لكأن للبؤس شجرة، تضرب بجذورها في أرواحنا، تتغذى على أيامنا وتمتص حيويتنا وآمالنا، ثم تطرح ثمارها من حسك وشوك نلوكها مرغمين، فلا مفر من قدرنا المرسوم.
من رواية «شجرة البؤس».

يُورِد «أروين آدمان» في كتابه «الفنون والإنسان» فلسفته الخاصة عن العمل القصصي، فيقول إن الكاتب يخلق عالمًا يُشبه العالم الذي نحيا فيه بالفعل، إلّا أن العالم المُختلق في ثنايا الأعمال القصصية والروائية يُعطينا براحًا وحريةً أكبر من حيواتِنا الخاصة، كوننا نُشارك في مصائر شخصيات الرواية، ونتأثر بأقدارهم ونتألم لمآسيهم، دون أن ندفع ضريبة ذلك من حياتنا الخاصة، وكأننا نعيش في ساحتين من العالم منفصلتين كُليًا.

تُعطينا الحكايات شعورًا بالانتصار والتحقق لو شعر بطلنا بذلك، وتُلقينا في كنف الحزن والتداعي لو لحق ذلك به. ومن ثمّ نعيش تلك التجربة ونتفاعل معها ونختبر تلك المشاعر التي ربّما لا تسعنا الحياة الواقعية لاختبارها. وهنا يصبح العمل الروائي بمثابة نافذة على عالمٍ أبرح يتماشى إلى حدٍ كبير مع عالمنا الخاص، كوننا بشرًا تتشابه حكاياتُنا ومشاعرنا وأحلامنا بالتأكيد مع كاتب العمل الروائي، وبالتالي نرى أنفسنا في تلك الشخوص التي يَحكي عنها ويتحدث عن تجربتها.

ولم تكن رواية شجرة البؤس استثناءً من تلك الفلسفة الجمالية، فقد نسج «طه حسين» عالمًا ذاتيًا ينتمي إلى أحد الأقاليم الريفية في مصر، في فترة أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ورغم أن القارئ ربّما ينتمي مكانًا وزمانًا إلى عالمٍ مُغاير عن العالم الذي تقع فيه الأحداث، فإن شخوص الرواية ومصائرهم نافذة وعابرة حدود الأمكنة والأزمان؛ حيث يتحدث طه حسين هُنا وبشكل خاص عن الإنسان في حد ذاته وصراعاته مع نفسه ومع غيره، عن تطلعه إلى السعادة وخوفه من المستقبل الغامض، عن شعوره بقلة النصيب وبؤسه المزمن، وعن فرحته بأبسط الأمور وتوقه إلى الراحة النفسية والحياتية.

كل ذلك في قالبٍ شديد الخصوصية ينتمي إلى مجتمع له مفرداته وعاداته وتقاليده لكن مشاعر وصراعات أشخاصه لا تنتمي سوى إلى الإنسان بالصورة الجمعية.

تبدأ الرواية بحديث الصديقين علي وعبد الرحمن عن زواج خالد ابن علي بنفيسة ابنة عبد الرحمن. منذ البداية نلحظ الصداقة الوطيدة بين الرجلين حيث كان علي تاجرًا كبيرًا في الإقليم، وكذلك عبد الرحمن له تجارته الواسعة في القاهرة، وهناك تجارة مشتركة بين الاثنين، فكان عبد الرحمن يأتي مرارًا إلى الإقليم لتسويق بضاعته، وهناك ينزل ضيفًا في بيت علي يتحدثان في كثيرٍ من الأمور ويتشاركان النصائح والمشاكل اليومية. لذا كان من الطبيعي أن يرغب الاثنان في أن يتصاهرا، بخاصة وأن ذلك يضمن ألا تذهب ثروة الرجلين للغريب.

ولم يكن ذلك هو المَعْلم الوحيد في الرواية لفرض الآباء إرادتهم على أبنائهم ورغبتهم في تحديد مصيرهم، بمعزلٍ عما يشعر به الابن وأن رغبته ربّما تخالف إرادة ورغبة والده. نرى نزعة الآباء ليُنشّئوا أبناءهم كما نشّأهم آباؤهم غير عابئين بأن الزمن يتغير وأن لكل زمن مفرداته وأحكامه؛ فنجد علي قد حرّم على ابنه خالد أن يتعلّم في المدارس النظامية بل أرسله إلى الكُتّاب كما أرسله أبوه قبل ذلك. والآن نجده يرغب في تزويجه من أجل أن يضمن الحفاظ على ثروته.

وأمّا خالد فكأنه قد اعتاد أن يتم انقياده وأصبح منزوع الرأي والرغبة، وإنما يقول سمعًا وطاعًا لشيخ القرية في كل ما يأمره به. فكان من الطبيعي أن يوافق خالد على ذلك الزواج بعدما باركه الشيخ ويمضي فيه رغم أن نفيسة عروسه لم تكن تتمتع بالجمال الذي عادةً ما يستهوي الشباب في سنّه. لكنه أقر الزواج وعاشر نفيسة بالمعروف وأنجب منها فتاتين هما سميحة وجلنار؛ فأمّا سميحة فكانت طفلة شديدة الجمال، وأمّا جلنار فكانت تفتقر إلى جمال الأطفال شأنها شأن أمِها نفيسة.

بين خالد وفولتير: هل يجعلنا الوعي تعساء حقًا؟

يتحدث فولتير في قصته «الحكيم والمرأة العجوز» عن فكرة ظلّت تؤرّق الفلاسفة مليًا؛ هل يمكن أن يكون الوعي والإدراك رواقًا إلى الشقاء والتعاسة بينما غياب الوعي- بأمرٍ ما- من شأنه أن يجعل صاحبه سعيدًا هانئًا؟

يختبر خالد ذلك التساؤل حينما تُولد ابنته سميحة بجمالها الأخّاذ، فنجد خالد الذي كان يحسن معاملة نفيسة ولا يلتفت مُطلقًا إلى ملامحها تتغيّر طباعه تجاه زوجته ويُؤلمها بكلماته التي تنال من شكلها الذي لا يد لها فيه. وكأن جمال تلك الطفلة جعل خالد يبصر شيئًا كان سعيدًا ومرتاحًا لولا إبصاره له.

تسوء حالة نفيسة بسبب مضايقات خالد المتكررة حتى يُصيبها مسٌ من الجنون، فيطلب عبد الرحمن من زوج ابنته أن تستقر نفيسة وبناتُها في بيت أبيها بالقاهرة علّها تستعيد عافيتها وسلامها النفسي. يوافق خالد ويظل وحيدًا في الإقليم يُعاتِب نفسه وتغمره مرارة الذنب لما ألمّه بامرأته التي لم تُسء يومًا معاملته. ويظل خالد يتألم كلما رأى ما آلت إليه زوجته من الغم والتداعي إلى أن تُنسيه شواغل الحياة أو تُناسيه، وتمر السنوات حتى يتزوج بامرأةٍ أخرى تُدعى منى، هي ابنة مسعود أحد تجّار الإقليم.

أن تصبح المدينة بطلًا للرواية

ليس ثمةَ شخصية من شخوص الرواية من الممكن أن نسميها بطلَ الرواية. بينما يصبح الإقليم في حد ذاته له الدور الأهم في سردية طه حسين. تروح شخصياتٌ وتموت وتتكشف شخصياتٌ أخرى، كل ذلك في الفضاء المكاني الذي يُشبه خشبة المسرح، حيث تتبدّى لنا الشخصيات فوقها وتتراءى لنا نزاعاتهم ومشاعرهم، ومن ثمّ يروحون تاركين تلك الساحة لأناس غيرهم.

ألا يُشبه ذلك الحياة؟! نحيا ونختبر عديدًا من الأحاسيس والتجارب، ثم نرحل مُخلِّفين الأثر لمن هم غيرنا؟ هذا بالضبط ما صنعه طه حسين، ناسجًا مسرح الحياة الخاص به، يتحكم في منْ يرحل ومنْ يبقى. يُذكِّرني ذلك بأفلام المخرج الفلسطيني «إيليا سليمان»، حيث تُصبح المدينة هي البطل وهي الشخصية الأهم في أعماله السينمائية.

في تلك الحياة المنسوجة نرى عدةَ أجيالٍ متعاقبة؛ بدءًا من علي وعبد الرحمن اللذين تحدثنا عنهما مُسبقًا، وخالد وسليم ابن عمه الذي كفله علي بعد موت والديه وأصبح يُربّيه رفقة ابنه خالد، بل كان يطلب من خالد أن يناديه بأخيه. ونرى جيل الأبناء المتمثل في سميحة وجلنار أبناء خالد من زوجته نفيسة، وكذلك باقي أبنائه من زوجته منى. ونرى سالم ابن سليم من زوجته زبيدة.

لكل شخصية من هؤلاء شواغلها وفلسفتها الخاصة عن الحياة. فمثلًا يرى سليم أن المدارس لم تُوجد لأبناء الفلاحين وهو ما يوافقه فيه الجيل الأكبر كأمثال علي وعبد الرحمن. بينما يرى خالد الذي حرمه أبوه من ارتياد المدارس أنه لا فرق بين بني البشر، ومن ثمّ ألحق أبناءه من زوجته منى بالمدارس التي يرتادها أبناء الموظفين، وكأنه يُريد أن يرى في أولاده ما حُرِم هو منه، لدرجة أنه كان يبيع بعض أثاث البيت وأمتعته ليوفّر نفقات دراستهم.

يمثل ذلك الموقف تحررَ خالد من ذلك الزمام الانقيادي الذي فرضه عليه أبوه من قبل. نجده مع توالي الأحداث يكتسب رؤيته الخاصة عن الحياة غير تلك الرؤية التي تربّى عليها. ونراه يعي حقيقة أن أبناءه خُلقوا لزمانٍ غير زمانه وعليه أن يواكب ذلك التغير بإرسالهم للتعليم في المدارس التي حُرّمت عليه.

«هذه الشخصيات حقيقية جدًا»

كان ذلك تعليق أحد النقّاد على أحد أفلام المخرج الإيراني «أصغر فرهادي». وأود أن استعير نفس الجملة للحديث عن شخوص الرواية التي أشعر بالفعل أني رأيتها من قبل. لا يوجد شخصية شريرة وكذلك لا يوجد شخصية مثالية. بينما تأتي كافة الشخصيات في تلك المنطقة الرمادية التي ينتمي إليها أغلب بني الإنسان.

فمثلًا أحببت في علي وفاءه لزوجته ووصيته أن يموتَ في تلك الحجرة التي ماتت بها، لكن لم أحب فيه كثرة زواجه بعد وفاة أم خالد وما نتج عن ذلك من تبديد ثروته بين تلك الزيجات والأبناء.

أحببت في مسعود رقّة قلبه وقُرب دمعاته، لكن لم أحب فيه افتقاره للطموح ورغبته في أن يظل شخصًا أُميًا. مقتُ خالد بسبب ما أوصل نفيسة إليه وكذلك إهماله لها ولبنتيها بعدما ذهبْن للعيش في القاهرة، لكن صالحني أنه ضمّهن إليه بعد وفاة عبد الرحمن وما شغله عنهن سوى مُلهيات الحياة والركض وراء الرزق.

وهكذا تأتي كل الشخصيات بمزيج من الخير والطلاح في واقعيةٍ حقيقية تُشبه جوهر الإنسان.

قلمٌ يتحاشى الألم والتداعي

تعجّ الرواية بالأحداث الدرامية لكن ربّما يعتبر الخط الدرامي المتعلق بنفيسة وبنتيها سميحة وجلنار هو الأكثر بؤسًا وألمًا؛ فبعد وفاة عبد الرحمن وانتقالهن للعيش في بيت خالد لم تَسِر الأمور على ما يُرام، فنفيسة اشتد عليها التعب النفسي والعقلي وأصبحت لا تقدر حتى أن تتعرف على ابنتيها، وأمّا سميحة فقد تزوّجت برجلٍ مسن له عدة أولاد من زوجته المتوفاة ولم يشفع لسميحة جمالها لتحظى بحياةٍ هانئة، فقد كانت تفقد جنينها كلما حملت فآلمها الفقد والثكالة وانكبّت في ألمٍ نفسي. وأمّا جلنار فقد حُرمت من ثروة أبيها الذي أنفق أغلبها على أخوتها الذكور، فضلًا عن أنها أصبحت أقرب ما يكون بالخادمة، فكانت مُنى زوجة خالد تعتمد عليها كُليًا في القيام بأعمال البيت.

في فيلمه «سائق التاكسي» وأثناء حديث «ترافيس بيكل» الشخصية الرئيسية مع حبيبته وهو يقوم باسترضائها للخروج معه مرة أخرى، نجد المخرج «مارتن سكورسيزي» يقوم بإبعاد الكاميرا عن بطله، حيث لا نراه بينما نسمع صوته فقط. يقول سكورسيزي عن ذلك المشهد أن ترافيس كان في حالةٍ من الانهيار والتداعي مما جعله لا يريد أن يراه المشاهد على تلك الحالة من الانكسار.

في إحدى محطات الرواية يصنع طه حسين بقلمه موقفًا مماثلًا. وكان ذلك في قدوم سالم إلى بيت خالد من أجل خطبة إحدى بناته، وكان من المتعارف عليه في العائلة أن خالد وسليم قد خطبا جلنار إلى سالم منذ أن كانا طفلين وظلت جلنار تُمنّي نفسها بتلك الخطبة، وكلما مرّت السنوات يزداد حبها لسالم وتعلقها به. لكن تتفاجأ الفتاة أنه أتى لخطبة أختها من أبيها. هنا معترك أدبي لطه حسين الذي يُتقن الحديث عن دواخل شخصياته وانكساراتِها، لكن نجده يتحدث عن مشاعر جلنار بعد ذلك الموقف باقتضابٍ واضح، وكأنه يختلس الكلمات للتعبير عن ألمها الذي بكل تأكيد لو أفرد له سطورًا لأبكانا جميعًا من قسوة أن يفقد الإنسان حلمًا ظل يراوده طويلًا.

كان موقف طه حسين هُنا أشبه برؤية مارتن سكورسيزي؛ فكلاهما وجدا بطليهما يتداعيان، فشعرا بالرأفة أو الحياء من الإسهاب في سرد ذلك الألم، وآثرا أن يتركاهما بعيدًا عن أعيننا كي لا يتأذّان أكثر مما هما عليه.

عالمٌ ينصهر ويتركك وحيدًا

يزداد الإقليم وحشةً مع تقدم الأحداث والسنين والأجيال. يموت أبطالنا واحدًا تلو الآخر، ويظل ذلك العالم الرحب المليء بالحكايات والأزواج والزوجات والبنين يضيق ويضمحل. يموت الجيل الأكبر ويقرر الجيل الجديد الرحيل إلى القاهرة حيث يبصرون حياة جديدة، ويظل جيل خالد وسليم يتحدث عن الحياة وما تغرينا به.

نتساءل هل كان خالد مُحقًا حين أرسل أبناءه إلى المدرسة؟ هل لو كان فعل معهم مثلما فعل معه أبيه وأذهبهم إلى الكُتّاب سيكونون بجواره الآن يحملون عنه تجارته ويملؤون عليه الدار؟

في نهاية مضمار الحياة نفقد الرغبة في المال أو الرزق وتعدو جُلّ أمانينا هي وجود ونسٍ وأنيسٍ يشاطرنا أيامنا الأخيرة.

يُسدل الستار بموت خالد، وتجف بعده خشبة مسرح طه حسين من شخوصها، وتترك القارئ وحيدًا بعدما ارتبط بشكلٍ وثيق بذلك العالم المنسوج، وأصبح يرى نفسه جزءًا منه. لكن تلك الوحشة لا تدوم طويلًا، فالحياة لا تنفك عن ذلك العالم الذي عشناه مع طه حسين في الإقليم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.