كعادة كل تغيير وكعادة كل مخاض يراد بعده ميلاد دولة ومجتمع، وميلاد قيم وأخلاق وميلاد فجر جديد بعد كل ظلمة وبعد كل سُبات، كالعادة لابد من عقبات ولابد من مشاق، ولابد للثوار أن يدركوا غايتهم جيداً، وألا ينجروا نحو الترهات الصغيرة التي يحاول الطغاة بثها في الثوار، مرة بتصنيفهم لجهة ما، ومرة بإطلاق الشائعات لتحويل مسار الثورة التي تتجه صوب الحرية والكرامة وحقوق الشعب كله دون تمييز.وما دام هناك ميلاد قيم فلابد من فخاخ، ولابد من شوك على الطريق، فالثورة عامل ضخم في التغيير، وإعداد الثوار لأنفسهم بالوعي قبل كل شيء، هو أول الواجبات، وأول الأسلحة التي تتحصن بها الثورة من الوقوع في غياهب الحفر التي يعدها الحكام الطواغيت.وفي نموذجنا الحالي الذين سمي بالربيع العربي، والذي جاء بعد شتاء طويل خيم على هذه المنطقة الإسلامية والعربية منذ زمن، حدث أن وقع الثوار في فخاخ الطواغيت، فالطغيان لا يذهب إلا أن يجعل الدول تعج بالفوضى فهو يحاول بقدر الإمكان أن يرفـع ثمن الحرية بنشر الفوضى ولكنه بعد صراع طويل سيذهب غير مأسوف عليه، وكما يقول الكواكبي «إن فناء دولة الاستبداد كفيل في مصنع فخار، تضرب وتخرب لتغادر وتزول»، فلابد إذن للشعوب من وعي يقود ركبها ليعبر بها لبر الأمان ولشاطئ الحرية والديمقراطية لتبني دولتها في ظل السلم والحرية والدستور والقانون لا الأفراد أو الأحزاب، فكونوا معي لمحاولة تلخيص واجب الثوار وهدف الثورة وفخاخ الطغيان المنصوبة للثوار.


هدف الثورة وغاياتها

لا تسمى الثورة ثورة إلا إذا كانت لها أهداف واضحة وغايات جلية من أجلها يضحي الثوار وفي سبيلها يبذلون دماءهم وأموالهم

لا تسمى الثورة ثورة إلا إذا كانت لها أهداف واضحة وغايات جلية من أجلها يضحي الثوار وفي سبيلها يبذلون دماءهم وأموالهم، وقد تكون أولى تلك الغايات خاصة في نموذج الربيع العربي هي التحرر الكامل من عقدة الاستبداد والتوجه لله تعالى وحده بالخضوع والتذلل، ثم العامل الواقعي الذي قامت من أجله الثورة، وهو الحياة الكريمة الشريفة كما أراد الله تعالى، والحرية للناس جميعاً في اختيار أفكارهم وآرائهم دون تسلط أو استبداد فالحرية هي أساس كل بناء، وما سقط واقع الأمة إلا بكبت الحريات التي في ظلها تتفتح الأفق ويبدع الناس، بعكس الكبت الصانع للنفاق والمكرس للفشل النهضوي والحضاري، ومن هنا فإن الثورة لها هدف تتجه صوبه، وهو رد المظالم ودفع الظلم وبتره من الدولة والمجتمع حتى يغدو الشيمة الذميمة كما هو في الفطرة البشرية.إن هذه الشعوب العربية والإسلامية تعيش عهدًا جديدًا تعيد من خلاله ترتيب ذاتها لتتسلم قيادة البشرية، وأولى عقباتها في هذا الطريق هي النظم الاستبدادية والباطشة بإرادة الشعوب والحاجزة لها عن أن تبدع وتنهض بموجب الكبت والديكتاتورية، والاستبداد والتخلف حليفان مؤتلفان أينما وجد أحدهما فالآخر بجواره مباشرة، والحرية والنهضة أخوان ملتقيان أينما وجد أحدهما وجد الآخر بجواره، وهذه المعادلة واضحة كل الوضوح، والنهضة الثقافية والفكرية والاقتصادية مربوطة بالنظام الذي يحكم البلاد ويدير الأمة، فالثورة بلا غاية ولا هدف ولا فكرة لا تسمى ثورة بل هي فوضى، فالثورة لابد لها من دافع ولابد لها من فكر وغاية، وكما عبر عن ذلك المبدع محمد المختار الشنقيطي قائلاً : «من غير خميرة فكرية وأخلاقية ناضجة لا تنجح الثورة أصلاً، بل تتحول إلى حرب عدمية، وإن هي نجحت في معركة الهدم، فإنها تفشل في معركة البناء».فنجاح الثورة رهين بوعيها وقدرتها على مقاومة حجج الطغيان وفخاخه وأوتاره التي يلعب عليها ليجهض الثورة ويحولها لفوضى، فبقدر وعي الثوار وعدم انجرارهم لترهات النظام الديكتاتوري يكون صمودهم وقربهم لبلوغ غايتهم وهدفهم.


فخ الصراع الأيديولوجي في الثورة

إن واحدة من الفخاخ التي تُبقي على الاستبداد هو صناعته لصراع أيديولوجي بين الثوار فتارة يصفهم بالجماعة الفلانية وأخرى بتلك وأخرى بالصراع الطائفي أو المذهبي أو القبلي وتارة بالمؤامرة، وكأن الطغيان هو الحفيظ على دين الأمة، كما قال فرعون لقومه: «إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد»، حسب ما يتوفر لدى الطغيان من الوتر المناسب ليزج به الثوار، إن قل إدراكهم ووعيهم في متاهة الصراع العدمي، فالثورة لابد من أن يتوفر لديها القدر الكافي من المرونة التي تستوعب الجميع ولابد من إبعاد الصراع الأيديولوجي جانباً أثناء المعركة مع الاستبداد، فلا ينظر الثوار إلا صوب الحرية وإقامة العدل بين الناس وتكريس المعاني والقيم السامية التي تسمو فوق الصراعات الإيديولوجية والتي يمكن إكمالها بكل راحة وارتياح في ظل نظام يحترم التنوع الإيديولوجي والفكري والديني، وما دام الاستبداد موجوداً فلا تتصارعوا أيها الثوار إلا معه هو، ودعوا اختلافكم الفكري جانباً والتقوا به في خيمة الحرية التي تشقون الطريق إليها لتجلسوا وتناقشوا أفكاركم، فحينها لن يقتحم عليكم الخيمة مستبد ولا عبد من خدامه.إن الصراع الإيديولوجي في ظل الثورة وخلق العبارات مثل «ومن الذي سيأتي بعد إسقاط النظام الظالم»، هو أحد الملاعب التي يتخذها الطغيان لبث الفتنة بين الثوار ومحاولة خلق الفوضى والهمجية لينعم هو آمناً، ولكن هيهات هيهات فالوعي في الشعوب بعد اليوم لن يخذلها وستقتلع هذه الأمة من الجذور الاستبداد وتزرع الحرية بسقيا دماء الشهداء والأحرار.إننا لا نجاهد الظلم لأن له فكرة أو لأن له مذهباً أو لأن له إيديولوجيا بل لأنه ظلم، فديننا والحمد لله لا يأمرنا بمواجهة الأفكار والمذاهب بالسيف، ولكن نواجه الاستبداد لأنه ظلم، ولا يجب أن نرفع شعارًا ضد أي فكرة نظرية في ظل ثورة ضد مستبد، بل يجب أن يكون شعار الثوار رفع الظلم وإرجاع المظالم، فهي ليست حرباً اعتقادية حتى يدعي الإسلاميون نسبتها إليهم أو الشيوعيون أو غيرهما من أي فكرة أخرى، هي ثورة شعبية ضد ظلم وليس لإجهاض فكرة بالقوة بل لإجهاض قوة بقوة، فالفكر له ميادينه وله معاركه المختلفة تمامًا عن معركة الجهاد ضد الظلم، فالصراع الفكري مرتبط بالسلم، فالثورة لا تريد أن تستأصل فكرة نظرية كان يتبناها المستبدون أو كانوا يتاجرون باسمها أو كانوا يختبئون خلفها، بل تريد أن تستأصل فقط استبدادهم وظلمهم، ومتى ما توفر جو الحرية فبإمكان الحاكم الذي كان ظالماً ثم أزالته الثورة، أن يطرح فكرته بسلم كما تطرح الأفكار الأخرى بعد توفر الجو الدستوري والقانوني، فليس في الحرية إقصاء لفكر بل فيها إقصاء لظلم.


فـخ الإعــلام وتوجيــه الجماهير

لابد من أن يتوفر للثورة القدر الكافي من المرونة التي تستوعب الجميع ولابد من إبعاد الصراع الأيديولوجي جانباً أثناء المعركة مع الاستبداد

الإعلام وما أدراك ما الإعلام! والإعلام بات المنصة الأولى والفاعلة في توجيه مفاهيم الجماهير ومحاولة ضرب حراكها وتقويضه، ورأينا ذلك في ثورات الربيع العربي، حيث رأينا كيف استطاع الإعلام أن يوجه الرأي العام، ولابد للثوار من إدراك لهذه القضية ولابد للنخب المثقفة أن تقود الحراك الثوري الجماهيري بتثبيت دعائم الثورة وأهدافها وإبعادها تمامًا عن الصراع الإيديولوجي والتركيز الأكبر على أن هذه المعركة، إنما هي لإزالة الظلم عن كاهل الشعب واسترداد المظالم وإقامة دولة الحرية والكرامة، ودولة الدستور والقانون بعيداً عن أدلجة الصراع ومحاولة تقويضه، لأن الاستبداد يحاول جاهداً بوسائله الإعلامية وأذرعه أن يصرف الشعب عن قضيته الأساسية فتارة يتهم الحراك بأنه لجهة ما، إما يسارية أو متطرفة أو غيرها من المسميات التي يحاول أن يضرب بها الحراك، فالواجب على الثورة أن تقودها نخبة واعية تدير دفة الإعلام وأن تكون تنسيقيات على الأرض لتدير الحراك الإعلامي ومصارعة إعلام الاستبداد، فهذه معركة إعلامية لها كبير الأثر على نجاح الثورة.

فهذه القضايا وغيرها مما لم نستطع الإحاطة به هي معالم على طريق الثورة وفيها فخاخ نحذر من الوقوع فيها، والضمان هو التمسك بالإرادة الجماهيرية وبالوعي والثبات في طريق الحرية الشاق، هذا والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.