا للعالم تغيّر بشكلٍ كبير خلال الموسم الجاري، كل الفضل في ذلك يعود إلى ذلك البشوش الهادئ قليل الكلام. قبل سنوات كنا نضع المُعتزل «أحمد حسام» الشهير بـ«ميدو» كأفضل مثالٍ على الاحتراف. لأننا خلال هذه السنوات كنا نعرف عن الاحتراف معنى غير الذي نُدركه الآن. نظن فقط أن الأمور تتوقف عند حد الوصول إلى نادٍ يقارع في دوري الكبار، فيكفينا شرفًا مشاهدة ميدو يُسجل في مرمى برشلونة وهو لاعب لأياكس، أو يشارك مع سيلتا فيجو في مواجهة ضد ريال مدريد، هذا هو الإنجاز وليس سواه، لكن صلاح نسف ذلك الإنجاز نسفًا.

تطورت الأمور شيئًا فشيئًا. الرحلة باتت لا تُحكى من مواضعها المُعتادة: من فيرونتينا ثم بازل فتشيلسي و.. إلخ. لكننا الآن نروي قصة جديدة رُسمت خلال الموسم الجاري وحده، بدأت بالانفجار العظيم داخل «فيكاريدج رود» ضد واتفورد بهدف وحيد، وتوّجت برباعية عظيمة ضد واتفورد أيضًا داخل أنفيلد، تلك الأخيرة انطلق منها «إشعاع صلاح» الذي نفى بالقطع ما كنا نحسبه مؤكدًا. هناك فرصة عظيمة للنجاح في الخارج، ليس بالضرورة أن ينتهي بك الأمر مثل الآخرين.

الرحلة حتى الوصول إلى الأنفيلد كانت طبيعية. أغلب الطيور المهاجرة من مصر قد مرت عليها بدلًا من المرة الواحدة عشرات. فرق صغيرة وكبيرة وتقلبات في المسيرة، ارتفاع ملحوظ في منحنى الأداء.. ثم؟ فشل ينازع فشلاً، وأخيرًا خفوت في النجم يقضي بالعودة إلى المحروسة من أجل إنهاء المسيرة في أحد أندية القمة بمصر. يندثر ذلك النجم تمامًا ليحتال إلى ثقبٍ أسود. من ميدو إلى محمد زيدان، محمد شوقي، عصام الحضري وغيرهم الكثير. تعريف الاحتراف كثقبٍ أسود في فضاء الأحلام، ينتهي عنده كل شيء، حتى الضوء الذي لا يقدر عليه قادر في تلك المجرة، كان هو الأكثر منطقية، حتى ظهر «ستيفن هوكينج» أو صلاح، كلاهما أكد أن فعليًا «لا توجد ثقوب سوداء».

اقرأ أيضًا:هوكينج: الخروج من الثقب الأسود ممكن!

من ضمن إنجازات «هوكينج»، عالم الفيزياء النظرية الراحل عن عالمنا قبل أيامٍ قليلة، كان نشر ورقة علمية تؤكد أن الثقوب السوداء، بمعناها وخصائصها الدارجة عند الأغلبية، غير موجودة فعلًا. المعروف سلفًا عن ذلك الحدث الكوني هو أنه الموضع الذي ينتهي عنده كل ما يُمكن حتى الضوء. «ستيفن» عدّل تلك النظرية وأثبت أن هناك إشعاعات تمر من خلال ذلك الثقب الأسود، وهنا سُمي ذلك الإشعاع باسم «إشعاع هوكينج». الآن دعونا نُطلق على ذلك الضوء الذي كسر كل هالاتنا الاحترافية، ومحا ما كنا نعرفه عن الثقب الأسود للخارجين من مصر اسم «إشعاع صلاح».


حتمية النهاية وفرضية الخلود

تذكر إذًا أن تنظر دائمًا إلى أعلى، إلى النجوم، وليس إلى موضع قدميك في الأسفل. حاول أن تفكر منطقيًا في ما تراه، وأن تتساءل عما يجعل الكون موجودًا. كُن فضوليًا، ومهما بدت الحياة صعبة، فهناك دائمًا أمرٌ ما يمكنك أن تنجح فيه. من المهم ألا تستسلم ببساطة. شكرًا لاستماعكم.
الجزء الأخير من الرسالة الأخيرة لـ«ستيفن هوكينج»

7 جولاتٍ فقط هي المدة المتبقية من عمر ذلك الموسم مجموعًا عليها ما يمكن أن يقضيه ليفربول داخل البطولة الأوروبية. المساحة المتروكة في عقولنا للحلم قد تضخمت جدًا خلال ما فات، وهي الآن أوسع مما يُمكن إدراكه أو حتى وصفه. الكثير منا ينتظر أن يحصل صلاح على لقب الهداف الإنجليزي وآخرون يتجهون بالحلم أبعد، نحو هداف الدوريات العالمية الكبرى، فوق ميسي ورونالدو، وهناك أيضًا البسطاء ممن يتمنوا فقط أن يستمر «مو» على نفس النهج الممتاز حتى كأس العالم، حتى بلوغ الحُلم الذي تحياه الملايين.

أنا شخصيًا من هؤلاء البسطاء، أتمنى أن يستمر أداؤه فقط مُدد أطول حتى كأس العالم وما بعده. لا أرغب في أن تنتهي القصة عند تلك النهاية. مؤمن بأن النهاية حتمية وأن كل النهايات ستكون حزينة مهما اكتست بالسعادة، الانتهاء ذاته من أي قصة مُفرحة فهو حدث حزين لا يُمكن الاحتفاء به. ما نرجوه الآن هو الحفاظ على ما يقدمه لاعبنا الغالي دون إصابات، الوصول إلى روسيا والعودة بالنتيجة المُقدرة لنا ومن ثم استمراره في الرحلة. وجود فصول أخرى للقصة سيجعلنا نعتقد بوجود فرضية تسمح لصلاح بالخلود في ذاكرة العالم.