اختار «ترامب» أن يلقي خطابه من قلب مدينة وارسو، البولندية، التي شهدت عام 1944 انتفاضة فاشلة للشعب البولندي ضد الاحتلال الألماني النازي راح ضحيتها 20 ألف مواطن بولندي. ولا يخلو هذا الاختيار من رسالة ضمنية أراد ترامب أن يرسلها إلى طرفيّ الصراع؛ بولندا والاتحاد الأوروبي مُتمثلًا في ألمانيا. فمن جهة يُذكر الشعب البولندي بما لم ينسه يومًا من وقوعه تحت اضطهاد الألمان، ويُذكر ألمانيا بتاريخها المظلم في قهر البشرية وتدميرها. جاء هذا الخطاب ضمن جدول أعمال ترامب أثناء زيارته المُحيّرة لبولندا والتي جاءت قبل يومين من توجهه إلى ألمانيا للمشاركة في قمة العشرين. وموعد الزيارة إضافة إلى إصرار ترامب على إلقاء الخطاب من مدينة وارسو، أشعلا نيرانًا من الخوف والقلق في الداخل الأوروبي، خوفًا من أن يُذكي ترامب نار الفتنة بين بولندا والاتحاد الأوروبي، وهي المشتعلة أصلًا.ولهذا نجد قول جياني بيتيلا، زعيم الكتلة الاشتراكية داخل البرلمان الأوروبي، بخصوص هذه الزيارة أن ترامب قد استطاع في غضون عدة أسابيع من توليه الرئاسة أن ينسف اتفاقية باريس للمناخ، وعرّض العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو للخطر، وها هو الآن يجازف بتفجير الوضع الحساس والحرج في بولندا.

بولندا تعامل الاتحاد الأوروبي كسوبر ماركت
الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»

وعلى النقيض بث طمأنينة في الداخل البولندي؛ إذ يرى البولنديون الزيارة مباركةً أمريكية للنزعة الاستقلالية وخطاب الكراهية الذي تقوده بولندا. حتى أن جاروسلاو كاتشينسكى زعيم حزب العدالة الحاكم سمى الزيارة بـ«الانقلاب الدستوري»، ووصفها بالنجاح الذي يحسده عليه الاتحاد الأوروبي. ووفقًا لتصريح ماكماستر مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض فإن خطاب ترامب جاء من أجل الثناء على الشجاعة البولنديّة، ووجودها كقوة أوروبية حقيقية. وهو ما أكدّه وزير الداخلية البولندي إذ أكد أن هذه الزيارة تعكس تغيّر وضع بولندا في الخريطة الجيوسياسية العالمية.ولهذا تُعتبر الزيارة ناجحة حتى لو تمت دون خطابٍ أو اتفاقيات، فالحكومة البولندية تقرأ الزيارة على أنها تنسف كل محاولات الاتحاد الأوروبي للتلويح بعزل بولندا إذا لم تلتزم بقواعد الاتحاد وبأخلاقياته. ولكن الزيارة شهدت ناجحًا على مستوى آخر، فقد وقع وزير الدفاع البولندي أنتوني ماتشيريفيتش ا تفاقية تفاهم مع الرئيس الأمريكي تقوم الولايات المتحدة بموجبها بتسليم بولندا أحدث نسخة من صواريخ باتريوت بقيمة 8 مليارات دولار، وهي أكبر صفقة عسكرية في تاريخ بولندا.


بولندا: الشريك المُخالف

يُذكر أن بولندا لديها واحدة من أشد الحكومات اليمينية المتطرفة في أوروبا، والتي ترى أن الاتحاد الأوروبي يحاول عرقلة مسيرتها نحو التقدم. وقد سعى حزب العدالة الحاكم إلى الحد من استقلالية المحاكم وإخضاعها لسلطة الدولة، كما رفض القوانين التي تقبل بزواج المثليين، ولم يقبل قوانين الإجهاض. كما لم تقبل بولندا أي لاجيء سوريّ منذ بداية الأزمة، ورفضت الكوتة التي خصصها الاتحاد الأوروبيّ لدوله من اللاجئين السوريين. كما رفضت بولندا اتفاقية باريس للمناخ، حيث وجدت أن الانتقال من الفحم إلى الطاقة النظيفة أمر صعب، ودار سجالٌ طويل بين بولندا والاتحاد الأوروبي حول القوانين الخاصة بتقليل الاحتباس الحراري للكوكب.وازدادت حدة هذا الكره منذ شهر مضى، حين بدأ الاتحاد الأوروبي في اتخاذ إجراءات قضائية ضد بولندا والمجر وتشيك بسبب رفضهم استقبال لاجئين وفقًا للحصص التي حددها الاتحاد الأوروبي. وهو ما يعكس تشابهًا كبيرًا بين قيادة بولندا والولايات المُتحدة، ومما يعطي مؤشرًا قويًا أن قادة البلدين سيجدون في بعضهما البعض حليفًا متفهمًا يمكن الاعتماد عليه.و التصريح السابق لرئيسة الوزراء البولندية بياتا شيدلو، في مايو/آيار الماضي، تعليقًا على هجوم مدينة مانشيستر البريطانية، يُؤكد مدى عمق الكراهية التي تكنها الحكومة البولندية للاتحاد الأوروبي، وهو ما يقارب كره ترامب لتسلط الاتحاد الأوروبي وسياساته.وهذا أيضًا وجه آخر من أوجه التشابه الأمريكي البولندي؛ فلبولندا محاولاتٌ لتفتيت الاتحاد الأوروبي، منها مؤتمر البحار الثلاثة، وهو مؤتمر تعقده بولندا لدول وسط أوروبا ودول البلقان والبلطيق في محاولة لإيجاد سبل للتعاون وإنشاء قاعدة تجارية مشتركة خارج مظلة الاتحاد الأوروبي عامةً وألمانيا خاصةً.


ترامب على خطى جورج بوش

من خلال ما فعله ترامب في الخليج العربي، وما ستفعله زيارته الأخيرة إلى بولندا، يمكننا القول إن ترامب يتبع النهج الأمريكي الأصيل باستغلال الخلافات بين الشعوب من أجل تقويض ظهور قوة موحدة تجابه أستاذية الولايات المُتحدة للعالم.فمثلًا، عندما أرادت إدارة جورج بوش غزو العراق ولم تستطع الحصول على مباركة أوروبية كاملة، قامت الإدارة بصياغة مصطلح «أوروبا الجديدة» وذلك احتفالًا بالدول الثلاثة عشر التي أرسلت برقيات دعم إلى الولايات المتحدة وكان من ضمنها الدول الثلاث التي يقاضيها الاتحاد الأوربي اليوم؛ المجر، بولندا، وتشيك.وقد أدى ذلك التقسيم إلى إشعال نار الانقسام بداخل الاتحاد الأوروبي منذ ذلك الحين، ولم يزد الأمر إلا تعقيدًا. خاصةً وأن دولًا أخرى تدخلت لاستغلال الوضع مثل الصين التي أنشأت مجموعة 16+1 والتي تضم دول الاتحاد الأوروبي إضافة إلى دول من أوروبا الجديدة. وكذلك روسيا التي تدخلت بإمداد العديد من دول أوروبا الجديدة بالسلاح والعتاد العسكري لأجل تعميق ثقافة الخلاف الأوروبي.


الرئيس الطفل

النخبة المجنونة في الاتحاد الأوروبي تسعى إلى خلق وهم الحدود المفتوحة

اللافت أن السبب وراء تلك الزيارة يمكن أن يكون بسيطًا تمامًا، وهو أن ترامب أدرك أنه سيُقابل ببرود في العاصمة الألمانية، ووجد أن أفضل مكان سيحصل فيه على تصفيق حار واستقبال يليق به هو بولندا.وأن إحراق الاتحاد الأوروبي ليس سوى انتقام طفولي من ترامب للدول التي سخرت منه ومن سياساته. وما يدعم هذه الرؤية أن ترامب لم يحرص على اتباع البرتوكول الذي سلكه من قبله جميع الرؤساء الذين زاروا بولندا، وهو زيارة النصب التذكاري لضحايا الهولوكوست، واكتفى بإرسال ابنته إيفانكا التي تعتنق اليهودية تبعًا لديانة زوجها جاريد كوشنر، مما أغضب اليهود البولنديين بشدة، وأصدروا بيانًا يعلنون فيه أسفهم الشديد لعدم زيارة ترامب للنُصب على الرغم أن الخطاب كان على بعد كيلومترات قليلة منه.وهو ما أثار جدلًا في الشارع الأمريكي بخصوص ضرورة عزل ترامب قبل أن يتسبب في حرب عالمية ثالثة؛ فالطريقة التي يعالج بها ترامب الشئون الداخلية والخارجية غير واضحة المعالم حتى الآن، ولا تخرج من سياق العفوية والقرارات اللحظية كاختيار بولندا لتكون ثاني محطة خارجية له منذ توليه الرئاسة، والتي جاءت قبل لحظات من توجهه إلى ألمانيا. والأزمة الحالكة التي ورط الدول الخليجية فيها، وإفساد علاقة بلاده مع الاتحاد الأوروبي؛ لتبقى كل خطوة يخطوها ترامب إلى الأمام سببًا في إمكانية عزله مبكرًا، وخطرًا داهمًا على استقرار العالم.